مقالات

ملك ليبيا محمد بن إدريس السنوسي؛ حبه لشعبه وحب الشعب له (2)

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

عندما عينت الجمعية الوطنية التأسيسية الليبيا حكومة مؤقتة في شهر أبريل عام (1951 م) برئاسة محمود المنتصر ؛ رأت الحكومة أهمية زيارة الملك إدريس لمنطقة طرابلس تلبية لرغبة الشعب الطرابلسي لهذه الزيارة؛ ولبى الملك تلك الرغبة وابتهجت المدن الليبيا في الغرب بهذه الزيارة، واستقبلته الوفود من الرجال والنساء والشيوخ والشباب، وعندما وصل موكبه إلى طرابلس، واخترق شارع عمر المختار كان بعض العملاء المندسين يتربصون بالملك الدوائر، وقذف موكبه ببعض القنابل ولكن الله سلّم، وظهرت من الملك شجاعة نادرة، وثبات عجيب ؛ فلم يهتز من بدنه شعرة واحدة، وما كاد يذاع نبأ هذه المحاولة الفاشلة في ليبيا حتى اجتمعت جموع الشعب في أسرع من لمح البصر من شدة حبها لزعيمها وقائدها، وشرعت تهنأى بعضها بعضاً بسلامة قائدها، وبهذه المناسبة قال أحمد رفيق المهدوي:

وقاك الله من شر الأعادي                ودام علاك يا أمل البلاد

وعشت لأمة جعلتك رمزاً                لوحدتها وروحاً للجهاد

حياتك بيننا لله نور              أيطفأى نوره أهل الفساد؟

أتم الله نعمته علينا               بحفظك واهتدائك للسداد

فدُمْ ملكاً على عرش متين               محاطاً بالمحبة والوداد.

 وقد أجاب الملك إدريس عن هذه الحادثة فقال: إن هذه الحادثة لم تكن أبداً من ليبي، ولن يقدم عليها أحد من أبناء ليبيا، وإنني أحمد الله جلت قدرته الذي وقى هذه البلاد شر المصائب… إلى أن قال: والضرر الذي يلحق بقضية البلاد أخطر من الضرر الذي يلحق بشخصنا أو بأي شخص اخر، وقال: إننا لسنا من أي حزب، ولن نتحزب لحزب دون اخر، وإنما نحن للجميع، ونسعى لخير الكل ولصالحهم، هذا هو مبدؤنا الذي فطرنا عليه، وعملنا من أجله زهاء ثلاثين سنة، ونحن لا نعتبر أنفسنا إلا فرداً من أفراد هذا الشعب، لا يهمه غير مصلحة الشعب ومستقبل البلاد.

وقام بزيارة ترهونة والزاوية وغريان، ويفرن ومصراتة وزليطن والخمس، وكان يستقبل من الشعب بالحب والود والوفاء، وقام الشعراء بنظم القصائد تعبيراً عن فرحتهم بهذه المناسبة، فقد قال عبد الغني البشتي:

اليوم يوم المجد والعلياء                   اليوم يوم العزة القعساء

اليوم يوم القطر من سلومة               للبحر للسودان للخضراء

اليوم يومك ليبيا بل إنه                  يوم العروبة ساطع الأضواء

يوم قد انبعث له من يثرب               بالروضة الفيحاء باللألاء

يوم قد امتدت له من (مكة)             أنوار طه من بني الزهراء

يوم المليك ومرحباً بك يومه              يوم أغر بليبيا الفيحاء

إدريس يا نسل النبي محمد               اِهنأ بملكك في سنا وعلاء

ملك قد اختار الإلـه مليكه              من أشرف الاباء والأبناء

تاج على هام القلوب منصب           ولواؤه في الشرق خير لواء

إني أرى الأملاك في عليائهم             يتباشرون بسيد البطحاء

يتباشرون بملكه في رفرف                 عال من الأضواء واللألاء

لم لا؟ وأنت سليل أحمد من له           ما يبتغيه المجد من علياء

الله أكبر عشت يا فخر العلا            للعرب، بل للشرق خير وفاء

تحمي حمى الإسلام ترفع صرحه          وتعيد فيه بسيرة الخلفاء

مولاي شعبك روعت ألبابه              يد أرعن يبغيك بالضراء

نفديك بالأرواح إن شئت الغداة                 ونجود بالأموال والأبناء

مولاي: أبقاك الإلـه لليبيا                دهراً سعيداً في أعز علاء.

 لقد كانت أعمال الملك من أسباب محبة الليبيين له، فقد أصدر أوامره بأن لا يعفى من الضريبة الجمركية كل من يرد إلى الديوان الملكي، وبأن لا يلقب بصاحب الجلالة تقدساً بذات الله جل جلاله، وقال: إن الجلالة لله وحده، وما أنا إلا عبد من عباد الله.

ويعتبر هذا الحدث سابقة تاريخية من أروع ما شهد في دنيا الملوك، ولقد تأثر ريفلي رئيس جريدة (بريد طرابلس) التي كانت تصدر باللغة الإيطالية لهذا الحدث، وكتب مقالاً جاء فيه: ((إن الرغبة التي أبداها الملك إدريس ليست في حاجة إلى تعليق؛ لأنه عندما تبَّوأ العرش كان تواضعه معروفاً، وسهره المتواصل وعطفه ورعايته لشعبه ؛ فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الديمقراطية التي تجلت في أسمى معانيها، ولقد أتاح الحظ لليبيا ـ وهي لا تزال في بداية حياتها ـ أن تكون على رأسها شخصية صالحة مختارة تخاف الله العلي الأجل، وعندما قبل مهمته الصعبة الخطيرة بأن يقود شعبه إلى ما كتبه له القدر من مصير، فإن ذلك كان استجابة لأمر ربه الذي يمده بنوره فيما يتخذ من قرارات وفي أعماله، وقد تبين له أن لقب (الجلالة) لقب ضخم لا يتفق مع أساسه الديني الذي يرى أن المولى وحده صاحب الجلالة العظمى، وهو وحده العلي الأعلى… ولم يكن هذا التصرف بغريب على الملك محمد إدريس المهدي السنوسي الذي ينحدر من سلالة شريفة أراد الله تعالى أن يمكن في قلبها الإيمان والثقة به، وفي عالمنا هذا الذي يسير سيراً حثيثاً نحو المادية ؛ فإن تصرفاً مثل هذا يتعدَّى أي احتمال، ويدل دلالة قاطعة على أن أي مسبب حتى وإن كان ذلك المسبب سامياً يمكنه أن يكون وسيلة لإظهار تواضع منبثق عن عقيدة راسخة في عظمة الله)).

وقد حدثني السيد أحمد العرفي عندما كنا معاً في السجن السياسي بطرابلس عن حادثة تدل على تعظيم الملك إدريس للمولى عز وجل، وهي أنه كان هناك مسجد جديد في مدينة البيضاء، وجاء الملك لافتتاحه، ومع مجيئه ودخوله المسجد شرع الناس في الهتاف بحياة الملك إدريس، فغضب وأمر الناس بالصمت، وقال لهم: هذا المكان لا ينبغي أن يذكر فيه غير اسم الله، واستشهد بقول الله تعالى: [الجن: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا *} [الجنّ: 18]، ولذلك أحبه شعبه وأحب شعبه المسلم، كانت الإرادات السامية تصدر عن الملك لتجسد هذه المعاني الرفيعة من التواضع والبساطة والبعد عن المظاهر وتحاشي الشبهات، فقد أصدر إرادة سامية بأن لا يطلق اسمه على الشوارع والمؤسسات بقصد التمجيد والتخليد، محتسباً عند الله ما عمله لصالح أمته وشعبه، وأصدر إرادة سامية بأن لا تنشر صور ذاته على العملة، أو على طوابع البريد ابتعاداً عن المظاهر الدنيوية الزائلة، وأصدر إرادة سامية بأن لا يتخذ من ذكرى ميلاده عيداً رسميّاً، وأن لا تقام الاحتفالات بهذه المناسبة، وذلك لأنه ليست مما جرى به العمل في السلف الصالح رضوان الله عليهم.

وأصدر أمراً بتعديل قانون البيت المالك، وألغى بموجب ذاك الأمر حصانات وامتيازات الأسرة، كما ألغى ألقاب الإمارة والنبل من أعضاء البيت السنوسي، وأمر أيضاً بأن لا يقبل أي هدية يرى الشعب فرادى أو جماعات أن يقدمها له في أي مناسبة تتعلق بذاته أو غيرها من المناسبات، وبهذه المناسبة صدر بلاغ من الديوان الملكي يتعلق بأحد المواضيع التي نحن بصددها: ((بالنظر لما أشيع من أن هناك هيئات حكومية وشعبية ستقوم بتقديم هدايا ثمينة إلى حضرة مولانا الملك المعظم، وذلك بمناسبة قرانه السعيد ؛ فقد أمر حفظه الله بأنه لن يقبل هذه الهدايا بدون استثناء، ويطلب من الذين يرغبون في تقديمها إلى مقامه السامي أن يوزعوا المبالغ التي جمعت أو خصصت لهذا الغرض على الفقراء والمعوزين، والله يجزي أجر من أحسن عملاً)).

كان الملك إدريس رحمه الله يقوم صباح كل يوم مبكراً لأداء صلاة الفجر في وقتها، ويشرع في قراءة القران الكريم، وأوراده اليومية، ويتناول إفطاره حوالي الساعة التاسعة، ثم يخرج إلى مكتبه حوالي الساعة العاشرة، فيستقبل موظفي الديوان والخاصة الملكية لتصريف الأعمال اليومية، ويستقبل زواره من الضيوف ورجال الحكومة وأصحاب الحاجات من الحادية عشر إلى الواحدة، ثم يتناول طعام الغداء بعد تأدية صلاة الظهر مباشرة، وكانت الجولة البرية من أحب الرياضات عنده، وكان يستقبل بعض زواره قبل صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء، ويتناول الشاي عادة مع موظفي القصر وضيوفه، وينام عادة حوالي الحادية عشرة مساءً.

وكان يحب المطالعة في مكتبته الخاصة، ويعكف عليها طويلاً، وأحب ما عنده: قراءة القران، ودراسة كتب الحديث، ومطالعة كتب التاريخ العام، وكان يحرص في غالب الأحيان على استماع نشرات الأخبار من المذياع.

وكان لا يهتم بالمظاهر في تحركاته، وقد ذكر السيد عمر فائق شنيب قصة طريفة عندما كان رئيس الديوان الملكي: كان مولانا الملك يريد أن يتوجه من بنغازي إلى البيضاء، وحضرت سيارات الحرس، ولما شاهدنا قبل التحرك قال لي: لا داعي لأن تكن معنا هذه السيارات، ونكتفي بسيارة واحدة تحمل بعض الضروريات، وكان قد فاتني أن أصدر هذا الأمر إلى قائد الحرس، وبينما نحن في الطريق لفت نظري الملك إلى أمره السابق، وقال: لماذا يكون معنا هذا الحرس، فقلت له: يا مولاي إن هذا لم يكن حرساً لكم، ولكنه محروس بكم.

كان الملك رحمه الله في يوم ربيع (1953 م) راجعاً من جولته التقليدية، ورأى سيارة واقفة بسبب خلل فيها، وكان صاحبها الأستاذ محمد بن عامر، فأمر الملك سائق سيارته أن يقف حتى تلحق به سيارة الحرس، وأمر هذه السيارة بأن تعود إلى الأستاذ ابن عامر لتحمله حيث شاء.

وخرج الملك إدريس ذات مرة في جولته المسائية المعتادة، ولم يصحب معه حرساً، ودخل إلى بعض المزارع في منطقة البيضاء، وعندما دخل إلى أحد البساتين وجد صاحب البستان منهمكاً في سقايته، فحياه بتحية الإسلام، وكان البستاني لا يعرف الملك شخصيّاً ولم يخطر بباله أن الملك يصل إلى ذلك الموقع بمفرده كأي شخص ترمي به الطريق، وبدأ الملك يسأل البستاني عن أنواع الشجر والمحصول وما إلى ذلك، وكان صاحبنا يجيب عن كل سؤال في حين أنه منهمك في عمله، وعندما فرغ الملك من الأسئلة وأراد الانصراف، سأله البستاني قائلاً: ((من حضرتك من غيار صغار)) وهذا هو سؤال كل شخص في برقة لمن لا يعرفه، فأجابه الملك بقوله: ((أنا إدريس)) ولشدة دهشة الرجل عندما سمع الإجابة قفز مسرعاً وعانق الملك قائلاً: مرحباً، مرحباً، أنت سيدي إدريس ولد سيدي المهدي، مرحباً مرحباً، وأخذ يردد الترحاب والتساؤل في استغراب.

إن هذه الصفات الرائعة تدلنا على جوانب مضيئة في شخصية الملك إدريس الإسلامية وحبه لمعالي الأمور واهتمامه بالتواضع والبساطة، كما تدلنا على أنه تحصل على قسط من التربية الإيمانية من حركة أجداده الميامين الطيبين الطاهرين.


مراجع المقال:

  1. علي محمد الصلابي، الثمار الزكية للحركة السنوسية، دار الروضة، إستانبول، 2017. 
  2. محمد طيب الأشهب، إدريس السنوسي، دار العهد الجديد للطباعة، القاهرة.
  3. محمد فؤاد شكري، السنوسية دين ودولة، دار الفكر، بيروت، ط1 1948.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى