(الأُخوّة) بين الاحتكار والشرع

ما زلت أتناول بعض المسائل التي تلفت الانتباه، والمتعلقة بتصرفات أو سلوكيات عندنا في الأوساط الاسلامية، والتي نقع فيها بشعور أو بلا شعور، مما قد تؤدي إلى نتائج سلبية، وعواقب وخيمة، ومن بين هذه الأساليب المستحدثة الغريبة، هاتان العباراتان اللتان تُستعملان عند كثير من المتدينين على اختلاف مشاربهم، على كل من كان مثلهم، ظاهرا و شكلا و هنداما، و هما عباراتا ( الإخوة والأخوات ) أو لفظ ( الأخ ) و ( الأخت ) فقد وقعوا في احتكار هذا الوصف أي وصف الأخوة الا في من رضوا عنه، و ووافقهم على منهجهم أو قناعاتهم ،أو شكلهم الظاهر ، بينما من كان مخالفا لهم ، عن قصد أو عن غير قصد فلا يمكن أن يصفوه بالأخوّة ، الا مِنّة أو مجاملة !! وذلك تحت تبرير ( الولاء والبراء ) كما يزعمون ،أو تحت فلسلفة ( الحب في الله والبغض في الله ) كما تصوّر لهم عقولهم السّطحية ، وهؤلاء ممن ابتليت الأمة بهم ، في هذا الزمان الأغبر ، إنهم أهل احتكار لكل شيء !!
وإن كان الاحتكار في التجارة محرّما ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم( لا يحتكر الا خاطىء) إلا أن هؤلاء يحتكرون الدين كله ، فلا يملك الحقيقة الا هُم ، وليس على المنهج الصحيح الا هم !! ولا ناجي من البدع في الدنيا ومن النار في الآخرة الا هم !! ولا يعرف الحق إلا هم !! حتى احتكروا مرة اخرى الأخوة فيهم هم ، و أخرجوا من لم يكن مثلهم من دائرتها الواسعة الشاسعة!! فالتضييق في كل شيء من أبرز صفاتهم ونعوتهم !!
ولكن بين ضيقهم وتضييقهم و سعة الشريعة ، كما بين السماء والأرض!!
فالأخوّة في الشرع أنواع كثيرة ، ومتفاوتة وثابتة ، وإليكم أنواعها بالأدلة الشرعية:
1-الأخوة الإيمانية:
وهي أعلى أنواع الأخوّات، لقوله تعالى بأسلوب التوكيد والحصر( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) أي ماهم الا إخوة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم( المسلم أخو المسلم ) ، وهنا تثبت الاخوة بمجرد انعقاد شرط الاسلام والإيمان وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستدلال البعض بآية التوبة ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ ) استدلال فاسد ، لأن الآية تتكلم عن الوثنيين المشركين ، ولا بد من العودة إلى سياقها ، ولا يجوز بترها ولا إخراجها من ذلك السياق ، على أن قوله عز وجل ( فَإِن تَابُوا ) أي من الشرك وهو عبادة غير الله تعالى .
ومن أعظم القواعد في هذا الباب : أن الأخوة الإيمانية لا تنتفي أي لا تزول الا بالكفر المخرج عن الملة!! بمعنى أن المعاصي ولو اجتمعت في شخص ، حتى ولو كانت من الكبائر فإنها لا تخرجه من الملة ما لم يستحلّها ( والاستحلال مسألة اعتقادية قلبية ) ، فالعاصي أخ لنا ونحن اخوانه، ولذا لم تنتف الأخوة في الشرع حتى بين المقتول وقاتله، كما قال سبحانه في آيات القصاص من سورة البقر ة( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ ) .
ولما مرّ أبو الدرداء رضي الله عنه، على طائفة من الناس قد اجتمعوا على رجل بالسبّ والشتم و العتاب ، وقف وقال لهم : أرأيتم لو أنه سقط في بئر ماذا كنتم تفعلون ؟ قالوا: نخرجه منها !! فقال : فصاحبكم هذا سقط في بئر المعصية ! قالوا يا أبا الدرداء ألا تُبغضه؟ قال : أبغض عمله ، والا فهو أخي !!
هكذا كان السلف الصالح رحمهم الله،كانوا أعرفَ الناس بالحق، وأرحمَ الناس بالخلق !!
وهم يفرقون بين البراءة من العمل والبراءة من العامل ، فكون الانسان يكره المعصية في العاصي شيء ، أما أن يكره الشخص شيء آخر!! قال عزو جل( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) ) ولم يقل فقل إني بريء منكم !!
وما جاءت البراءة من الأشخاص الا من المشركين الوثنيين بعد إقامة الحجة عليهم كما في أية سورة الممتحنة ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) فأين هذا من صنيع هؤلاء ؟؟؟
اذن الأخوة الإيمانية ثابتة بين كل المؤمنين والمسلمين ،لا يمتنّ بها أحد على أحد ، لأن الله هو الذي قرّرها وحكم بها ،فهو حكم من الله ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) ) .وعلى هذا فتارك الصلاة أخونا في الدين ( وهو قول جماهير العلماء ) و حالق اللحية أخونا ، والمتبرجة أختنا، وسائر عصاة المسلمين جميعا إخواننا بلا استثناء !!
واحتكار هذا الوصف فيمن وافقنا فقط جناية على الشرع وعلى الخلق !! تؤدي بأصحابها إلى آفة أصيبوا بها ، وهي آفة التصنيف ( تكفيرا أو تفسيقا أو تبديعا أو استعلاء على الناس بالطاعة أو غير ذلك من الآفات …).فضلا عن النتائج التي تنجر عنها ، والتي منها العنف و القتل والخراب والدمار للمجتمعات ، وما يقع في ليبيا الا نموذج على سلبية هذا الفكر الخطير ، وقبلها في الصومال و فصائل الافغان، والجزائر و غيرها من بلاد المسلمين التي اكتوت ولا تزال بهذا الانحراف في المفاهيم .
2- أخوة النسب :
أي قرابة الدم ، وهذه لا اشكال فيها ،مهما اختلف الأخوان أو الإخوة، وما قصة ولدي آدم الا دليل على ذلك كما قال تعالى ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) ) .
وكذلك قصة يوسف عليه السلام مع إخوته.
3-أخوّة الرضاع :
وهذه أيضا أثبتها الشرع ،قال تعالى ( وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وقد وضع حجرا ليعرف به قبره ( لأعرف به قبر أخي وادفن عنده من مات من أهلي ) وبين النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن مظعون أخوة رضاع .
4- الأخوة الإنسانية:
وهذه ثابتة أيضا ، فالإنسان أخو الانسان، لأن البشر جميعا انحدروا من آدم وحواء ، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ …..) .
5- الأخوة القومية:
فإن الإنسان اذا كان من بلد أو قوم أو عشيرة أو قبيلة ، فهو أخ لهم وهم إخوانه ولو خالفوه في الدين والعقيدة ، ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى أثبت هذا النوع من الأخوة بين الرسل عليهم السلام و بين أقوامهم الذين كذبوهم و كفروا بهم ، قال تعالى( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)) وقال عن هود ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)) وقال عن صالح عليه السلام ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) ) وقال أيضا عن لوط عليه السلام (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) ) وقال عن شعيب عليه السلام ( ۞ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ ) ولذا لما ذهب الى أصحاب الأيكة لم تذكر هذه الأخوة فقال ( كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) ) لأنه لم يكن منهم !!
وهذه الأُخوّة تترتب عليها عدة مسائل فقهية تتعلق بالمعاملات، في تفصيل طويل ليس ههنا موضع بسطها.
وقد سمعت مرة شخصا يتطاول على الشيخ القرضاوي ويقول (انه يؤاخي بين المسلمين والنصارى) لأن الشيخ قال مرة (إخواننا الاقباط) وطبعا قصد الشيخ الأخوة القومية والوطنية، ولا يقصد الأخوة الدينية، ولكن ذلك الشخص لا يميّز بين الثرى والثريا!!
6- أخوّة الكفر:
فالكفر ملة واحدة، كما جاء في الحديث، ودليل هذا النوع قول الله تعالى ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ….) .
7-أخوّة المشابهة والمشاكلة :
ودليلها قوله تعالى ( … وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)).
فهذه سبعة أنواع للأُخوة في الشرع ، أعظمها وأوثقها و أعلاها الأخوة الإيمانية، وهي من أعظم مِنن الله علينا كما ذكّرنا بها فقال ( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) .
كما أن الشارع قد يستعمل لفظ الأخوّة من باب التغليب ، والقيد الأغلبي لا مفهوم له كما قرر علماء الأصول ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) فهل هذا للمسلم فقط؟ لا قطعا كما قال الحافظ بن رجب في (جامع العلوم والحكم ) أن ذلك من باب التغليب الذي لا يفيد التقييد، ومن ذلك أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ) فهل يجوز البيع على بيع الكافر والخطبة على خطبته؟؟ لا ، قطعا، لأن لفظ (أخيه ) قيد أغلبي لا مفهوم له.
هذا عن لفظ الأخوة ووصفها ،بين احتكار المحتكرين، وشرع رب العالمين.