مقالات

تفاصيل مكالمة هاتفية من سيدة تركية عن أزمة اللاجئين السوريين تبكي الدكتور ياسين أقطاي

ياسين أكتاي

عرض مقالات الكاتب

تلقيت مكالمة هاتفية وأنا أسير في طريقي…نظرت إلى هاتفي لأجد رقما لا أعرفه، لكنه اتصل مرة قبل ذلك دون أن ألاحظ، أجبت المكالمة لأجد صوتا حزينا للغاية، أخذت سيدة تسرد قلة الحيلة التي تشعر بها دون أن تعرفني بنفسها أو تقص عليّ ما هي مشكلتها، فاعتقدت لوهلة أن هذه المكالمة مثل سائر المكالمات التي أتلقاها يوميا، ولهذا فقد استمعت إليها لبرهة بشكل روتيني لما اعتد عليه، ثم طلبت منها “”هل يمكنك أن تعرفيني بنفسك؟ ما هي مشكلتك؟””

سيدة تركية كان لها جار سوري يجاورها منذ سنوات، ومنذ أن سكن في حيهم اعتادوا عليه وصار جزءا من حياة كل واحد من سكان الحي، لدرجة أنه أصبح وكأنه فردا من أسرة كل ساكن في الحي.
تقول “”فعلى سبيل المثال عندما أمرض يهتم بي ويساعدني بالقدر الذي لا أراه من عائلتي””، ثم تضيف “”لقد حارب هو وأقاربه ضد ظلم نظام الأسد، والتنظيمات الإرهابية المتطرفة في سوريا، فقتل شقيقه، وأصيب هو في قدمه، والآن يعيش حياته الطبيعية، بعدما ركب قطعة من البلاتين، جاء إلى تركيا حيث سُمح له بالإقامة في إحدى مدنها، لكنه عجز عن توفير احتياجاته في تلك المدينة، ولهذا أتى إلى إسطنبول، ومنذ ذلك اليوم وهو يعيش في المكان ذاته.
كان وهو في سوريا رجل أعمال، لديه القدر الكافي من التجارة، لكنه الآن يعمل في أي عمل يجده في إسطنبول، أعمال نقاشة أو مقاولات أو ما إلى ذلك، وإذا ما جلس في منزله وهو جائع لا يخبر أحدا بأنه جائع أو أنه يحتاج المساعدة.
يحبه كل سكان الحي ويعتبرونه واحدا منهم، لكنه اضطر للاختباء بمنزله ما إن بدأت اجراءات إعادة ترتيب أوضاع السوريين قبل فترة قصيرة، والآن لا يخرج منه أبدا، لأنه لو عاد إلى المدينة المسجل بها، فإنه سيكون قد فقد الحياة التي أسسها لنفسه هنا، كما أنه استطاع توفير احتياجاته بطريقة ما بالعمل هنا، فماذا سيفعل هناك إذن؟ ولهذا فقد جمعنا التوقيعات نحن سكان الحي، لأننا لا نريد أن يتركنا جارنا السوري، فنقول للمسؤولين لا تأخذوا جارنا منا””.
حول صوت السيدة المتصلة وكأنها ستبكي بنهاية كلامها، وبالفعل بعدما أنهت كلامها بكت بكاء شديدا، ولا أخفيكم سرا أنني كذلك لم أستطع السيطرة على دموعي، وشعرت وكأن الكلام قد وقف في حلقي، فبلعت ريقي، ولم أستطع أن أرد عليها بشيء لبعض الوقت.
كان ما شعرت به كالمعجزة، فأنا أعلم أن الأصوات العنصرية التي ليس بها شفقة ولا رحمة، التي بدأنا نسمعها مؤخرا لا يمكن أن تكون أصوات أبناء هذا الشعب الأصيل، الذي نصر أناسا ظلموا وهجروا على مدار السنوات الثمان الماضية، وفتح أبوابه على مصراعيها لاستقبالهم.
لقد كانت هذه هي المعجزة التي ظهرت فجأة في وقت كاد الأمل فيه أن يختفي، فهذه هي المرة الأولى التي أتلقى فيها مكالمة كهذه من بين المكالمات التي تأتيني، ويحكي أصحابها آلامهم وطلباتهم الشخصية، إن هذا الصوت لم يكن يطلب شيئا لنفسه، بل لشخص آخر.. لم يكن يبكي على حاله، بل على حال شخص آخر، وبالرغم من أنني لا أسد أذناي عن الاستماع لمن يبكي على حاله، لكن مستوى التأثير والمستوى الإنساني الذي يمثله من يبكي على حال إنسان آخر، يثبت لنا عظمة أشرف مخلوقات الله على هذه الأرض.
لقد شعرت عندما سمعت صوت السيدة عائشة في الهاتف، وكأن الضمير والأخلاق الجميلة التي كنت قد ظننت لوهلة أنها قد اندثرت لدى شعبنا الأصيل، قد أشرقت من جديد كالشمس على ذلك المناخ الظلامي.
لقد بكى ذلك الصوت وتوسّل إليّ من أجل شخص آخر، عندما قالت “”أرجوك، يمكننا أن نرسل إليك التوقيعات التي جمعناها من أبناء الحي، لكننا لا نريد أن يأخذوا منا جيراننا، لقد اعتدنا على الحياة معهم””.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى