مقالات

إلى نِّيَاطُ فؤادي… وميض

د. عبد الكريم الوزان

كاتب وإعلامي عراقي
عرض مقالات الكاتب

هاهي الذكرى الرابعة عشرة على رحيلك الأبدي قد حلت علينا وكانها الدقيقة الرابعة عشرة على انتزاعك من نِّيَاطُ * فؤادي.
غادرتنا يافلذة كبدي وانت بريء براءة الذئب من دم يوسف، من كل خطايا الفجور والهمجية والطائفية والبربرية التي حملتها الينا الريح الصفراء من أرض الأحقاد الدفينة.
أتذكر جيدا حين لحقت بك إلى المستشفى على عجل بعد سماع أصوات الاطلاقات النارية قريبًا من داري ونقلك إلى هناك، كان اللهاث يخنقني، ودقات قلبي تتسارع حتى تناهت إلى أسماعي، مع انني كنت مشدودًا إلى مقعد السيارة، لم افقد الأمل في أن أجد من يخبرني بانك في صالة العمليات أو الطوارىء، كنت أمني النفس بان دمي يطابق دمك كي أشاركك الحياة..
لكن هناك، وما أن وطأت قدماي المكان، حتى وجدت ولدي البكر يقطع الطريق علي، وبلهفة مسكته من تلابيبه، وكأني أتوسل إليه وأرجوه عالأقل ان يهدأ من روعي ويقول لي لاتقلق… لاأكثر، لم أكن أطمح لأكثر منها، لكن دموعه المترقرقة على وجنتيه وإشارته بيديه نحو ثلاجة حفظ الجثث كانت بمثابة الصاعقة التي أحرقت ما تبقى من فؤادي الجريح، وجعلتني أجهش بالبكاء، رغم جلدي وصبري، لكن التمست العذر لنفسي بعدها، كوني أبًا مفجوعًا، تسمرت قدماي فجاة أمام ولدي الأشقر الجميل الذكي الشجاع وهو مسجى جثة هامدة.
تأملت جسدك الغض وأنت ابن السابعة عشرة وتساءلت: ياترى كيف تُستباح الملائكة؟ وبأي ذنب قتلت؟ رد علي الشهيد وميض والابتسامة لاتفارق شفتيه: لقد انتزعوني يا والدي من قلبك، لأنني عراقي، ومن رحم من دافع عن العراق، ومن أبٍ أبى أن يكون أفّاقًا وجاحدًا فيغرق في مستنقع العمالة ووحل الرذيلة ونأى بنفسه عن بيع أرض الوطن في سوق النخاسة.
قُضي الأمر.. حدثت نفسي وقد جالت في خاطري لوعة أب مكلوم فقد عزيزه فهامت روحه وناحت شعرًا:

إِنْ جَاءَ فَرْحٌ أَوْ أَلَمَّ سُرُورُ

فَالدَّمْعُ بَاقٍ فِي العُيُونِ بُحُورُ

يَا عَيْنِ هَاتِي الدَّمْعَ بَلْ هَاتِي الدِّمَا

هَذَا دَوَاءُ القَلْبِ وَهْوَ كَسِيرُ

نِيرَانُ جُرْحٍ لَمْ تَزَلْ بَيْنَ الحَشَا

تَغْلِي مَرَاجِلُهَا بِهَا وَتَفُورُ

يَا لَوْعَةَ النَّفْسِ الَّتِي قَدْ جُرِّعَتْ

كَأْسَ العَذَابِ وَشَأْنُهَا التَّكْدِيرُ

دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فِي مُصَابِي لائِمِي

مَا كُلُّ مَكْلُومِ الضَّمِيرِ يَثُورُ

وَاسْمَعْ مُصِيبَاتٍ حَلَلْنَ بِسَاحَتِي

كَادَ الفُؤَادُ لِهَوْلِهِنَّ يَطِيرُ(1 )

يا شهيد الوطن، لا أعلم من سيرثيك بعد لحاقي بك، لكن هنيئا لك ياحشاشة قلبي وانت حي ترزق في عليين مع الشهداء والصديقين عند رب كريم، فأنتم قناديل الهدى بضيائكم يسمو العراق، وأعلم ياولدي إنك ستكون شفيعًا لي يوم يقوم الحساب وسينتقم القهار الجبار من كل طاغٍ ومتكبر، وسابقى أتجرع آلام رحيلك، واصبر حتى ألقاك بهدي من الله وإيمان بقضائه، ولن ننساك ما حيينا، مثل ما لا ننسى ما حاق ببلادنا من ويلات وكوارث ومن يقف خلفها من أراذل الخلق، ويقينا سنقتص لك ولكل الأبرياء، فالقتلة الأوباش من عملاء وجواسيس وزد عليهم المجهلين وناكري الجميل ومن تنكر برداء الدين من الإرهابيين والفاسدين على مرمى البصر ونور البصيرة … وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأن غدًا لناظره قريب.

* النِّيَاطُ : عِرقٌ غليظٌ عُلِّق به القلبُ إِلى الرئتين.
1- بتصرف ، رثاء ابنة ، سعيد بن محمد السناري ، الألوكة ، 20-6-2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى