دين ودنيا

سنة الخلفاء الراشدين

بشير بن حسن

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

بعد السؤال عن معنى سنة الخلفاء الراشدين التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها والإلتزام بها ، وقد تباينت المفاهيم فيها لعدة أسباب ، أضع بين يدي القرّاء الكرام معناها اللغوي والاصلاحي ، مع الأدلة السمعية الأثرية والنظرية العقلية ، وبالله عز وجل التوفيق وعليه التكلان :

عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال :وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون , فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودعٍ فأوصنا , قال – أوصيكم بتقوى الله عزوجل , والسمع والطاعة وإن تأمر عليك عبد , فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة -رواه أبوداود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

ههنا قال عليه الصلاة والسلام ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ…)
والسنة في اللغة هي الطريقة والأسلوب ، وفي الاصطلاح بحسب لغة المستعمل لهذه العبارة ، فالأصولي ( عالم أصول الفقه ) يستعمل كلمة : السنة لما يرادف المندوب والمستحب والنافلة .
والفقيه ( عالم الفقه ) يستعمل كلمة السنة فيما يرادف المستحب أيضا لكن مع ما هو منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.

وعالم العقيدة : يستعمل كلمة السنة فيما يرادف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسائل الاعتقادية، خاصة الغيبيات.
و علماء الحديث : يستعملون كلمة السنة فيما يرادف كل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وأحوال تقريرات و أوصاف .
أما عن سنة الخلفاء الراشدين، التي ذُكرت في هذا الحديث، فالواحب في الاستدلال أن ينظر المستدل في سبب النزول إن كان قرآنا، وسبب الورود إن كان حديثا ، لماذا ؟ يعتقد البعض أننا نجهل أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ،وهذه نصف القاعدة في هذا الباب ،يسعد بها كل (أبي شِبر) في العلم ، ناهيكم عن المزكوم عن شمّ رائحته، !! والصواب ضمّ النصف الثاني من تلك القاعدة ألا وهي : أن معرفة السبب تورث فهمَ المسبَّب!! وقد قررها العلماء رحمهم الله، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه : (أصول التفسير ) .
وعلى هذا التقرير : فحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه آنفا، سبب وروده سياسي بحت، حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله في آخر عمره حينما أحسّ بدنوّ أجله ، ولذا تأثر الصحابة رضي الله عنهم حتى بكوا، وههنا أراد عليه الصلاة والسلام أن يضعهم على الطريق الصحيح في الشأن السياسي خاصة ، وأن تكون أمورهم منتظمة لا فوضوية ولا همجية، فيما يتعلق بالحكم واختيار الحاكم !!
فقال ( وعليكم بسنة الخلفاء الراشدين..) وكلمة : عليكم : اسم فِعل يفيد الوجوب ، كما هو مقرر في علم الأصول، والمعنى: التزموا بسنتهم ! فما هي سنتهم؟ قلنا السنة لغة هي الطريقة وأما في الاصطلاح ههنا فهي عدة أمور ، لا علاقة لها بجانب العبادات ، لماذا ؟ لأن العبادات توقيفية ولا دخل للاجتهاد فيها ولا للعقل فيها ، فهي تُتلقى من الله تشريعا و إجمالا، ومن النبي صلى الله عليه وسلم بلاغا وبيانا ، وأعني بعبارة لا اجتهاد في العبادات كقاعدة متفق عليها بين أهل العلم، أي لا اجتهاد في ابتداء سَنِّها أو تشريعها، أما الاجتهاد في ما يتصل بها من أحكام فرعية ، كالكيفيات فهذا يبقى مجالا اجتهاديا لذوي التخصص ، ولذا يختلفون في كيفية الصلاة و أحكام أعمالها، وفي كيفية الحج وأحكامه وهكذا في سائر العبادات .
إذن الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، لا يشرّعون شيئا من العبادات للأمة باعتبار أن العبادات من الله ورسوله ، اللهم الا في بعض ما يتعلق بوسائلها، فههنا يمكن ان نجد لهم بعض الاجتهادات ، كما زاد عثمان بن عفان رضي الله عنه الأذان الثاني في الجمعة لما توسعت المدينة وكثر الناس من أجل أن يتهيؤوا لها ( رواه البخاري ) .

وهاهي بعض سنن الخلفاء الراشدين:

1-احترام الأمة في اختيار من يحكمها ، وعدم الاستبداد وافتكاك السلطة، لذلك جعلوا الامر شورى في المسلمين ،ولذا ما استخلفوا حتى رشّحتهم الأمة تارة بالإجماع وتارة بالأغلبية ( ارجع الى كتاب البداية والنهاية للامام بن كثير ) .
والدليل على ذلك ، أيضا أن عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه لما بايع عثمان قال ( أبايعك على سنة الله ورسوله و سنة الخليفتين من بعده ) !! وما قصد ابدا الخيارات والاجتهادات الفقهية ، لأن ذلك غير وارد ههنا كما أسلفت ، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم من كلمة( السُّنة )المفهوم المشترك، الذي لا يُحصر في المظهر كما يعتقده الجهلة ، أو النوافل، أو غير ذلك ، بل عرفوا أن كلمة( السُّنة )في السياق السياسي تعني ،السنة السياسية، أو بعبارة أوضح السياسة الدستورية، ومما يؤكد ذلك ما يلي :

أ- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( أول من يغيّر سنتي من بعدي رجل من بني أميّة ) ( خرجه الألباني في السلسلة الصحيحة ).
والمراد بهذه السنة : السنة السياسية و كيفية تولي الحكم !!

ب- لما أرسل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه إلى واليه على المدينة مروان بن الحكم ، أن يعلن في الناس أنه يريد تولية ابنه يزيد من بعده ، فقام مروان على المنبر وخطب في الناس ، وقال إن أمير المؤمنين يعرض عليكم أن يكون يزيد بعده كما هي سنة أبي بكر وعمر قبله وأمركم شورى بينكم ) !! وهنا قام عبد الرحمان بن أبي بكر وابن عباس و عبد الله بن الزبير معترضين على هذا الطرح وهذا الاقتراح ، وقال عبد الرحمان بن أبي بكر( بل أردتموها على سنة قيصر وكسرى ) وفي رواية ( أردتموها قيصرية كسروية ، وان ابا بكر كان له أهل وعشيرة فعدل بها إلى رجل من بني عدي ( وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه ) !! ) وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، أن الخلفاء الراشدين كان لهم أبناء ولكنهم ما ورّثوا الحكم لأبناءهم لأنه لا ملكية في الاسلام ، وحتى لو سكت فقهاء تلك العصور فعلى مضض !!

2- ومن سنة الخلفاء الراشدين التداول السلمي على السلطة بلا سفك للدماء ولا إزهاق للأرواح، ولا خسائر بشرية ولا مادية .
وهكذا تداولوا عليها في أرقى نموذج إسلامي سبقوا به الذين يتشدقون بالديموقراطية اليوم بقرون من الزمن .

3- ومن سُنّتهم: نشر العدل والحكم به بين الناس ، وتحكيم شرع الله تعالى الذي يتحقق به الأمن والأمان، والرخاء والازدهار ، فخلافتهم كانت على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، وعزّ الاسلام في حكمهم، وتحررت شعوب بشرية في تلك الفتوحات العظيمة، من طواغيتها التي سامتها سوء العذاب لمدة قرون ، فقد كانت فعلا فتوحات تحريرية للبشر من الظلم والاستبداد والعنصرية بما يجب أن نفخر ونعتزّ به ما بقيت الدنيا .

4- ومن سُنّتهم: القبول بمن عارض سياستهم والتعامل معه بالعدل والحكمة والقانون ، ولذا اعترض الناس على أبي بكر في إرساله جيش أسامة وما سجن ولا نكّل بمعارضيه ، واعترض بلال على عمر في الأرض المفتوحة وكان بلال يؤلّب عليه الناس!! حتى أن عمر كان يقول : اللهم اكفني بلالا!
بل اعترضت امرأة على سياسة عمر لما أراد أن يحدد كمية المهر !! وقرأت عليه قوله تعالى ( وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ ) فقال عمر : اللهم غفرا!! كل الناس أفقه من عمر !! أصابت المرأة وأخطات !!
ولما ابتلي عثمان بالثوار، وبدأ الخوارج يُطلّون برؤوسهم، لم يسجن منهم أحدا ولا قتل منهم أحدا ولا نفى منهم أحدا وكان قادرا على ذلك .
ولما اشتدت شوكتهم في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقبل أن يتخذ قراره الأخير في قتالهم بعد استشارة الصحابة في شأنهم، قال لهم ( إن لكم علينا ثلاث : أن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدؤونا به ، وأن لا نحرمكم من الفيء(من بيت مال المسلمين ) وأن لا نمعكم مساجدنا ) !!

5-ومن سنتهم : تلك الإنجازات الرائعة التي في سياساتهم العادلة الرشيدة ، من وضع الديوان، وتوزيع الثروة على الناس توزيعا عادلا ، والرحمة بالرعية، حتى وجد الحيوان حقه في زمانهم كما قال عمر رضي الله عنه ( لو أن بغلة عثرت في العراق لخشيت أن يسألني ربي عنها يوم القيامة ) !!

هذه بعض سنن الخلفاء الراشدين المهديين، التي أُمرنا باتباعها، فإن كلمة( سنة الخلفاء الراشدين): مفرد مضاف يفيد العموم في علم الأصول، لذلك قلت هي كثيرة وقد ذكرت شيئا منها لضيق المقام.
وشتان بين خلافتهم، وعدلهم ورحمتهم وبين أدعياء الخلافة اليوم من هؤلاء المرتزقة المجرمين من دواعش ومن لفّ لفّهم، أسأل الله العظيم أن يبيد وجودهم و يستأصل شأفتهم ويريح العالم من شرهم.
قلت ذلك لا للمقارنة معاذ الله، بل دفعا للأوهام التي تتسلل كل مرة الى كثير من عقول الشباب نتيجة العواطف الدينية الخالية من لسان الشرع والعقل .

ألم تر أن السيف ينقص قدره * اذا رأيت السيف أمضى من العصا .

والله من وراء القصد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى