ثقافة وأدب

السلاجقة ومشروعهم الإسلامي الحضاري (مراجعة في كتاب السلاجقة للدكتور علي الصلابي)

طالب الدغيم

كاتب وباحث سوري
عرض مقالات الكاتب

إذا أرادت أمتنا العربية والإسلامية أن تنهض من ثباتها لا بد لها من مراجعة تاريخها وتفحص صفحاته بكل صورها من إنجازات عظيمة وإخفاقات مريرة، لتستخلص منها الفوائد والدورس وتتعلم من العثرات في حاضرها وتستشرف آفاق مستقبلها. وبناء عليه، وفي إطار الإنتاج المعرفي الكبير للمؤرخ الليبي الدكتور علي محمّد الصّلابي، أردت إعداد مراجعة لكتابه الموسوم بـ (دولة السلاجقة وبروز مشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي).

لقد فرضت خصوصية المرحلة المعاصرة إجراء مراجعة تاريخية ومنهجية لهذا الكتاب الذي ألفه الدكتور الصلابي عن تاريخ دولة ولدت في ظروف في غاية الخطورة  والتعقيد عاشتها الأمة بين أعداء داخليين (الفاطميين – البويهيين) وخارجيين (مغول وصليبيين). وساهم الأتراك السلاجقة بالتصدي لتلك الأخطار، سواء الخطر البويهي الذي قوض أركان الخلافة وأوهن سلطتها في بغداد، أو الخطر الصليبي البيزنطي والفرنجي، الذي وقف السلاجقة سدًا منيعًا في وجهه، وكسروا كبريائه في معركة تاريخية فاصلة انتصروا فيها (حادثة ملاذ كرد).

ومن هذا المنطلق، جاءت أهمية إعادة قراءة كتاب تاريخ السلاجقة، إذ يحيط المُؤلِف في كتابه بالظروف التاريخية التي رافقت قدوم الأتراك إلى المشرق العربي، ويغوص في أعماق تجربتهم السياسية والحضارية في العراق والشام ودورهم في إعادة هيبة الأمة الإسلامية وصون هويتها وكرامتها.  

أولًا: مراجعة الأفكار التي ناقشها المؤلف في الكتاب

يُقسم الدكتور علي الصلابي كتابه إلى خمسة فصول، ويتفرع عن كل فصل مجموعة من المباحث، حيث يتناول في الفصل الأول أصول السلاجقة وسلاطينهم وموطنهم الأول، وكيف بدأت اتصالاتهم بالعالم الإسلامي، ويذكر الدول السامانية والغزنوية والقرخانيين، والبويهيين وإهانتهم للخلفاء العباسيين وصلاتهم بالقرامطة. وكيف شكلوا إقطاعات عسكرية ودورهم في حركة التشيع وإثارة النعرات الطائفية فيها. وكيف اجتمع السلاجقة على خلافة أرطغرل واتساع رقعة دولتهم في عهده من حدود فارس حتى الأناضول. وتاريخ ألب أرسلان القائد السلجوقي البطل، وجهاده وحملاته على الشام وموقعة (ملاذ كرد) وانتصار المسلمين فيها. كما تناول المؤلف في هذا الفصل التنظيم الإداري والحركة الاقتصادية والعلمية لدولة السلاجقة في عهد الوزير نظام الملك. وتناول أيضاً عهد التفكك وانهيار الدولة السلجوقية، وجدير بالذكر في هذا الفصل هو تسليطه الضوء على مراحل تشكل قوة وانهيار حكم السلاجقة، والتركيز على المشروع الإسلامي الحضاري الذي تبناه الوزير السلجوقي نظام الملك في عهود السلاطين ألب أرسلان وملكشاه.   

أما الفصل الثاني، فقد تناول المؤلف فيه نظام الوزارة في العهد السلجوقي وأبرز أقطاب الوزراء فيه، حيث درس نظام الوزارة العباسية في العهد السلجوقي، وصفات الوزير لدى الخليفة العباسية، ومن ثم صفات الوزير في بلاط السلاطين السلاجقة. وتناول مراسم تقليد الوزير العباسي والسلجوقي وألقابهم، وصلاحيات كل وزير، وأشهر وزراء الخلفاء العباسيين والسلاجقة (عميد الدولة بن جهير والحسن بن علي بن صدقة، وفي بلاط السلاجقة نصير الدين أبو المحاسن والسميرمي والخازن).

وتناول في الفصل الثالث أسس الإدارة العسكرية والنظم الحربية عند السلاجقة ومقومات الفكر الحربي السلجوقي والتنشئة العسكرية للأبناء وفكرة الجهاد في سبيل الله والإعداد المعنوي للجيش، وأقسام الجيش السلجوقي والتعليم والتدريب العسكري والجواسيس والإسناد الطبي، ورايات السلاجقة وشعاراتهم، والأسلحة والتحصينات الحربية الخفيفة والثقيلة، وصناعة الأسلحة ومخازنها، وتأثيرات النظم العسكرية للسلاجقة في الدول الإسلامية اللاحقة كالزنكيين والأيوبيين والمماليك. وكذلك تناول دور المرأة السلجوقية ولا سيما زوجة أرطغرل وتركان خاتون زوجة ملكشاه وقهرمانة المقتدي والعالمات والواعظات في العهد السلجوقي.  

وتناول في الفصل الرابع نشأة المدارس النظامية في عهد السلاجقة، وأهدافها التعليمية وأثرها في العالم الإسلامي، كما تحدث عن دور علماء المدارس النظامية وشيوخها وترجم لهم وذكر سيرهم، بشكل واسع ومفصل، ومن أهمهم؛ الإمام الشافعي، والإمام الترمزي، وأبو إسحاق الشيرازي وعبد الملك الجويني، الأشعري، والإمام الغزالي، والإمام البغوي، وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي.

أما الفصل الخامس والأخير، فقد تناول فيه المؤلف الجذور التاريخية للحروب الصليبية واستمرارها في الإمبراطورية البيزنطية والصليبية وصولًا للعهد الاستعماري، وتناول أيضاً الحروب الصليبية من حملة العامة (الغوغاء) وحملة الأمراء إلى تأسيس الإمارات الصليبية على الساحل الشامي، وأسباب نجاح الحملة الصليبية الأولى، وتناول حركة المقاومة في العهد السلجوقي ما بين الغزو الصليبي وظهور عماد الدين زنكي وتحدث عن دور الأمراء والعلماء والشعراء المسلمين في المقاومة والتصدي للخطر الصليبي. ووصل في آخر فقرة من هذا الفصل لنتيجة مفادها أن الباطنية تعد من أخطر معوقات الجهاد الإسلامي على الإطلاق.

ثانيًا: مراجعة منهج المُؤلف في الكتاب

يقع كتاب دولة السلاجقة للدكتور علي الصلابي في مجلد واحد من القطع الورقي متوسط الحجم، ويبحث الكتاب في تاريخ الدولة السلجوقية، وفي مرحلة مهمة من تاريخ الشام والعراق، وذلك عندما قاوم الأجداد السلاجقة التغلغل الباطني، وتصدوا للغزو الخارجي، ومن قراءة فاحصة لهذا الكتاب تظهر لنا أبرز القواعد المنهجية التي استند إليها المؤلف في عمله:

  • الشمولية في سرد الأحداث التاريخية:

شكلت فصول الكتاب منجمًا تاريخيًا غنيًا لأهم ما مرَّ بتاريخ السلاجقة وبدايات ظهورهم واتصالهم بالعالم الإسلامي، بل ومهد لما قبل ظهورهم في ذكر الإمارات السامانية والغزنوية والبويهية. والعوامل التي أثرت في انتقالهم إلى المشرق العربي (دار الخلافة). وفي إطار الشمولية التي تمتع بها الكتاب، نذكر بعض الأمثلة الدالة على ذلك، كذكره أصول النظام العسكري السلجوقي، وترجمة المصطلحات العسكرية واستخداماتها، ودور المرأة في العهد السلجوقي، فأورد فتاوى المرأة في كتاب الإمام الغزالي (التبر المسبوك)، وذكر أيضاً مواقف المسلمين من اختلاط النساء والرجال في ذلك الزمان (دولة السلاجقة، 343 – 348)، وتحدث عن المدارس النظامية بطريقة تفصيلية، وذكر أهم رموز الحركة العلمية والعلماء في المدارس جميعهم. ومن باب الشمولية التي تُميز الصلابي في كتاباته هو ربطه التاريخي المتسلسل لمجريات تاريخ السلاجقة وحضارتهم، وكيف ساهم السلاجقة بتخليص الأمة من أذى الصليبين وتأسيس جيل لإنقاذ الأمة من أعدائها.

  • التنوع في الأفكار والمواضيع التاريخية:

يتناول المؤلف مواضيع الكتاب ويسرد الأحداث فيها، فتارة يوجز، وتارة يتوسع، فنجده يتحدث بإيجاز عن الدول التي سبقت ظهور السلجوقية كالسامانية، وكذلك في حديثه عن أثر نظم السلاجقة الحضارية في الدول الزنكية والأيوبية والمملوكية سواء في أنظمة ترتيب الجند والفنون القتالية أو الإقطاع العسكري والتربية الجهادية. وفي مقابل ذلك، يتوسع في حديثه عن أفكار الكتاب إذا خدمت النص كما في ذكره لتاريخ البويهيين أو رواد الحركة الفكرية في المدارس النظامية (سير الإمام الشافعي والأشعري والغزالي…).   

  • الأمانة العلمية في البحث والتوثيق المنهجي:

كان المؤلف يتمتع بالأمانة العلمية في منهجه، فنلاحظ نقله الدقيق في الهوامش لكل معلومة مأخوذة من مصدر أو مرجع قديم أو معاصر، ومثال ذلك في صفحة واحدة، نجد في الصفحة (32) من الكتاب أنه يوثق لخمسة مراجع، ليست مأخوذة من مرجع واحد كما يفعل غالبية المؤرخين المعاصرين؛ ففي هذه الصفحة يعتمد الكاتب على كتاب العالم الإسلامي في العصر العباسي وسِير أعلام النبلاء والكامل في التاريخ والدولة السلجوقية منذ قيامها، والتوثيق يظهر بوضوح لأي طالب باحثٍ أراد اقتباس معلومة من مصدرها.

وكذلك يوثق الأسماء داخل النص، فعند ذكر الوزير أبو شجاع محمد الروذراوي يرى بأن ابن خلطان تحدث عن حاله في الخلافة، وابن كثير عن صفاته في الإدارة والسيرة، والذهبي عن عدله ومعاملته للناس، ونجد ذلك في الصفحتين (261 -262). وكذلك اعتمد في المشتق اللغوي للأسلحة وأصولها التاريخية على الكتب المختصة بهذا الشأن كما في حديثه عن الجاويشية وأصلها التركي في كتاب النظم الحربية عند السلاجقة (306). وفي الترتيب المنهجي، أورد تعاريف بمصطلحات تخدم السياق مثل: تعريف النفاطون والمنجنيقيون والدبابون معتمدًا على المؤلفات الحربية (كتاب الحرب عند العرب وتاريخ السلاجقة والنظم الحربية في ص 310).

ثالثًا: في نقد الكتاب ومنهجه:  

لا يخلو أي كتاب من ثغرات أو هفوات منهجية ومعرفية بحاجة لاستكمال من كتاب ومؤرخين لاحقين، فكيف للمؤرخ أن يكون كاملًا!؟ وكيف يمكنه الإحاطة بكل ما حدث ويضع تصورات لما سيحدث؟ وكم له أي يُشرّح تاريخ مرحلة دون عنها عشرات المؤلفات وتواتر عنها الكثير من الأساطير والقصص منها الواقعي والخيالي ومنا الصحيح والرديء؟

وفي قراءة نقدية في منهج الكتاب وطريفته يمكن القول: 

  1. يتمتع الدكتور علي محمّد الصلابي بأسلوب علمي توثيقي رصين في كتاباته التي أصبحت تشكل جزءاً مهماً من التأليف الموسوعي في التاريخ، ولكنها تحتاج منا إلى نشر مختصرات على شكل مقالات صغيرة وإضاءات معرفية على منصات التواصل الاجتماعي حتى تصل إلى مختلف المكونات الاجتماعية والفئات العمرية في العالم العربي والإسلامي.
  2. يتسم كتاب السلاجقة بطابع السردية التاريخية في محاوره دون التعرض لبعض القضايا الإشكالية وتحليلها، كما في حديثه عن وضعية المرأة في العهد السلجوقي، فعلى الرغم من اعتراض رجال الدين والدولة لمشاركة المرأة، إلا أن نساء السلاجقة ساهمن في دور بارز في السلطة والفكر والوقف والجهاد آنذاك.  
  3. استعان المؤلف بمراجع علمية مترجمة ومعربة لتعويض النقص الحاصل من المراجع التاريخية الأجنبية، لأن الأحداث التي ذكرت في الكتاب وخاصة ما يتعلق بتاريخ الأتراك السلاجقة مكتوب باللغات الأخرى ولا سيما الفارسية، كما تناولت كتابات أخرى الحروب الصليبية باللغات الفرنسية والإنكليزية، ولا بد من العودة إليها وبذلك قلت المراجع الأجنبية، ونذكر من الكتب المترجمة التي اعتمد عليها(الشرق الإسلامي في العصر الوسيط للكاتبة نيكيتا إيليسف، ترجمة منصور أبو الحسن وسميل في كتاب الحروب الصليبية الذي ترجمه سامي هاشم 1982، وكتاب الصليبيون في الشرق لميخائيل زابوروف الذي ترجمة إلياس شاهين 1986).

وفي نهاية المطاف، يمكننا اعتبار كتاب “دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي” بمثابة وثيقة تاريخية وحضارية حقيقية، وقد تناول في سياقاته ردوداً على أكاذيب وافتراءات بثتها الفرق المعادية للمسلمين (لا أصل لها تاريخًيا)، فكان لها خطر على عقيدة المسلمين وهويتهم ووحدتهم، وركز الدكتور الصلابي على شمولية الإسلام ولم يهتم بالتعدد الاثني، وانبرى لمهمة حفظ هيبة الدولة الإسلامية وهوية الأمة وتراثها والزود عن تاريخها وقادتها وقِيمها وجهادها، من باب حرصه على الأمة التي تفيأت في ظلالها جميع الطوائف والاثنيات والعصبيات في دولة واحدة امتدت سلطتها على معظم قارات العالم.

المراجع:

علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، (بيروت، دار المعرفة، 2006)، عدد الصفحات 623.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى