صحافة

لماذا يتلعثم حسن نصرالله “الفصيح” حين يتحدث عن سوريا؟

لا تعوز حسن نصرالله الفصاحة، ولا النطق السليم الواضح، ولا انسيابية أفكاره وعباراته، حين يتحدث عن الحرب مع الإسرائيليين. بل ويبدو ممتلئاً بالزهو، في حين يكون صوته جلياً وعالياً.

أيضاً، إن تحدث عن إيران فهو بالغ الصدق في مشاعره وعواطفه، تعبيراً عن انتمائه الوجداني والديني والأيديولوجي. فإخلاصه عميق لـ “ولاية الفقيه” سياسياً وفقهياً. وهو بلا شك أحد رموز النظام وله مكانته الاعتبارية العالية فيه. هو ليس “تابعاً” بل شريك فعلي في تركيبة النخبة الحاكمة (مؤسسة ولاية الفقيه والحرس الثوري) وفي رسم السياسات في المنطقة.

وإذا تكلم في الشأن اليمني، وأبدى حسرة وألماً على الضحايا من الأطفال والنساء جراء الغارات السعودية – الإماراتية والمجازر اليومية، جاز لنا أن نصدق تعاطفه وتضامنه مع محنة ملايين اليمنيين في الحرب العبثية الدائرة هناك. وبغض النظر، عن انحيازه (وتورطه) في هذه الحرب إلى جانب الحوثيين، وهم السبب الأساس في خراب اليمن بالشراكة مع نظام علي عبد الله صالح، إلا أن حسن نصرالله يبدو “منطقياً” في إدانة الاقترافات والجرائم وقسوة الحرب ومآسيها، طالما أن ما يحدث في اليمن هو كارثة على هذا البلد وعلى السعودية ودول الخليج وكل الدول العربية. وهذا لا يلغي الخلاف الجذري مع قائد حزب الله إن أردنا محاكمة الذين أودوا باليمن إلى التهلكة. فعندها قد يكون نصرالله واحداً من المتورطين في هذه “المؤامرة” المدمرة.

وأما إن تحدث في شؤون دول الخليج، وتحديداً في السياسات السعودية فلا تعوزه الدلائل ولا البراهين على الأعطاب الكبيرة التي تكتنفها، خصوصاً في إدارة “العلاقة” مع الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً ومالياً. بل وفي علاقات السعودية مع حلفائها وأصدقائها، وأخطائها الاستراتيجية الفادحة.. حينها يتشاطر نصرالله بأريحية في نقده اللاذع والساخر. وهذا يجد آذاناً مصغية في العالم العربي.

في كل خطبه تقريباً لا بد أن تحتل “فلسطين” حيزاً فيها. وهو يبدو شديد الاعتقاد والإيمان بأيديولوجية محو إسرائيل من الوجود. ولديه انحياز تام لتصور تحرير فلسطين وفق رؤية قيامية ودينية وخلاصية، كما لو أنه سيكون حدثاً توراتياً بالمعنى الملحمي للكلمة. هو لا يفتعل تعبيراته العاطفية حين يتحدث عن اقتلاع إسرائيل من الوجود. لكن، المعضلة في تصوره الديني هذا، غالباً ما يكون منقطع الصلة عن إرادة الشعب الفلسطيني نفسه وعن الحقائق التاريخية. ففلسطين نصرالله متخيلة وحسب، وتحريرها وفق معتقده يشبه كارثة نووية تبيد الفلسطينيين والإسرائيليين معاً. لذا، هو بقدر ما يمسّ مشاعر الفلسطينيين ويحرك عواطفهم بقدر ما يخيفهم وينفرهم منه في آن معاً. أما الإسرائيليون فهم “معجبون” فعلياً بكاريزماه، إن في أسلوب أحاديثه أو في وضوح معانيه و”صراحته” وجديته. فهو يخاطبهم مباشرة ويؤثر فيهم. هو العدو الذي لا يستخفون به إطلاقاً. لذا، وبحافز منه وعلى عكس ما يشتهيه الفلسطينيون هم أكثر ميلاً للتشبه به، أن يكونوا أكثر أصولية وتديناً وتشدداً ويميناً متطرفاً.

في الشأن اللبناني، يُظهر نصرالله لغة متماسكة وثقة كبيرة. لا يكذب لكنه لا يقول الحقيقة. هو اللاعب الأقوى في الشطرنج اللبناني. “الأب الروحي” لجمهورية 2006 – 2019 وإلى زمن مقبل. “فائض القوة” لديه أفضل وسائله في الإقناع وهو يمارس دبلوماسية التسويات. فـ”اقتصاد العنف” عنده محسوب بدقة، طالما يكفيه التلويح به، أن يرفع إصبعه حتى “يقتنع” الجميع بما يريد. هو بنظر اللبنانيين السياسي الأول، ويضعونه في مرتبة أرفع من كل الزعماء والقادة المشوبة سيرتهم بالفساد والخطايا وانغماسهم بالصغائر. لكن هذه المرتبة يخالطها وجها الشر والخير. يروّج راهناً أنه الحريص على الاستقرار والسلم الأهلي وعلى الاقتصاد ومقدرات الدولة. بالطبع يحاول أن يجعل اللبنانيين يتناسون ما اقترفه جهازه ما بين خريف 2004 وحتى وقت قريب. وهو سجل محفوظ في المحكمة الدولية وفي ذاكرة الناس. وبهذا المعنى، صورة حسن نصرالله لبنانياً ستظل أبداً غير ناصعة وغير مقبولة عند شطر كبير من السكان.

في أي شأن يتكلم به حسن نصرالله سيبدو خطيباً مفوهاً ومقتدراً وواسع الحيلة، يطوع اللغة والمفردات كما يشاء. لكن، في كل خطبه من دون استثناء يتلعثم ويرتبك ويبتلع كلماته حين يتحدث عن سوريا. هذه هي مفارقته الفادحة.

صرالله السوري هو كارثة وفضيحة. سوريا هي الثقب الأسود للغة قائد حزب الله. عندما “يضطر” للحديث عن القضية السورية تتغضن عضلات وجهه، ويروح يلهج بعبارات ضبابية ومجردة. وأشد ما يفضحه أن نبرته العاطفية التي تصاحب أحاديثه عن اليمن أو البحرين أو إيران أو فلسطين.. تختفي تلقائياً ما إن يبدأ كلامه عن سوريا. تصعد الكلمات إلى شفتيه باردة وميتة. وعلى غير عادته في قاموسه الواسع، تضيق عبارته السورية، فيتحول إلى ترداد بضعة مفردات خشبية معلوكة: محور المقاومة، المؤامرة الكونية، التكفيريين، الإرهاب.. وبشار الأسد.

أظن أنه ما إن يفكر بالحديث عن سوريا، حتى يمسح من وعيه البلد كله والشعب كله، ويحولها إلى مجرد خريطة عسكرية بكماء ليس فيها ناس ولا أطفال ولا نساء ولا شباب ولا رجال ولا بيوت ولا بساتين ولا شيء. مجرد موقع عسكري، خلاء وأرض غنيمة وربما مرقد ديني وحسب. قد يبكي على مشهد الطائرات التي تقصف صعدة، لكنه يحذف على الفور عشرات آلاف البراميل المتفجرة الساقطة على مئات آلاف المدنيين في سوريا. قد يبكي على قتل الإسرائيليين لطفل أو شاب فلسطيني، لكنه يلغي تماماً كل مشاهد وصور الإبادة الجماعية في سوريا. قد يحزن على اعتقال معارض بحريني (وعن حق نشاطره الحزن)، لكنه يتعامى تماماً عن ذبح عشرات الآلاف من المعارضين المعتقلين في أقبية المخابرات السورية.

أن يبتلع نصرالله كل هذا التناقض “الأخلاقي”، لا شك أنه عمل شاق يكابده في دخيلته، كي لا يقع في اضطراب أخلاقي منهك. ولذا، فهو يخسر كل براعته الخطابية لحظة تلفظه سوريا. ويخسر بالتالي كل صواب مفترض يعتنقه إن في فلسطين أو في اليمن أو حتى في فنزويلا. فلا يشفع حنانك تجاه طفلك حين تعمل سكينك بأطفال الآخرين. و”أزمة” نصرالله ليست وخزاً في ضميره، بل في عجزه عن إقناع جمهوره أولاً في ورطته السورية، طالما أن هذا الجمهور لديه معرفة تامة وخبرة معيوشة مع قذارة النظام السوري وإجرامه ونذالته. يكفي هنا تذكيره بخطبه الأولى في آذار ونيسان 2011 عن حق الشعب السوري بأن يرى إصلاحاً في نظامه، وحماسته لثورات الشعوب العربية، قبل أن ينحاز بكل برودة دم إلى الحرب الكونية الفعلية على الشعب السوري.

ليس حسن نصرالله دجالاً أو كاذباً. إنه نموذج المتعصب “الأيديولوجي” في نظرته إلى “الحق والخير” بوصفهما حقه وخيره حصراً دون الآخرين. وهذا ما يتيح له تسوية مريعة مع ضميره

يوسف بزي-موقع سوريا

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي كاتب المقال وليس عن رأي موقع رسالة بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى