بحوث ودراسات

المسألة الشرقيّة

عامر الحموي

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

المسألة الشرقيّة (1):

يعرّف المرحوم مصطفى كامل باشا المسألة الشرقية بقوله: “اتفق الكتاب والسياسيون على أن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع القائم بين بعض دول أوربا وبين الدولة العلية [العثمانية] بشأن البلاد الوقعة تحت سلطتها، وبعبارة أخرى هي مسألة وجود الدولة العلية نفسها في أوربا. وقد قال كتاب آخرون من الشرق ومن الغرب بأن المسألة الشرقية هي مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية منقطعة بين الدول القائمة بأمر الإسلام وبين دول المسيحية. إلا أن هذا التصريح [ليس صحيح بالمطلق]، لأن الدول التي تنازع الدولة العلية وجودها لاتعاديها باسم الدين فقط بل الغالب تعاديها طمعاً في نوال شيء من أملاكها” (1).
و يميل عددٌ غير قليل من علماء التاريخ إلى أنّ مصطلح “المسألة الشرقية”، جاء من مؤتمر “فيرونا” (2)(Verona) في إيطاليا سنة 1822، ليشمل المشكلات الدولية المُعنيِّة بإضعاف الدولة العثمانية. و تزامن هذا المصطلح مع حرب البلقان(3) والقرم (1853- 1856) (4)، والتي تمخّض عنها استقلال اليونان عام 1862.
وقد كانت المسألة الشرقية والأطماع الاستعمارية، سبباً لمعظم المشاكل التي وقعت في العالم، من القرن السادس عشر إلى اليوم، و بلغت أقصى شدّتها لأوّل مرّة في التاريخ، بعد انهزام العثمانيين لأول مرة في معركة “كالنبرج” سنة 1658 أمام الدول الأوربية، و إبرام “المحالفة المقدسة” لتلك الدول، والتي أسفرت تلك المحالفة عن حروب عديدة مع الدولة العثمانية، انتهت بمعاهدتي كارلوفيتز (سنة 1699)، وباساروفيتز (سنة 1718)، اللتين جلا العثمانيون بمقتضاهما عن هنغاريا وترنسلفانيا و بوداليا و قسم آخر من صربيا.
ولم تكتف دول “المحالفة المقدسة” بضمّ البلاد المترامية الأطراف إلى أملاكها، بل رأت بأنّ الوقت قد حان، للقضاء على الدولة العثمانية قضاءً مُبرَماً. فاتّفقت على تقسيمها، و كادت تنجح في تحقيق آمالها، لولا مداخلة فرنسا في الأمر و نجاح المركيز “دي فيليف” (D. Philiph)، سفيرها في الأستانة، في إبرام معاهدة بلغراد، على ما يوافق مصلحة الدولة العثمانية (5).
لقد استطاعت دول الغرب الأوربي بعد نجاحها في استقلال اليونان عن الدولة العثمانية، أن تنقل أزمة الصراع إلى المشرق العربي بقصد إضعاف الدولة العثمانية من خلال إثارة النعرات الطائفية في بلاد الشام خاصّةً (6)، وقد تحقّقما أرادوه بفتنة أحداث عام 1860(7)، وما ترتّب عليها من قيام متصرّفية جبل لبنان، وذلك بموجب اتفاق دولي (8).
في ظلّ هذا الواقع دأبت روسيا في الوصول إلى المياه الدافئة (البحر المتوسّط)، وأمام ذلك ذهبت قوى الغرب (9) و خاصّةً بريطانيا إلى الحيلولة دون وصولها إلى غايتها، و خير من ساند الدولة العثمانية هو بريطانيا، بقصد صرف روسيا عن غايتها و أهدافها.
وهذا ما دفع روسيا مُمثَّلة بقيصرها “نيقولا” الأول (Niqulas) إلى زيارة السفير البريطاني السير “جورج هاملتون سيمور” (G. Simor) في العاصمة القيصرية سان بطرسبرغ، بتاريخ التاسع و الرابع عشر من شهر يناير سنة 1853، وفي أثناء الاجتماع الأوّل استعمل القيصر نيقولا العبارة الآتية: “الرجل المريض” لأوّل مرّة، وذلك عندما قال: “اِفتَرض أنّ لدينا رجلاً مريضاً، و إنّني أصارحكم القول إنّه إذا أفلت من بين أيدينا يوماً فإنّ الأمر ينقلب إلى كارثة لاسيّما قبل أن نكون قد أخذنا جميع الاحتياطات” و إلى هذا اللّقاء يعود تاريخ ميلاد مصطلح (رجل أوربا المريض) (10).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، مصر، ط 1، 1898، ص 4.
(2) زين، زين نور الدين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط و ولادة دولتي سورية و لبنان، دار النهار، بيروت، ط 3، د ت، ص 22.
(3) السمك، عبد الكريم إبراهيم: “المؤرّخ و الصحفي أمين سعيد و صلته بالملك فيصل” (مجلة الفيصل، العدد 315، نوفمبر/ ديسمبر 2002م)، الرياض، ص 108.
(4) و هذه هي الحرب البلقانية الأولى، و وقعت بسبب تدخّل روسيا بأمور البلقان والأماكن المقدسة وقيام حلف ضدها قادته كلّ من بريطانيا و فرنسا حيث انتصرتا على الروس في حرب القرم. فريد بك المحامي، محمد: تاريخ الدولة العثمانية العلية، د د، القاهرة، ط 1، 1896، ص 278.
(5) داغر، أسعد: ثورة العرب ضدّ الأتراك (مقدّماتها- أسبابها – نتائجها)، تحقيق عصام شبارو، دار التضامن، بيروت، د ط، 1993، ، ص 27- 28.
(6) السمك: مرجع سابق، ص 108.
(7) إنّ أحداث سنة 1860 هي نهاية لامتداد صراع دام عشرين سنة بدأ سنة (1840) و كان هذا الصراع نتيجة طبيعية للتدّخل الأوربي في شؤون بلاد الشام، لكلّ من الدول التالية: (فرنسا، بريطانيا، بروسيا، النمسا)، وبعد نجاح التجربة الأوربية في بلاد القرم و البلقان، فقد جاءت أحداث لبنان، والتي انتقلت شرارتها إلى دمشق، و التي عرفت في دمشق بـ (طوشة النصارى) و دفع فيها المسلمون و النصارى ضريبة واحدة نتيجة للتدخّل الأوربي المباشر في سوريا في تلك المدّة، كان نتيجتها رسم الخارطة السياسية و الجغرافية لهذه المنطقة، بعد أن اقتطعت منطقة جبل لبنان من بلاد الشام ليتشكّل لها أوّل كيان سياسي منفصل، على شكل نظام عرف بنظام المتصرّفية. سعيد، أمين: سيرتي و مذكراتي السياسية، تحقيق عبد الكريم إبراهيم السمك،، ط1، د د، د م، 2004، ج 1، ص 41.
(8) في عام (1860) و بعد وقوع مذبحة أهلية بين النصارى و الدروز في بلدة دير القمر وفي مناطق أخرى في جبل لبنان، تدخّلت الدول الأوربية و خاصّة فرنسا، و وقّعت اتفاقاً مع الدولة العثمانية على منح جبل لبنان استقلالاً داخلياً واسع النطاق. و الدول الموقًعة على الاتّفاق هي كلّ فرنسا و روسيا و بريطانيا و النمسا وبروسيا (ألمانيا) سعيد، أمين: سيرتي و مذكراتي السياسية، المصدر السابق، ص 42- 43.
(9) السمك: مرجع سابق، ص 108.
(10) السمك: مرجع سابق، ص 108- 109.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى