بحوث ودراسات

تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية” 12 من 12

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

وبالمناسبة فقد جمع ابن قتيبة كثيرا من تلك الاعتراضات الزنديقية ورد عليها. وسواء وُفِّق ابن قتيبة فى ردوده كلها أو وفق فى بعضها ولم يُوَفَّق فى الباقى فالمهم أن كتابه يدل على أن هناك من انتقد القرآن ولم يتعرض له أحد أيا كان سبب عدم التعرض. وهذا ينسف دعوى محمد على عبد الجليل نسفا. ومما تعرض ابن قتيبة للرد عليه قوله سبحانه فى سورة “هود” على لسان نوح يخاطب ابنه الكافر الذى رد على تحذير أبيه له من السيول الغامرة التى ستغرق كل شىء وكل إنسان قائلا: “سآوِى إلى جبلٍ يعصمنى من الماء”، فأجابه أبوه بأنه “لا عاصمَ اليوم من أمر الله إلا مَنْ رَحِم”. وكان توجيه ابن قتيبة للآية أن “عاصم” موضوعة فى موضع “معصوم” وأن المعنى “لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من يرحمه الله”. وقد تناولت هذا الكتاب بالعرض والتحليل والمناقشة المفصلة فى كتابى: “من ذخائر المكتبة العربية”، الذى ألفته فى الطائف فى بدايات تسعينات القرن المنصرم، وكان تعليقى على هذا التوجيه أن هناك توجيها آخر أقل كلفة، وهو “لا عاصم اليوم من أمر الله إلا لمن رحم” بزيادة اللام قبل الاسم الموصول. ثم مرت أعوام، وذات يوم كنت أفكر فى ظاهرة معروفة فى الأفعال الإنجليزية، إذ إنها كلها تقريبا تستعمل لازمة ومتعدية بعدما كنت قديما أتصور أن عددا منها فقط هو الذى يصدق عليه ذلك، فنشب فى عقلى سؤال: إلى أى مدى يصدق هذا الكلام على اللغة العربية؟ وكنت قبل هذا أحسب أن الأفعال العربية التى تستخدم لازمة ومتعدية معا قليلة جدا بل نادرة، ولم أكن فى البداية أتنبه إلا إلى الفعلين: “زادَ، ونَقَص”، ثم تنبهت إلى “هاجَ وغاظَ وأَوَى وهَلَكَ ودَحَضَ…”، ثم انضاف إلى ذلك أفعال أخرى لم أكن أظن من الممكن مجيئها لازمة كالفعل “سكبَ” وغيره، فنقول: “سَكَبَ فلانٌ الماءَ، وسَكَبَ الماءُ (بمعنى “انسكب”)”. وهنا بدا لى أن أراجع الفعل: “عَصَمَ” لأجد أنه يأتى بمعنى “حمى” وأيضا بمعنى “احتمى، أى اعتصم”. فقلت: إذن ليس فى الآية شىء يحتاج إلى توجيه، فالمعنى واضح ومباشر، وهو “لا محتمِىَ (أى لن ينجو) اليوم من أمر الله إلا مَنْ رَحِمَ”. وقد علمتنى الحوادث المتكررة أننى لا ينبغى أن أقلق من أى انتقاد للقرآن مهما كان قائله ومهما بدا فى الظاهر أنه وجيه، بل أبحث الأمر بتفصيل وتدقيق غير واضع أى اعتبار لأى شىء يمكن أن يمنعنى من تناول أشد الكلام اعتراضا على القرآن وتخطئة له. وينتهى الأمر فى كل مرة بانفضاح سخف المعترضين والمخطِّئين.
ومن هذا توجيه ابن قتيبة، فى باب “مخالفة ظاهر الفعل للفظ معناه”، للآية الثانية عشرة من سورة “فاطر”: “وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا ملحٌ أُجَاجٌ. ومن كلٍّ تأكلون لحما طريا وتستخرجون حِلْيَةً تلبسونها” بأن لدينا هنا شيئين هما البحر العذب والبحر الملح، لكن استخراج الحلىّ إنما هو من أحدهما فقط، وهو البحر الملح، إذ رغم أن ابن قتيبة كان يدافع عن أسلوب القرآن ومضمونه ضد من اتهم القرآن هنا بأنه مخطئ فذكر أن الحلى تستخرج من كلا البحرين: العذب والملح مع أنها لا تستخرج إلا من الملح فقط، لم يتصور رحمه الله أن الحلى كما هى موجودة فى البحر الملح فكذلك هى موجودة أيضا فى البحر العذب كما بينت فى موضع سابق من هذه الدراسة. وهو ما يعنى أن القرآن هو الصواب، على حين أن من هاجمه ومن رد هجومه كليهما على خطإ. والعجيب، كما لاحظت، أن هذه الأنهار كلها تقع خارج الشرق الأوسط، بل بعيدا عنه بعدا شديدا، إذ توجد فى تشيكوسلوفاكيا مثلا وسيبريا والأورال وأسكتلندا والبرازيل واليابان. ومعنى ذلك أن الآية من الإعجاز القرآنى دون أدنى ريب.
ونرجع إلى ما كنا بسبيله من إيراد ما استغربه بعض الصحابة من أساليب القرآن ومعانيه. فهناك حكاية المريض المصاب بالإسهال الذى أمر الرسولُ أخاه أن يسقيه عسلا انطلاقا من كلام القرآن عن العسل فى سورة “النحل” وما فيه من شفاء للناس: “جاء رجلٌ إلى النبى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: إنَّ أخى استُطْلِقَ بطنُه. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: اسقِه عسلا. فسقاهُ ثم جاءَه فقال: إنى سقيتُه عسلا، فلم يزدْه إلا استطلاقًا. فقال لهُ ثلاثَ مراتٍ. ثم جاء الرابعةَ فقال: اسقِه عسلا. فقال: لقد سقيتُه، فلم يزدْه إلا استطلاقًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: صدق اللهُ، وكذب بطنُ أخيكَ. فسقاهُ فبرأَ”. والآن إن كان الحديث قد وقع كما هو هنا فقد رأينا أن النبى لم ينفعل على الرجل بل وجهه نحو ما ينبغى أن يفعل ببساطة بالغة ودعابة من أظرف ما يكون، وأما إن كان لم يقع على هذا النحو فالمهم أن المسلمين لم يجدوا حرجا فى رواية حوار بين أحد الصحابة وبين النبى عليه السلام يستغرب فيه الصحابى ألا يشفى العسل أخاه حسبما هو متوقع من كلامِ القرآن واقتراحِ الرسول بما يدل على أن مثل ذلك الاستغراب الذى يقرب من حد الاعتراض لم يكن أمرا غير مألوف.
وذات مرة اعترض النساء المسلمات على استعمال القرآن فى خطابه للمؤمنين ضميرَ جماعة الذكور، فنزلت الآيات تستخدم ضمير الذكور وضمير الإناث معا. ومعروف فى اللغات التى تفرق بين جماعة الذكور وجماعة الإناث كالفرنسية والألمانية والعربية مثلا أنه إذا كان هناك جمع يمتزج فيه الذكور والإناث استعمل له ضمير الجمع الذكورى. أى أن القرآن لم يكن يتجاهل النساء. ومع هذا فما إن عبرت النساء عن مشاعرهن حتى استجاب القرآن لهن. ثم يأتى هذا البائس فيقول إن أحدا لم يكن يستطيع أن يعلن رأيه فى القرآن فى دولة القمع والرعب. وكلامه هذا المتهافت يذكرنى بما كتبه محمد أسد بك اليهودى النمساوى المتظاهر بالإسلام (Lev Nussimbaum، وهو غير محمد أسد اليهودى الألمانى المعروف) فى كتابه الخاص بالسيرة النبوية الكريمة والمترجم إلى الفرنسية بعنوان “La Vie de Mahomet” من أن شوارع المدينه فى دولة الرسول كان يسودها القهر والتجسس والفزع، ولم يكن أحد يستطيع أن يفتح فمه بما يستكن فى ضميره رعبا من المصير الذى كان ينتظره. خيبة الله عليك وعلى نوسيمباوم معا يا محمد على عبد الجليل.
وعلى نفس الشاكلة فى تقليب حديث العسل والاستطلاق على وجهيه ننظر فى الحديث التالى أيضا، وهو من رواية عائشة رضى الله عنها: “كنتُ أغارُ على اللاتى وهَبْنَ أنفسَهنَّ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأقول: وتهبُ المرأةُ نفسَها؟ فلما أنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: “تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ” (الأحزاب/ 51) قالت: قلتُ: واللهِ ما أرى ربَّك إلا يُسارِعُ لك فى هواك”.
كما كان المنافقون يسخرون فيما بينهم من النبى والوحى الذى ينزل عليه، ويَبْلُغه ما يقولون، ولم نسمع أنه آذى أحدا منهم قط. لقد كان عليه الصلاة والسلام واسع الصدر مأمور أمرا من الله سبحانه أن يكون رحيما بالبشر حريصا على هدايتهم. وقد تعرض لمواقف غليظة خشنة من بعض الناس: مسلمين وغير مسلمين، لكنه قط ما أخذهم بالعقوبة. وحين أسلم الشعراء المشركون الذين كانوا يؤذونه بأشعارهم تقبل منهم إسلامهم دون محاسبتهم على ما مضى باعتبار أن الإسلام يجُبّ ما قبله. فكيف يمكن أن يكون دكتاتورا كما قال هذا الكذاب الأَشِر؟
كذلك فالآيات التالية من سورة “الفتح” تشير إلى أعراب كانوا يسكنون قريبا من مدينة النبى، ولم يكونوا يشاركون فى الغزوات بحجج سخيفة، فأمر القرآن النبى بمنعهم من المشاركة عند انطلاق المسلمين إلى مغانم يأخذونها، فلما جاء الانطلاق لأخذ الغنائم وأرادوا أن يشتركوا مع المجاهدين الصادقين لا لشىء إلا للحصول على نصيب من تلك الغنائم التى لا يستحقونها ومنعهم النبى من اشتراكهم فى تلك الغزوة كان ردهم أن المسلمين والنبى يحسدونهم. وهذا تكذيب بالقرآن، إذ فسروا الأمر على أنه حسد من المسلمين المجاهدين المخلصين، وليس وحيا إلهيا.
ومع هذا لم يفكر النبى فى إيذائهم بل كل ما فعله هو أن قال لهم بناء على أمر الله سبحانه إن هناك غزوة لقوم ذوى بأس شديد سيقوم المسلمون بها، فإن خرجوا مع المجاهدين تاب الله عليهم، وإلا فإنه سبحانه معاقبهم على التوائهم وخيانتهم عقابا شديدا: “سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)”.
وبالمثل كان اليهود فى المدينة يتهكمون بنصوص الكتاب المجيد كقولهم حين نزلت الآية التالية: “وأقرِضوا الله قرضا حسنا”: إن الله فقير ونحن أغنياء. كما تساخفوا وقالوا: يد الله مغلولة. ورغم ذلك لم ينزل بهم عليه السلام أى إيذاء أو إضرار جراء هذا. وحين عاد وفد النبى من نجران إلى المدينة سأله المغيرة بن شعبة سؤالا كان نصارى نجران قد ألقوه عليه مؤداه: كيف يقول القرآن عن مريم أم عيسى إنها أخت هارون، وبينها وبين هارون الأزمنة الطوال؟ فلم يثر النبى ولا صاح بنصارى نجران يأمرهم أن يبقَوْا فى حالهم فلا يتدخلوا فى شؤون دينه وأصحابه، ولم يُسْكِت المغيرةَ بن شعبة حاملَ السؤال إليه ولا عَنَّفَه أو حتى عاتبه بل فسر الأمر له بأن بنى إسرائيل كان يسمون أبناءهم بأسماء صالحيهم. هكذا بكل بساطة وأريحية وقبول بحرية التعبير والتفكير.
وفى التراث نوادر مضحكة كثيرة لم يتورع مؤلفوها عن إدخال القرآن فيها على نحو أو على آخر: ففى “التذكرة الحمدونية” لابن حمدون مثلا: “كان بعض الأعراب يأكل ومعه بنوه، فجعلوا يأخذون اللحم من بين يديه فيقول لهم: يا بَنِىَّ، إن الله عز وجل يقول: “فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما”. ولأن تقولوا لى ألف مرة: “أف”، فى كل مرة سبعون انتهارا، أهونُ علىَّ مما تفعلون”.
ومنه: “شكا عيينة بن حصن إلى نعيمان (وهو صحابى كان يحب الدعابة وعمل المقالب) صعوبة الصيام عليه، فقال: صُمْ بالليل. ورُوِىَ أنه دخل عيينةُ على عثمان وهو يعطى فى شهر رمضان، فقال: العَشَاء! فقال: أنا صائم. قال عثمان: أتصوم بالليل؟ قال: هو أخفُّ علىَّ. فيقال إن عثمان قال: إحدى هَنَات (مقالب) نعيمان”.
ومنه: “دخل عقيل بن علفة المرى على عمر بن عبد العزيز، وكان جافيا، فقال له عمر: ما أراك تقرأ من كتاب الله شيئا. قال: بلى، إنى لأقرأ. قال: فاقرأ. فقرأ: “إذا زُلْزِلَت الأرضُ زلزالَها…” فلما بلغ آخرها قرأ: “فمن يعملْ مثقال ذرةٍ شرًّا يَرَهْ، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره”. فقال عمر: ألم أقل لك إنك لا تحسن تقرأ؟ قال: أَوَلَمْ أقرأ؟ قال: لأن الله عز وجل قدَّم الخير، وأنت قدَّمْتَ الشر، فقال عقيل:
خذا بطن هَرْشَى أو قفاها، فإنه كلا جانِبَىْ هرشى لهنَّ طريقُ”
ومنه: “قيل لأعرابى: ما تقرأ فى صلاتك؟ قال: أم الكتاب، ونسبة الرب، وهجاء أبى لهب. وسُمِع آخر يقرأ: “الأعراب أشدُّ كفرًا ونفاقًا”. فقال: لقد هجانا. ثم سمعه يقرأ بعده: “ومِنَ الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر”. فقال: لا بأس! هَجَا ومَدَحَ. هذا كما قال شاعرنا:
هَجوْتُ زهيرًا، ثم إنى مدحتُه وما زالت الأعرابُ تُهْجَى وتُمْدَحُ”
ومنه: “سرق أعرابىٌّ غاشيةً من سرج ودخل مسجدًا، فقرأ الإمام: “هل أتاك حديث الغاشية؟”، فقال: اسكت، فقد أخذتَ فى الفضول. فقال الإمام: “وجوهٌ يومئذٍ خاشعة”. فقال: ها هو ذا غاشيتكم، فلا تخشعوا وجهى”.
ومنه: “أُحْضِر رجل رُمِىَ بالرفض عند الوالى، فقيل له: ما تقول فى أبى بكر؟ خليفة هو؟ قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا. قال: فعثمان؟ قال: لا. قال: فما تقول فى علىٍّ رضى الله عنه؟ قال: ليس بخليفة. قال: ويحك! مَنِ الخليفةُ؟ قال: معاوية. قال: كيف؟ قال: لأن الله تعالى قال حاكيًا عن الملائكة: “إنى جاعلٌ فى الأرض خليفة. قالوا: أتجعل فيها من يُفْسِد فيها ويَسْفِك الدماء؟”. وهذه صفة معاوية”.
ومنه: “كان بالرى وراق حسن الخط، وكان إذا كتب اسم الله تعالى أو اسم النبى صلى الله عليه وسلم فى قرآن أو شعر كتب بعدهما ما يكتبه الإنسان فى سائر المواضع. فكان يكتب فى القرآن: “إن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان”. “وما محمد صلى الله عليه وسلم إلا رسول قد خَلَتْ من قَبْلِه الرسل”. وكان يكتب فى الشعر:
إن تقوى ربنا عز وجل خيرُ نَفَلْ * وبإذن الله تبارك وتعالى رَيْثِى وعَجَلْ”
ولم نسمع أن واضع الكتاب أو من روى حكاياتهم الفكاهية هذه قد تعرضوا لأى عقاب.
ومثل ذلك بل أشد منه ما أورده ابن الجوزى فى “أخبار الحمقى والمغفلين”، وهو مَنْ هو بين علماء الدين، من التشنيعات والفكاهات التالية: “قال ابن كامل: وحدثنا أبو شيخ الأصبهانى محمد بن الحسين قال: قرأ علينا عثمان بن أبى شيبة فى التفسير: “وإذا بطشتم بطشتم خبازين”، يريد قوله: “جبارين”. “وعن محمد بن عبد الله الحضرمى أنه قال: قرأ علينا عثمان بن أبى شيبة: “فضُرِب بينهم سِنَّوْرٌ له ناب”، فقيل له: إنما هو “بِسُورٍ له باب”، فقال: أنا لا أقرأ قراءة حمزة. قراءة حمزة عندنا بدعة”. “حدثنى أبو الحسين أحمد بن يحيى قال: مررت بشيخ فى حجره مصحف وهو يقرأ: “ولله ميزاب السموات والأرض”، فقلت: يا شيخ، ما معنى “ولله ميزاب السموات والأرض”؟ قال: هذا المطر الذى نراه. فقلت: ما يكون التصحيف إلا إذا كان بتفسير. يا هذا، إنما هو “ميراث السموات والأرض”، فقال: اللهم اغفر لى. أنا منذ أربعين سنة أقرؤها وهى فى مصحفى هكذا”. “كان رجل كثير المخاصمة لامرأته، وله جار يعاتبه على ذلك، فلما كان فى بعض الليالى خاصمها خصومة شديدة وضربها، فاطَّلع عليه جاره، فقال: يا هذا، اعمل معها كما قال الله تعالى: إما إمساكٌ إيش اسمه أو تسريحٌ ما أدرى إيش”.
ليس هذا فحسب، بل هناك شعراء يقتبسون آيات القرآن فى سياقات لا تليق بكتاب الله الكريم. قال أبو نواس:
خُطَّ في الأَردافِ سَطْرٌ في عروضِ الشِّعْر موزون:
لن تنالوا البِرّ حتَّى تنفقوا ممَّا تُحِبُّون
وقال ابن النبيه في مدح القاضي الفاضل:
قمتُ ليلَ الصُّدودِ إِلاَّ قَليلاَ ثمَّ رتَّلْتُ ذكركم تَرْتيلاَ
ووصلتُ السُّهادَ أَقبحَ وصلٍ وهَجَرْتُ الرُّقادَ هجرًا جَميلاَ
مَسْمعٌ ملَّ من سَماعِ عَذُولٍ حينَ أَلقَى عليهِ قولا ثَقيلاَ
وفُؤاد قد كانَ بينَ ضلوعٍ أَخَذَتْهُ الأَحبابُ أَخْذًا وَبيلاَ
قُلْ لِراقِى الجفونِ إنَّ لعينى فى بِحارِ الدُّموعِ سَبْحًا طَويلاَ
ماسَ عُجْبًا كأَنَّه ما رأَى غُصْــــــــــــــــــــــــنًا طَليحًا ولا كثيبًا مَهيلاَ
وحَمَى عن مُحِبِّهِ كأس ريقٍ حينَ أَمْسَى مزاجُها زنجبيلاَ
بانَ عنِّى، فصحتُ فى أَثَر العِيـــــــــــــــــسِ: ارْحمونى وأَمْهِلونى قَليلاَ
أَنا عبدٌ للفاضلِ بن علىٍّ قدْ تبَتَّلْتُ بالثنَا تَبْتيلاَ
لا تَسُمْهُ وعدًا بغيرِ نَوالٍ إنَّه كانَ وَعدُهُ مفْعولاَ
جلَّ عن سائِرِ الخَلائِقِ قدْرًا فاخْتَرَعْنا فى مدحه التَّنْزيلاَ
وقال البهاء زُهَير:
وسَقاني من رِيقهِ الباردِ العَذْ بِ كُؤوسًا حَوَتْ شرابًا طَهُورَا
بقَواريرِ فضَّةٍ مِنْ ثَنايا قَدَّروها بلؤلؤٍ تقديرَا
وغُيومٍ مثل الجُمَانِ فما تنْـــــــــــــــــــــظرُ فيها شمسًا ولا زَمْهَريرَا
نُصْبَ روضٍ وَشَى النسيم عليه فانْبَرى سَعْيُهُ بهِ مَشْكورَا
أَيُّها الحاسِدُ المُفَنِّدُ، إمَّا إنْ تكن شاكِرًا وإمَّا كَفُورَا
كيفَ تَجْفُو التى يطيرُ بها الهَـــــــــــــــــمُّ، وإنْ كان شَرُّهُ مُستطيرَا
وقال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر فى معشوقه نسيم:
إن كانت العشاق من أشواقهم جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا
فأنا الذى أتلو لهم: يا ليتنى كنتُ اتخذتُ مع الرسول سبيلا
وقال الصاحب شرف الدين ابن قاضى حماة، وهو من أهل القرنين السادس والسابع الهجريين:
قسمًا بشمس جبينه وضحاها ونهار مبسمه إذا جلاها
وبنار خَدَّيْه المشعشع نورها وبليل صُدْغَيْه إذا يغشاها
لقد ادعيت دعاويًا فى حبه صدقتْ، وأفلح فيه من زكَّاها
فنفوس عُذَّالى عليه وعُذَّرِى قد ألهمت بفجورها تقواها
فالعذر أسعدها يقوم دليله والعذل منبعثٌ له أشقاها
وقال آخر:
وقد وافَقَ الزهْرُ نَقْشَ البساط فعينى لِمَا أَبْصَرَتْ حائِرَهْ
جِنَانٌ تُزَخْرَفُ للكافِرينَ ونحن نُحَالُ على الآخِرهْ
فإنْ يكُ فى الحَشْرِ حالِى كذا فتلكَ إذًا كَرَّةٌ خاسِرَهْ
وقال غيره:
أَوْحَى إلى عُشَّاقِهِ طَرْفُهُ: هيهاتَ هيهاتَ لما تُوعَدونْ
ورِدْفُهُ ينطقُ من خَلْفه: لمثل ذا فَلْيَعْمَل العاملونْ
ولم نقرأ أن أحدا تعرض لهؤلاء الشعراء بأذى، اللهم إلا أن يكون ناقدا، فيبدى نفوره من هذه الطريقة الماجنة وينصح بنبذها وتجنبها. ودُمْتُم.
هذا، وقد حاول محمد على عبد الجليل بتدليساته أن يحرفنا بعيدا عن حقيقة الإسلام، الذى هو رسالة حضارية فى غاية الرقى ومنتهاه والذروة منه، فهو يدعو إلى الحرية الاعتقادية: “قل: إنما أَعِظُكم بواحدةٍ: أن تَقُوموا لله مَثْنَى وفُرَادَى ثم تتفكَّروا. ما بصاحبِكم مِنْ جِنَّة”، “وقل: الحقُّ من ربِّكم. فمَنْ شاء فلْيُؤْمِنْ، ومَنْ شاء فلْيَكْفُرْ”، “قل: هاتوا برهانَكم إن كنتم صادقين”، “لا إكراهَ فى الدين. قد تبيَّنَ الرُّشْدُ من الغَىّ”، “قل: مَنْ يرزقكم من السماء والأرض؟ قل: اللهُ. وإنَّا أو إيَّاكم لَعَلَى هُدًى أو فى ضلالٍ مُبِينٍ * قل: لا تُسْأَلُون عما أَجْرَمْنا، ولا نُسْأَلُ عما تعملون”. ودائما ما يخاطب العقل ويستحث البشر على استخدامه ويحذر من إهماله، وإلا انحطوا عن مرتبة البشرية: “ولقدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيرًا من الجِنِّ والإِنْسِ: لهم قلوبٌ لا يَفْقَهُون بِهَا، ولهم أعينٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا، ولهم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا. أولئكَ كالأَنْعَامِ بل هم أَضَلُّ. أولئكَ هم الغافِلُونَ”. ونبيه إنسان كبقية البشر لا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا يدرى ما يُفْعَل به ولا بغيره من الناس، ولا يزعم أنه ملك من الملائكة، فضلا عن أن يكون فيه شىء من الألوهية. إنما هو عبد الله ورسوله، وكل ما هنالك أنه على خلق عظيم: “قل: إنما أنا بَشَرٌ مثلُكم يُوحَى إلىَّ أنما إلهكم إلهٌ واحدٌ”، “وإنك لَعَلَى خُلُقٍ عظيمٍ”. والبشر كلهم عيال الله، ولا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح. والله رحيم كريم يغفر الذنب ولايكلف نفسا إلا وسعها، ولا يحمل أحد عن أحد ذنوبه، ولا ينفع العبدَ أمام الله سبحانه سوى عمله وإنجازاته. وهو يَنْفِر ويُنَفِّر من الخرافات والسحر والكهانة والعرافة، وهو الدين الوحيد الذى يقدم الألوهية فى نسختها النقية الصافية، ويصور الأنبياء على وضعهم الصحيح بلا أى تشويه كما تفعل كتب مقدسة أخرى تلصق بهم الزنا والقتل والدياثة وتزعم لهم الألوهية.
كذلك فالإسلام هو الدين الوحيد الذى يحض حضا على العلم ويكافئ طالبه ومعلمه بأجر عظيم، ويجعل أهل العلم وُرَّاثا للأنبياء، ويضعهم فى منزلة أعلى من منزلة العُبَّاد، ويزن مدادهم بدماء الشهداء، ويجعل الملائكة دائمة الاستغفار لهم والتواضع فى حضورهم، ويشارك الملائكة فى هذا الاستغفار كل من فى السماوات والأرض بما فى ذلك الحيتان (الأسماك) فى البحار. ويعتبر الخارج فى طلب العلم خارجا فى سبيل الله. وبالمثل نراه يشجع على التفكير وإعمال العقل ويزيل المخاوف من طريق من يفكرون. والمهم أن يستعدوا لهذا فلا يمارسوا الاجتهاد الفكرى دون أن يحوزوا أدواته. فالمجتهد مأجور فى كل حال: إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، وهو ما لا يعرفه أى نظام سياسى أوفلسفى أو تربوى. فقط يعرفه دين محمد بن عبد الله! وعلى الناحية الأخرى نراه يبغض ويحرِّم ويجرِّم كل ضروب الخرافات من سحر وشعوذة وكهانة وعرافة ووثنية وتأليه لأى بشر.
كما أنه الدين الوحيد الذى يحث على العمل وإتقان الأداء، ويعلن أن من الذنوب التى يرتكبها البشر ذنوبا لا يكفرها سوى العمل، ويأمر أتباعه بأنه إذا كان فى يد أحدهم فسيلة وقامت القيامة فلْيغرسْها رغم أن أحدا لن ينتفع بها ما دامت الدنيا قد آذَنَتْ بالانتهاء والفناء، وفى الوقت ذاته كره لهم أن يمدوا أيديهم للشحاتة فيريقوا كرامتهم ويكونوا عالة على جهد غيرهم، وكائنات طفيلية تمتص دماء الآخرين ولا تقدم شيئا، وحذَّر مَنْ يفعل ذلك من الإتيان يوم القيامة وفى وجهه نقطة سوداء. والإسلام كذلك هو دين الذوق والجمال والحساسية حتى ليبدى رسول الله ضيقه ممن يراه منكوشَ الشعر أو مصفرَّ الأسنان، ويوجب النظافة على المسلمين بطرق شتى لأقل مناسبة. كما يلفت القرآنُ الأنظارَ والبصائرَ للتأمل فى جمال الكون وجلاله من أشجار ونباتات وحيوان وجبال وسحاب ورياح ونجوم وكواكب وليل ونهار وسكون وبحار وبَرْق ووَدْق. وهو دين القوة والكرامة والتبريز فى الدنيا لا دين الانسحاب من الحياة بحجة الزهد فيها، فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وهو يضع الفقراء والمساكين والعجزة فى عينيه ويخصص لهم نسبة فى أموال القادرين حقا معلوما لهم، مذكرا الواجدين بأنهم إنما يُرْزَقون بضعفائهم، وأن فى إخراج الصدقة مداواة لمرضاهم. فأى رقى هذا؟ وأية عبقرية؟ وهو كذلك دين العزة والكرامة والنجاح. ولو ذهبتُ من هنا إلى آخر عمر الدنيا أعدد محاسن دين محمد وأتغزل فى جماله وحلاوته وسموقه ما توقفت. وهو دين الرحمة، فالله قد خلق عباده ضعفاء، وهو يغفر لهم ويعفو عنهم فكأنهم ما ارتكبوا ذنبا متى استغفروه سبحانه حتى لو أذنبوا فى اليوم مائة مرة. والذنوب عنده قابلة كلها للغفران، والحسنات يذهبن السيئات، وهو عز وجل يجازى (إن جازى) على السيئة بمثلها فى حين يجازى على الحسنة بعشرة أضعافها إلى ما شاء الله…
وهو أيضا دين احترام السنن الكونية، فالدنيا خلقت بميزان وتقدير، وعلى الإنسان أن يراعى هذا وإلا ضاع وخسر خسرانا مبينا. ولهذا ينبغى أن يكون معتدلا فيتجنب الإسراف. وقد كنا نقرأ الآيات التى تحذر من الإسراف وتعلن أن الله لا يحب المسرفين دون أن نعرف أبعادها حتى كبرنا وعلمنا أن كل شىء يتناوله أو يمارسه البشر له حد أدنى وحد أعلى لا ينبغى تجاوزهما، وإلا كان الخطر. فأنت، فى الطعام مثلا، آمنٌ ما لم تتعدّ الحد الأدنى من كمية المأكول أو المشروب إلى ما تحته، أو تتعدّ الحد الأعلى إلى ما فوقه حتى لا يصيبك واحد أو أكثر من أمراض السكر والكولسترول والضغط… إلخ.
وأيضا ليس هناك دين مثله يهتم بالمرأة منذ ولادتها حتى وفاتها كل هذا الاهتمام الذى عُرِف به دين محمد عليه الصلاة والسلام: فقد كان العرب، ومثلهم شعوب أخرى حتى اليوم، يئدون بناتهم عند الولادة، فحرَّم الإسلام هذا السلوك المتوحش تحريما عنيفا وتوعد مجترحيه بالعذاب الشديد يوم الحساب. وحث على إحسان تربية البنت وجعل جزاء ذلك الجنة. وفرض طلب العلم عليها كما فرضه على الولد سواء بسواء، وجعله طريقا إلى الجنة مثلما هو الأمر بالنسبة له. وعند خِطْبتها لا بد من أخذ رأيها وعدم إجبارها على التزوج ممن لا ترغب. وجعل للنساء نصيبا فى الميراث يقل فى بعض الحالات عن نصيب الرجال، ويزيد فى بعض الحالات الأخرى عما يأخذون، ويتساوى فى بعض ثالث بما يحصلون عليه. وألح على الأبناء أن يحسنوا صحبة أمهاتهم أكثر مما ألح عليهم بإحسان صحبة آبائهم. وفى النزع الأخير وصى الرسول عليه السلام توصية حارة بالنساء (ومعهن الأسرى) لما هن عليه من ضعف. ودعا فى كل الأحوال إلى مراعاة رقتهن وحساسيتهن، وسماهن: القوارير. وقال للأزواج: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى. ونبه الرجال إلى أنهم لا ينبغى أن يَفْرَكوا زوجاتهم لما يجدونه فيهن من عيوب، فإنهم قُمَنَاء أن يجدوا فيهن حسنات تعوضهم عن ذلك أو توازنه، ودعا إلى الصبر عليهن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً. إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ”.
واهتم الإسلام بالبيئة أشجارا وماء وهواء وشوارع وطرقا، فأعلن أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن النظافة من الإيمان، ونهى عن الإسراف حتى فى الوضوء على النهر الجارى، وعن خلع الأشجار، وعن التبول فى المياه أو فى طريق السابلة، وعن قتل الطيور والحيوانات دون داع. ودعا إلى الرفق بالحيوان فلا يحمِّله صاحبه ما لا يطيق، ولا يلعنه عند الغضب ولا يضربه. ويجب عليه، لَدَى ذبح الحيوان للأكل، أن يسن سكينه سنا شديدا حتى تتم عملية الذبح بسرعة وبأقل ألم للحيوان المذبوح. بل لقد أمر الرسولُ الذابحَ أن يخفى سكينه عن ذبيحته حتى لا يزيدها ألما فوق ألمها وألا يذبحها على مرأى من الحيوانات الأخرى تجنبا لإفزاعهنّ… وهكذا. وقد ترجمتُ منذ أعوام مقالا رائعا لمستشرقة هولندية صحفية ومتخصصة فى الأنثروبولوجيا اسمها فرانسيسكا دو شاتل عنوانه: “محمد رائد الحفاظ على البيئة”، كله انبهار وإجلال للمصطفى عليه الصلاة والسلام.
فانظر كيف يتعامى ذلك المدلِّس عن كل هذا وغيره مما أومأتُ إليه أو لم أُومِئْ، ويتغافل عن الإنجازات العبقرية التى أنجزها محمد ودين محمد وأصحاب محمد والتى لا تساويها إنجازات أخرى فى ظروفها الوعرة وبإمكانات أصحابها الصفرية. لقد أنهض محمد قومه من رقدة التخلف الحضارى والثقافى حتى لقد صاروا فى مدى جد قصير من الزمن سادة العالم حضارة وثقافة، وتبنت الشعوب الأخرى لغتهم ودينهم وكثيرا من عاداتهم وتقاليدهم، وأضحَوْا فى النهاية مثلهم عربا أو يشبهون العرب فى كثير من أمور حياتهم. لقد كان دينه أساسا لحضارة عظيمة انتشرت فى كثير من أرجاء المعمور لقرون طوال لم يجرؤ أحد على أن يتحداها، فإن تحداها خر صريعا أمامها فى النزال.
ومن هنا وضع مايكل هارت النبىَّ محمدًا على رأس الأشخاص المائة الأكثر تأثيرا فى التاريخ الإنسانى فى كتابه: “The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History” الصادر عام 1992م. وهو يحتوى على أسماء مائة شخص رتبهم الكاتب حسب مدى تأثيرهم فى التاريخ، فضم أسماء محمد وعيسى وموسى ومؤسسى الديانات الكبرى، ومبتكرى أبرز الاختراعات التى غيرت مسار التاريخ، وقادة الفكر وغيرهم، واتبع أسسًا محددة فى اختيار الأشخاص وترتيبهم كأن يكون الشخص حقيقيا، وأن يكون معروفا، إذ هناك عباقرة مجهولون مثل أول من اخترع الكتابة، وأن يكون عميق الأثر، وأن يكون تأثيره عالميا غير منحصر فى النطاق الإقليمى، مع استبعاد الأحياء منهم.
لكن أحمقنا الأرعن يتجاهل هذا كله وأضعاف هذا كله، ويحاول أن يشغلنا ويضيع وقتنا فى ذلك الغثاء الذى يطفح به قلبه الأسود تقربا إلى الأوربيين سعيدا بالفتات الذى يتساقط منهم أثناء أكلهم على المائدة بينما هو قابعٌ يُبَصْبِص بذَنَبه عند أقدامهم يلتقط سُقَاطة أفواههم كأنها كنز لا يقدَّر بثمن- إبراهيم عوض).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى