دين ودنيا

السلفية مع الاختلاف والتعددية

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

السلفية مع الاختلاف والتعددية:

إنّ فقه وفهم سنن الله الكونية من أعظم أنواع الفقه والعلم، وإنّ من تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتغير، والتي يجب عقائديًا التسليم لها، والقبول بها، سنة التنوع والاختلاف، كما قال جل شأنه (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ …) واللام هنا للصّيرورة كما قال الرازي، أي من أجل أن يصيروا إلى الخلاف، وذلك على كلّ المستويات، منها الديني والعقائدي والفقهي والمذهبي، وهكذا، فهي إرادة الله عز وجل السابقة، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)) وقال أيضًا (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)) وقال أيضًا ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ (4) ) وهكذا… وعلى هذا يجب القبول به كسُنّة من سنن الله في الكون والخلق، واحترام إرادته وقدَره النافذ السابق، ولا يعارض ذلك أن المسلم يجب عليه أن ينصح ويدعو غيره إلى الخير والحق، بالحكمة والموعظة الحسنة، كما وجهنا القرآن الكريم ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ ).

والخلاف بين الناس باق ما بقيت الدنيا، فلا يمكن أبدًا أن يزول أو يحول، إلى قيام الناس لرب العالمين، بل إنّ أهل الدين الواحد يختلفون في مفاهيمه، ويتفقون في أخرى، يتفقون في النصوص القطعية، والإجماع القطعي الذي لا يشك فيه مسلم، وهي الدائرة الأضيق في الإسلام أي المسائل القليلة، من الثوابت التي لا يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان، وأما ما هو دون ذلك، فهو الدائرة الأوسع وهي دائرة المسائل الظنية التي يسوغ فيها الخلاف، حتى ولو كانت من أمور العقيدة فضلًا عن أن تكون من الأمور الفقهية، لأن من هؤلاء السلفيين من يعتقد أن مسائل الاعتقاد لا يجوز فيها الخلاف لأنها أصول الدين والأصول لا يجوز مخالفتها!! ولكن السؤال الذي نوجه لهم ماذا تعنون بالأصول؟؟ فكم من المسائل التي تعتبرونها من الأصول وهي من الفروع في هذا الباب!! مثلًا: مدلول نصوص صفات الله سبحانه وتعالى كما أسلفت في المقال السابق!! للعلماء ثلاثة مذاهب فيها وهم جميعًا على الحق، لأنهم قصدوا تعظيم الله عز وجل، والكلّ فهم النصوص من منطلق معيّن!! وكل له دليله وتعليله المنطقي، اللهم إلا من خالف أهل السنة والجماعة من الروافض وغلاة المتصوفة والباطنية والأحباش وغيرهم ممن شذ!

إذ كما قال الناظم:

وليس كل خلاف قد جاء معتبرًا * إلا خلافًا له حظ من النظر

فمثلا في المسائل الاعتقادية اختلف الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج، منهم من قال رآه بقلبه، ومنهم من قال رآه بعينه!! وهذه من مسائل العقيدة لكنها فرعية وليس من مسائل الأصول، واختلفوا فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده فقال الرجل الأنصاري: منا أمير ومنكم أمير وهذه مسألة تتوقف عليها مصلحة الأمة العامة، أما المسائل الفقهية فالخلاف بينهم فيها بالآلاف!! بلا مبالغة، ولكنهم تعاملوا مع هذا الخلاف بكل تلقائية وقبول وأدب، قال أنس بن مالك رضي الله عنه (كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافرنا منا المقصّر للصلاة ومنا المتم ومنا الصائم ومنا المفطر فلا ينكر هذا على هذا..) رواه البيهقي وله شاهد في صحيح مسلم.

ولا تكاد تجد مسألة فقهية إلا واختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحدد خلافهم طريقتان، طريقة التشديد وطريقة التيسير، ولذا يقال: هذه من شدائد بن عمر وهذه من رُخص بن عباس، وليس العيب أن يأخذ الإنسان بشدائد بن عمر إذا غلبت عليه نزعة الاحتياط، ولكن العيب أن يتنقص ممن يأخذ برخص بن عباس، ويطعن في دينه، ونيته ويصنفه ويشنع عليه!! أو أن يُلزم بذلك غيره، وهذا مخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، ولذا كان إذا صلى وحده أطال الصلاة، وإذا أمّ الناس خفف عليهم وقال (إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) رواه مسلم.

 فمثلًا ليس العيب أن تأخذ برأي أهل الحديث في الصفات، وتراه الأرجح إنما العيب في تضليل من خالفك واختار قول أهل التأويل أو التفويض، وفي المسائل العملية، ليس العيب أن ترى وجوب تغطية الوجه للمرأة ولكن العيب في أن ترمي من خالفك لو بالدليل والتعليل بأنه داعية تبرج أو ديوث!!

وليس العيب في ألا تمسّ من شعر لحيتك وترى أن الأرجح هو هذا الخيار، ولكن العيب أن تتهم من خالفك في ذلك ولو كان أيضًا له دليله وتعليله، فإذن الكل يختار ما يراه الراجح والمناسب لزمانه ومكانه، وظروفه وأحواله، ما دام أن الأصول متفق عليها، وهي أركان الإسلام والإيمان، وما هو محلّ للإجماع القطعي (لا الظني الذي يحكيه بعض أرباب المذاهب الفقهية).

ولكن إشكال السلفية (بألوانها الثلاثة العلمية والمدخلية والمتوحشة) تضيق صدورهم للمخالف، ولا يقبلون التنوع والخلاف، إلا من رحم الله، بل عندهم من الاستعلاء الفكري، وادعاء الصواب المُطلق، واحتكار الهداية والنجاة ما تشيب له الولدان!

ويا ليت الأمر يتوقف على ضيق صدورهم فقط، بل يتعدى إلى التصنيف بأنواعه كلها، فتارة يكفّرون المخالف، وتارة يفسقونه وتارة يبدعونه (ولي مقال سينزل إن شاء الله عن مفهوم البدعة في الفكر السلفي وتداعياته).

وعند هؤلاء قاموس مملوء بالعبارات والمصطلحات الجاهزة لكل من خالفهم، فينتقون منها ما شاءوا ليقذفوه بها من قبيل :ضالّ مُضلّ، محترق، أضل من اليهود والنصارى، أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، متلوّن، حربائي، إخواني زنديق، مميّع للدين، يكره السنة، عدو للموحدين، عدوّ للأخوة والأخوات، وهلم جرا ….

هذه هي الخطوة الأولى عندهم، وهي خطوة التصنيف!! وربما يصل الأمر إلى التكفير واستباحة الدم!! وما يحصل في ليبيا إلا دليل على ما أقول، فمن يقف مع المجرم حفتر أليسوا السلفيين بلونهم المدخلي؟؟

ومن يؤيد السفاح السيسي على سياسته الجائرة، من هدم المساجد واعتقال الأفاضل، وقتل المعارضين، وغيرها من البشاعات أليسوا أيضا السلفيين من اتباع حزب (النور) كما يروق لهم تسميته؟ ومن يؤيد بالفتاوى سياسة بن سلمان أليسوا علماء السلفيين بل هيئة كبار علمائهم؟؟

إن هذا الانحراف المنهجي، المتمثل في عدم التأدب بأدب الخلاف، ومعاداة كل من خالفهم، قد جرّ للأمة الويلات، ومن أعجب ما يصلني عنهم هنا في فرنسا، لا كثرهم الله، أنهم لا يكتفون بالتبديع والتضليل لمن خالفهم، لا، بل يهجرونه ولا يكلمونه ولا يسلمون عليه ولا يردون عليه السلام، ولا يتوقف الأمر ههنا، بل يحذرون منه، ويتواصلون فيما بينهم بذلك، ظانّين أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر! كما أن كثيرًا منهم على علاقة وطيدة بالدوائر الاستخباراتية، لأنهم في اعتقادهم يفضحون (المُحْدِث) متأولين قول النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله من آوى محدثًا) مع أن ذلك الشخص خالفهم في مسائل فرعية ولا علاقة له لا بالإرهاب ولا بالجرائم، وإنما هم للنكاية به والتشفي منه جعلوا منه إنسانًا خطيرًا!!

ووالله لقد بلغني في أكثر من حالة، أنهم تمكنوا من التفريق بين الأزواج وزوجاتهم، وذلك بتبديع الزوج أو تفسيقه أو تكفيره، كما حصل لرجل من جماعة التبليغ أن قيل لزوجته أنت متزوجة بمبتدع!! والذي أخبرها بذلك فتاة سلفية كما تدعي، وأتت لها ببعض النقول الإنترناتية بأنه لا يجوز للمسلمة أن تبقى تحت رجل من أهل البدع!! طبعًا بمقياسهم ومعيارهم هم!! وما زالت بها حتى أفتتها بالخُلع!! أي أن تطلّق نفسها ولو بغير رضا الزوج (وما أكثر هذه الحالة)!!

 وهي التي كانت زوجة لمدة تزيد عن خمسة عشر عامًا، ولها من زوجها أبناء، بل ولم تنته الكارثة ههنا، أخبرت تلك السلفية زوجها بهذا الفعل فاستحسنه!! وطلب منها رقم الأخت، بدعوى نصيحتها، وتكونت علاقة بينهما فذهب وتزوجها!!

وحصل نفس الشيء مع شخص آخر من جماعة الإخوان المسلمين، ومع آخر لا يصلي لأنه كافر على قولهم طبعًا، وقصص من هذا القبيل يندى لها الجبين، وفضائح من هذا النوع موجودة بالجملة في أوروبا!!

فالسلفية أكثر الطوائف ضيقًا بمسائل الخلاف ومن خالفهم، كما أنهم لا يقبلون التنوع المجتمعي فضلًا عن فهم التعددية في الإسلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، كان سكانها متنوعين، فمنهم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومنهم المشركون الذين لم يسلموا بعد، ومنهم اليهود والنصارى ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام:

إنما أهل المدينة أمة واحدة!!

وأسس لمفهوم التعددية في الإسلام، وأنه لا بد من التعايش السلمي المشترك، لأنها سنة الله الباقية الماضية، ولا ينفي ذلك كما قلت، أن يقوم الصالحون بمهمة الدعوة إلى الله عز وجل، بلا إكراه ولا إلزام، ولا تصنيف ولا فتنة!

والله من وراء القصد.

ملحوظة: الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع، وحق الرد مكفول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى