بحوث ودراسات

تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية” 8 من 12

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

ولقد فات هذا الأحمق الكذاب الذى يزايد على اتهام الرسول والقرآن بكل تهمة سخيفة لامنطقية حتى يظل رائجا عند أسياده الذين فتحوا بلادهم وخزائنهم له ولأمثاله، لقد فاته أن القرآن لم يكن مكتوبا بلغة يجهلها جامعوه، بل كان مكتوبا بالعربية من أوله لآخره. ثم إنهم لم يكونوا يراجعون نصا مجهولا لديهم، بل نصا يقرأونه صباح مساء ويعرفونه كما يعرفون ظهور أكفهم حسب التعبير الإنجليزى، أو كما يعرفون أبناءهم كما جاء فى القرآن المجيد: يقرأونه فى الصلوات، ويقرأونه تعبدا لربهم من صدورهم مباشرة أو مستعينين مع ذاكرتهم بالمصاحف التى كانت تحت أيدى الكتبة منهم، ويقرأونه لكيلا يتفلت من ذاكرتهم بعد أن حفظوه قربى إلى الله سبحانه وتبركا به وسعيا وراء الاطمئنان الروحى. ثم هل كان القرآن بالنسبة للمسلمين فى ذلك الحين، وهو الذى يعالج قضاياهم الحية وينزل أمامهم من السماء على رسولهم جوابا على أسئلتهم أو حلا لمشاكلهم أو حكما فى الوقائع التى شهدوها وكانوا جزءا من مشهدها، هل كان القرآن يشبه كتب الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل بالنسبة للرجل الأجنبى عن الفرنسية والفلسفة جميعا، تلك الكاتبة التى أظن أن الرجل قد أورد اسمها هنا على سبيل التفاخر بأنه “فلفوس” كبير يقرأ كتب الفلسفة ويفهمها، وأنه بعدما انتهى من قراءة ديكارت وفولتير وروسو وأضرابهم من الفلاسفة الكبار تحول إلى فايل ومن يشبهها من فلاسفة وفيلسوفات آخر زمن؟
فانظر إلى ما قاله ذلك الأفاك وما نقوله نحن أيها القارئ الكريم، وهو الصدق الذى نعرفه من أخبار التاريخ ومن واقعنا الآن أيضا إذ نحن نحفظ القرآن فى صغرنا على أيدى فقيه الكتاب عن ظهر قلب، ونظل نتلوه حتى لا ننساه: نتلوه سردا من الذاكرة أو مطالعة فى المصحف. ورغم أن الشيخ الذى نحفظ القرآن على يديه يكون فى كثير من الأحيان أعمى أو أميا فإن عملية التحفيظ تتم بكل دقة وحساسية بحيث لا ينطق الحافظ أو يحفظ حرفا واحدا على غير ما ينبغى. ولقد بلغ اهتمام المسلمين بالقرآن حتى فى عصرنا هذا الذى نحتل فيه قاع التخلف الحضارى والثقافى مع المتخلفين من أمثالنا أن كثيرا جدا من المسلمين غير العرب فى أفريقيا وآسيا يحفظون القرآن حفظا عجيبا لا يخرمون منه حرفا، بل ويجوّده بعضهم ويتغنى فى ترتيله ككبار القراء فى البلاد العربية، رغم أنهم لا يفهمون منه شيئا. فإذا كان هذا الإعجاز يحدث أمام أعيننا وعلى مسمع منا فما بالنا بالصحابة فى عصر الرسول وعقب موته حين كان الإسلام فى عنفوان حيويته، والتحمس له قد بلغ الغاية التى لا غاية بعدها لمستزيد؟ إن هؤلاء الصحابة قد فتحوا العالم رغم إمكاناتهم الصفرية وكسروا ظهر القوى العالمية الكبرى التى كانت تسيطر على المنطقة آنذاك، وتمثِّل الحضارةَ فى أقوى مظاهرها، فهل يصح أن نظن مع هذا المتنطع ثقيل الظل أنهم يعجزون عن القيام بتلك المهمة الصغيرة؟
ثم هل كان المسلمون يا ترى يعيشون فى قمقم بعيدين عن سمع العالم وبصره وأنفه حتى إنهم ليصنعون كل تلك المصائب فى كتابهم دون أن يعرف بذلك الآخرون المتربصون بهم داخليا وخارجيا من يهود ومجوس ونصارى ومنافقين وشعوبيين وملاحدة وزنادقة والذين بلغ بهم الحقد ضدهم أن يفتروا عليهم الكذب فى كل شىء وألفوا الكتب فى ذلك؟ وهل كان ذلك الصنيع ليتم بهذه البساطة دون أن تشتعل الخصومات وتنشب المعارك بين المسلمين؟ أترون الآن مدى سخف هذ الرجل ووقاحته التى تسول له تخيل أبأس الأحداث وأسمجها وأبعدها عن المنطق والتاريخ وقوانين المجتمعات، ثم يزيد فيريد منا أن نخر على هذا الذى يقول عميا وبكما وصما؟- إبراهيم عوض).
(مثال على تلك الأخطاء الإنشائية المتعلِّقة بفوضى الترتيب هو الآيات المتفرقة التى تشير إلى مفهوم التقمص (العَوْد للتجسد réincarnation) بحيث أنَّ تَـناثُـرَها وتَبَعْثُرَها فى القرآن يُضيعُ القارئَ ويُـفْقِـدُه الخيطَ المنطقى الذى يربط الجُـمَـلَ ببعضها فينصرِفُ عن التفكير فى إعادة تركيب قِطَعِ البَـزْل puzzle القرآنية إلى الترتيل والتجويد والترديد الببغائى للنص. وهذه الوظيفةُ الترتيليةُ التعبُّديةُ الليتورجيةُ هى أهمُّ وظائف القرآن (“ورَتِّـــلِ القُرآنَ تَرتيلا” [المُــزَّمِّـــل، 4]- محمد عبد الجليل).
(واضح أن الكاتب كان قد ثقّل العيار أزيد من اللازم وهو يحتسى أم الخبائث، فلم يكن يدرى ماذا يقول. ولننظر إلى فجوره فى الزعم بأن القرآن، بعد العبث المتعمد الذى خضع له (ممن؟ ومتى؟ وأين؟ وفى أية ظروف؟ لا أدرى)، أضحى غير قابل للفهم والتدبر، ولم يعد يصلح إلا للقراءة الببغائية التى لا يريد منها صاحبها شيئا غير مجرد القراءة. طيب، إذا كان الأمر كذلك فكيف شذذت أنت يا عبقرى زمانك فى مقدرتك على الفهم بل فى مقدرتك على إعادة الأمر فى هذا العبث إلى نصابه؟ وماذا تقول يا متخلف المتخلفين فى مئات المفسرين من كل شكل ولون وفى كل عصر ومصر الذين تناولوا شرح القرآن كلمة كلمة، وعبارة عبارة، وتركيبا تركيبا، وصورة صورة، وبعضهم تناوله فقهيا، وبعضهم عقيديا، وبعضهم عقليا، وبعضهم ذوقيا، وبعضهم علميا، وبعضهم لغويا وبلاغيا، وبعضهم نفسيا، وبعضهم سياسيا، وبعضهم اقتصاديا، وبعضهم اجتماعيا، وبعضهم فلسفيا، وبعضهم تربويا، وبعضهم تناوله آية آية، وبعضهم تناوله طائفة بعد طائفة من الآيات التى تعالج كل منها موضوعا واحدا فى السورة الواحدة، وبعضهم تناوله قضية قضية على مدار القرآن كله، وغير ذلك من طرق ومناهج واتجاهات على ما بينت تفصيلا فى كتابى:”مسير التفسير”؟ وأرجو أن يأخذ القارئ باله من كراهيته لكلمة “الآخرة” واستبدال كلمتى “التقمص” و”العود للتجسد” بها. لعل القارئ الآن يدرك جيدا لم وصفت هذا الكاتب بالفجور- إبراهيم عوض)
(وتندرج ضِمْنَ هذه الأخطاءِ الإنشائيةِ النواقصُ والزياداتُ المقصودةُ وغيرُ المقصودة التى تزيد من تعدُّد معانى القرآن polysémie. فالقرآنُ ضاع منه الكثير كما تشير بعضُ المصادر كالإتقان للسيوطى (عن ابن عمر قال: “لا يقولَنَّ أحدُكم: قد أخذْتُ القرآنَ كلَّه. وما يدريه ما كلُّه؟ قد ذَهبَ مِنه قرآنٌ كثير. ولكنْ لِيَقُلْ: قد أخذْتُ منه ما ظَهَرَ”). فالكلمةُ المفقودةُ مثلا فى هذه الآية: “وما جَعلَ عليكم فى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ […] مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ” (الحج، 78) قد يكونُ تقديرُها “فالزموا” (فرْض: “فاتَّبِعوا”) أو “كاف التشبيه” (وصْف وإخبار). والمفعولُ به الناقصُ فى هذه الآية “مَنْ كانَ يَـظُـنُّ أَنْ لن يَنْصُرَهُ اللهُ فى الدُّنيا والآخِرةِ فَـلْـيَمْدُدْ بِسببٍ إلى السَّماءِ ثُـمَّ لِيَقْطَعْ […] فَلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كَـيْدُهُ ما يَـغِيظُ” (الحج، 15) قد يكونُ تقديرُه: “الحبْل”، أو “أصل الوحى”، أو “النصر”، أو “نصر “النبى” مُحمَّد”، أو “الرزق”، أو “رِزْق “النبى” مُحمَّد”، أو “المنكَرات”، أو “الماضى”، أو غير ذلك- محمد عبد الجليل).
(وهنا يزعم الفاجر أن القرآن قد ضاع منه الكثير كما جاء فى “الإتقان” مثلا، إذ نقرأ فيه: “عن ابن عمر قال: “لا يقولَنَّ أحدُكم: قد أخذْتُ القرآنَ كلَّه. وما يدريه ما كلُّه؟ قد ذَهبَ مِنه قرآنٌ كثير. ولكنْ لِيَقُلْ: قد أخذْتُ منه ما ظَهرَ”. ترى هل ورود هذه العبارة فى السيوطى معناه أنها عبارة صحيحة؟ فلم يا ترى لم يذكر ابن عمر، ما دام يعرف ما لم يعرفه غيره عن ضياع نصوص كثيرة من القرآن، تلك النصوص ويريح ويستريح؟ إن كل ما يقال عن امحاء شىء من القرآن ينحصر بوجه عام فى أشياء قليلة مثل آية “والشيخ والشيخة”، وما يسمى بسورة “النورين أو الولاية” التى يدعى بعض الشيعة لا كلهم أنها كانت تمثل جزءا من القرآن لكن أعداء علىٍّ حذفوها حتى يطمسوا حقه فى تولى الخلافة بعد الرسول وتولى ذريته لها من بعد على إلى يوم يبعثون، وكذلك النص الذى يقرؤه بعض المصلين بعد التشهد الأخير وقبل التسليم والخروج من الصلاة، ويسميه مُدَّعو قرآنيته: “سورة الخلْع”.
ولسوف أقف هنا أمام نص “والشيخ والشيخ” كمثال ليس إلا. وكان د. على جمعة قد ظهر فى برنامج “والله أعلم” التلفازى منذ عدة أشهر وأكد أن أكل الماعز إحدى أوراق المصحف لا ينقص القرآن فى شىء، وذلك خلال تناوله الحديث الذى ورد عن بعض الصحابة بشأن ضياع آية الرجم وإرضاع الكبير جراء أكل الشاة إحدى أوراق المصحف لدن وفاة النبى عليه السلام. ولكن هناك طائفة من الأسئلة لا بد من إثارتها والرد عليها هنا كى ينجلى الموضوع على حقيقته.
ونبدأ فنقول: كيف يقال إن القرآن لم ينقص منه شىء بينما تقول الرواية إنه كان يتضمن آية الرجم وعدد الرضعات التى تحرم زواج الراضعين من ثدى واحد، وهو الآن خال من هذا وذاك؟ كذلك كيف يقال إن النص قد ضاع، وها هو ذا النص بين أيدينا: “الشيخ والشيخة…إلخ”؟ هذا كلام متناقض مضطرب لا يقبله عقل ولا منطق. على كل حال هاتان هما الروايتان اللتان تتناولان هذا الموضوع، والمتحدثة فيهما هى عائشة رضى الله عنها: فعن محمد بن إسحاق: “لَقَدْ أُنْزِلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ، وَرَضَعَاتُ الْكَبِيرِ عَشْرٌ، فَكَانَتْ فِى وَرَقَةٍ تَحْتَ سَرِيرٍ فِى بَيْتِى، فَلَمَّا اشْتَكَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَاغَلْنَا بِأَمْرِهِ، وَدَخَلَتْ دُوَيْبَةٌ لَنَا فَأَكَلَتْهَا”. وروى الإمام أحمد فى “المسند” (43/343) وابن ماجة فى “السنن” (رقم/1944)، ولفظه: “فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا”. ولكن إذا كانت الداجن قد أكلت الورقة فهل أكلت أمخاخ حفاظ القرآن آنذاك أيضا؟ طبعا لا. فلماذا لم يعيدوا كتابتها وتنتهى المشكلة؟ وهذا لو كانت تلك الورقة هى النسخة الوحيدة من ذلك النص القرآنى الكريم؟ ولكن متى كان الرسول يضع أشياءه تحت السرير؟ هذه أول وآخر مرة نسمع فيها بذلك الأمر. وهذا إن كان هناك سرير بالمعنى الذى نعرفه الآن، أى يرتفع عن الأرض بما يسمح للداجن أن تدس رأسها على الأقل تحته وتسحب الورقة وتأكلها. لكن السرير هنا هو مجرد فراش يوضع على الأرض مباشرة، وهو ما لا يسمح للداجن بسحب الورقة. وحتى لا يظن أحد أننا نلوى عنق النص إلى الناحية التى نريد أود أن أقول إن من معانى “السرير”: “المضطجَع” بإطلاق كما جاء فى “لسان العرب”.
والآن كيف تأكل الداجن شيئا تحت فراش مبسوط على الأرض؟ هل تستطيع الداجن أن ترفع الفراش أولا بيديها كما يفعل الإنسان ثم تمد فمها فتأكل ورق المصحف؟ طبعا لا. ثم هل كان القرآن مكتوبا على ورق مما يمكن أن تأكله الداجن؟ فماذا نصنع بما يقوله علماء القرآن ومؤرخوه عن اللخاف وسعف النخيل وما إلى ذلك مما كان يكتب عليه القرآن أوانذاك؟ ثم إن الرواية تقول على لسان أم المؤمنين إن النبى كان مريضا فانشغلوا عنه فلم يتنبهوا لما صنعته الداجن. فكيف عرفوا إذن أن الداجن هى التى أكلته؟ أما إذا كانوا قد رأوها فلماذا لم يحاولوا استخلاص الورقة منها؟ وإذا كانوا قد حاولوا فلماذا لم تقل عائشة ذلك؟ ثم كيف تدخل الداجن إلى غرفة نوم عائشة بهذه البساطة؟ تقول الرواية إنهم كانوا مشغولين بمرض النبى أو بموته. لكننا نعرف أن عائشة لم يكن لها سوى غرفة واحدة صغيرة مثلها مثل سائر زوجات الرسول، كما نعرف أيضا أنه كان يمرَّض فى غرفتها، فكيف يكون النبى مريضا بما يعنى أنه نائم فى سريره وبجواره عائشة على الأقل تمرضه وتعنى به فى غرفة صغيرة كهذه، ثم تدخل الداجن وتنتش الورقة من تحت الفراش (رغم صعوبة ذلك بل استحالته كما رأينا) دون أن تتنبه عائشة أو النبى عليه السلام؟
كذلك فإن آية الرجم المزعومة التى تشير إليها الرواية تقول: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة”. ومعنى هذا أن الرجم خاص بالشيخ والشيخة وحدهما بحيث إذا زنى كهل أو رجل أو شاب فلا رجم عليه. أليس كذلك؟ فكيف يتخذ القائلون برجم الزانى المحصن من هذا النص الخاص بالشيخ والشيخ مستندا لوجوب رجم الزانى من كل الفئات العمرية المكلَّفة: شيخا كان أو كهلا أو رجلا أو شابا؟ ودعونا من حكاية الإحصان التى لم يتطرق إليها النص المزعوم. ثم كيف يضيع من القرآن نص فى حكم خطير كهذا ثم يبقى الحكم؟ حاشا لله سبحانه وتعالى أن يضع عباده فى موقف مربك كهذا.
أيضا ليس من أسلوب القرآن استخدام كلمة “شيخة” للمرأة المتقدمة فى السن بل كلمة “عجوز” رغم أن كلمة “شيخ” تستخدم فيه للرجل: فسارة زوجة الخليل إبراهيم تقول حين بُشِّرَتْ بأنها سوف تلد إسحاق رغم طعنها فى السن: “قالت: يا ويلتا! أألد وأنا عجوز، وهذا بعلى شيخا؟”، والفتاتان اللتان قابلهما موسى فى مدين عند الماء وساعدهما فى سقى مواشيهما: “قالتا: لا نسقى حتى يُصْدِر الرعاء، وأبونا شيخ كبير”، وإخوة يوسف يقولون لعزيز مصر حين قال لهم إنه سوف يستبقى أخاهم الصغير معه: “يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه”. فالرجل المتقدم فى العمر يقال له فى القرآن: “شيخ”، أما المرأة المتقدمة فى العمر فـ”عجوز”: يقول القرآن عن رد فعل سارة حين بشرتها الملائكة بأنها ستلد إسحاق، وكانت قد طعنت فى السن: “يا ويلتا! أَأَلِدُ وأنا عجوز، وهذا بَعْلِى شيخا؟ إن هذا لشىء عجيب”. وفى موضع آخر: “فصَكَّتْ وجهها وقالت: عجوزٌ عقيمٌ”. ويقول الكتاب الكريم عن لوط عليه السلام: “فنجّيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين”، “إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين”.
ليس ذلك فقط بل عندنا هنا كلمة “البتة”، وهى ليست من المعجم القرآنى أبدا. وفوق هذا وذاك فإن تركيب جملة “والشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموهما” (على ما جاء فى بعض الأحاديث) ليس أسلوبا قرآنيا، إذ فى الموضعين اللذين يشبهان هذا الموضع لا نجد أثرا لتعليق إيقاع العقاب على تحقق الشرط: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نَكَالا من الله”، “الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة”، ومن ثم فلا وجود لـ”إذا” فى النصين. وإضافة إلى هذا فالنص الأخير هنا لا يحدد عمر الزانيين بل يكتفى بوصفهما بالزنا، وكان الله يحب المحسنين. وهذا من الفروق الأسلوبية بين النص المزعوم بقرآنيته وسقوطه من القرآن وبين النص الموجود فى القرآن عن الزانيين.
ثم إن الرجم فى القرآن لا يُهَدَّد به من البشر إلا الناس الصالحون: فقوم شعيب عليه السلام يهددونه قائلين: “ولولا رَهْطُك لرجمناك”، وفتية الكهف يخشَوْن، إن اطَّلَع على أمرهم قومهم، أن يرجموهم أو يُعِيدوهم إلى وثنيتهم: “إنهم إِنْ يَظْهَروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى مِلَّتهم”، وأبو إبراهيم يهدده بأنه إذا لم يكفَّ عن مهاجمة أوثانه فلسوف يرجمه: “قال: أراغبٌ أنت عن آلهتى يا إبراهيم؟ لإِنْ لم تنتهِ لأرجمنَّك”، وموسى عليه السلام يقول لقوم فرعون: “وإنى عُذْتُ بربِّى وربِّكم أن تَرْجُمونِ”، وأصحاب القرية يهددون المرسلين الثلاثة إليهم بأنهم ينبغى أن يسكتوا فلا ينتقدوا عبادتهم لغير الله، وإلا فإنهم راجموهم: “قالوا: لإِنْ لم تنتهوا لنرجمنَّكم ولَيَمَسَّنََّكم منا عذاب أليم”.
ثم هل تظن، عزيزى القارئ، أن مثل هذا الأمر الجلل يمكن أن يقع دون أن يثير ما يستحقه من ضجة هائلة بين المسلمين فى ذلك الوقت؟ هل يعقل أن تكون غيرة المسلمين تجاه كتاب ربهم وقت نزل الوحى معدومة على هذا النحو بحيث لا يهتم أحد بما جرى ولو بتساؤل بسيط أو استغراب عابر؟ وهناك رواية يقول فيها عمر قبل مقتله بفترة وجيزة: “قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. ولولا أن يقولوا: كتب عمر ما ليس فى كتاب الله لكتبته. قد قرأنا فى كتاب الله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم”. ولكن هل يعقل أن عمر لو كان مقتنعا بأن هذا النص آية قرآنية أكان يحجم عن إثباتها فى كتاب الله؟ ليس هذا هو عمر الذى نعرفه أبدا. بل أين كانت ذاكرة عمر طوال حياته فلم يتذكر ويهتم بهذا الموضوع إلا فى آخرها؟ على أن هناك رواية أخرى فى هذا الموضوع تقول عن عمر ذاته أيضا: ” كان ابنُ العاصِ وزيدُ بنُ ثابتٍ يكتُبانِ المصاحفَ فمرَّا على هذه الآيةِ، فقال زيدٌ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: الشَّيْخُ وَالشَّيخَةُ فارجُمُوهُما الْبَتَّةَ. فقال عمر:ُ لما أُنْزِلَتْ أتيتُ النبى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقلتُ: أَكْتِبْنيها. فكأنه كره ذلك. قال: فقال عمرُ: ألا ترى أنَّ الشيخَ إذا زنى وقد أُحْصِنَ جُلِدَ ورُجِمَ، وإذا لم يُحْصَنْ جُلِدَ، وأنَّ الشابَّ إذا زنى وقد أُحْصِنَ رُجِمَ؟”. لكن هل يمكن أن ينزل قرآن ويرفض النبى عليه السلام كتابته؟ لعل تفسير الأمر أن النبى عليه السلام كان يرجم فى البداية دون نص قرآنى، ثم نزلت آية “النور” بعقوبة الجلد فقط. وعلى الناحية الأخرى هل كان المنافقون وأهل الكتاب ليسكتوا فلا يتخذوا من هذه الواقعة مادة للسخرية من الإسلام والقرآن والتشكيك فى حفظ كتاب الله من العبث والضياع والنسيان؟
وهكذا نرى معا أن ما جاء فى الروايات الخاصة بذلك الموضوع لا يثبت على محك العقل والمنطق. أما قول الشيخ على جمعة فى حديثه المشار إليه: “وفيها إيه لما تاكل المعزة ورقة من المصحف؟ كانت جعانة وأكلته” فهو كلام عجيب جدا. أما دراستاى عن سورة “الخلع” وعن سورة “النورين أو الولاية” فهو طويل وشديد التفصيل وكثير التشعبات ومملوء بالتحليلات المضمونية والسياقية والأسلوبية الكثيرة المرهقة، ويستطيع القارئ أن يقرأ ما كتبته عن سورة “الخلع” فى كتابى: “مسير التفسير”، وما كتبته عن سورة “الولاية أو النورين” فى كتاب خاص بذلك الموضوع عنوانه: “سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن- دراسة تحليلية”.
أما كلمة “مِلَّة” فى قوله عز من قائل: “مِلَّةَ أبيكم إبراهيم” فليست فيها أية مشكلة، إذ هى تمييز منصوب. ويمكنك أن ترى فيها إغراء بالتزام ملة إبراهيم عليه السلام، كقولنا مثلا حين نكون فى انتظار الطعام ثم نراه محمولا على الصوانى فوق رؤوس الخدم، فنقول فى لهفة وفرحة: “الطعامَ”، أو “الطعام الطعام” بمعنى “هيا إلى الطعام لنأكل ونسكت عصافير بطوننا”. وكونه جاهلا لا يعرف هذا ليس حجة على الآية، بل خزيا له وهوانا وإرغاما لأنفه فى التراب. وبالنسبة لكلمة “ليقطعْ” وعدم وجود مفعول لها ظاهر أفلا نقول: “عندك على المائدة لحم وخضار وتفاح وعصائر فكل واشرب براحتك” بدلا من “فكل اللحم والخضار والتفاح، واشرب العصائر”؟ وهذا إن كان الفعل: “يقطع” هنا متعديا، إذ يمكن أن يكون معناه: “ثم ليختنقْ” فيكون فعلا لازما لا يستدعى مفعولا به- إبراهيم عوض). وهناك على الأرجح خطآنِ فى هذه الآية (خطأُ زيادةٍ، وخطأُ نُـقصان): “كُلَّما أرادوا أنْ يَخْرُجوا مِنها [مِنْ غَــمٍّ] أُعِيدوا فيها و[…] ذُوقوا عَذابَ الحَريق” (الحج، 22). على الأرجح، هناك زيادةُ “مِن غَمٍّ” ونُـقصانُ “قيلَ لهم” قبل الفعل “ذوقوا”. حيثُ يبدو أنَّ الجارَّ والمجرورَ “مِنْ غَمٍّ” زائدان. إذْ إنَّ عبارة “مِنْ غَمٍّ” لا تنسجم مع ما قبلَها ولا تُـعَــبِّر عن شدَّة التعذيب ولا تضيف شيئًا للمعنى، بل تزيد العبارةَ ركاكةً. فالغَمُّ، لغةً، هو الحزنُ والكرب وليس صَهْـرَ الأجسادِ فى النار. فليس مِن الغَمِّ أنْ تُــقَــطَّــعَ للذين كفروا ثيابٌ من نارٍ ولا أنْ يُــصَبَّ فوقَ رؤوسِهم الحميمُ الذى يَصْهَر جلودَهم وما فى بطونهم ولا أنْ يكونَ لهم مقامعُ من حديد. إنَّ القرآن يستخدمُ كلمةَ “غَمّ” بمعنى الحزن لا بمعنى التعذيب الشديد بالنار: “فاستَجَبْنا له ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكذلكَ نُـنْجِى المُؤْمِنِين” (الأنبياء، 88) “ثُمَّ أَنْزَلَ عليكم مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً” (آل عمران، 154) “وقَتَلْتَ نَفْسًا فنَجَّيناكَ مِن الغَمِّ وفَتَنَّاكَ فُتُونًا” (طه، 40). ربما كان الأَولى إذًا أنْ يقالَ: “كُلَّما أرادوا أنْ يَخْرُجوا مِنها أُعِيدوا فيها وقيلَ لهم: ذُوقوا عَذابَ الحريق”، وذلك طبقًا لاستخدام القرآن لجملة مشابهة فى الآية 20 من سورة السجدة (والتكرارُ من مميزات القرآن): “وأمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فمأْواهم النَّارُ كُلَّما أَرادوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدوا فيها وقِيلَ لهم ذُوقوا عذابَ النَّارِ الَّذِى كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون”.
هذه الأخطاءُ، مقصودةً كانت أم غيرَ مقصودةٍ، لها دلالاتٌ: إمَّا دلاليةٌ sémantiques (فى حالة الأخطاء المقصودة)، أى لها معنى إضافى، وإمَّا كشفيةٌ أو كاشفةٌ révélatrices (فى حالة الأخطاء غير المقصودة)، أى تكشِف عن جوانبَ إضافيةٍ تتعلق بالنص أو بكاتبه أو بسياقه. وهذه الدلالاتُ تضيع عند الترجمة- محمد عبد الجليل).
(نبدأ أولا بمعنى “الغم” فى العربية: ففى “مختار الصحاح”: “الغَمُّ واحد الغُمُوم. تقول منه: غَمَّهُ فاغْتَمَّ، وتقول: غَمَّهُ أى غطَّاه فانْغَمَّ. والغُمَّةُ الكُرْبة. ويقال: أمرٌ غُمَّة، أى مبهم ملتبس. قال الله تعالى: “ثم لا يكنْ أمرُكم عليكم غُمَّة”. قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق وهم. وغَمَّ يومُنا من باب “رَدَّ” فهو يوم غَمٌّ، إذا كان يأخذ بالنفس من شدة الحر. وأَغَمَّ يومنا مثله”. فهل سيظل عبد الجليل بعد ذلك ورغم ذلك راكبا رأسه تساخفا وتسامجا؟ وإن الآية التى يستشهد بها هذا الجهول لتصكه فى وجهه صكا، وهى قوله عز شأنه: “فاستَجَبْنا له ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ وكذلكَ نُــنْجِى المُؤْمِنِين”. والكلام فيها عن يونس، ويونس عليه السلام كان محبوسا فى بطن الحوت يعانى الضغط والضيق والاختناق والكرب الفظيع، وهو ما يعانيه ضمن ما يعانيه أهل النار.
قال المرقش الأصغر يصف حصانه ويفاخر به:
ويَسْبِقُ مَطْرُودا ويَلْحَقُ طارِدا ويَخْرُجُ من غَمِّ المَضِيقِ وَيجْرَحُ
وقال ابن أبى سلمى عن ضفادع رآها فى ماء:
يَخرُجنَ مِن شَرَباتٍ ماؤُها طَحِلٌ عَلى الجُذوعِ يَخَفْنَ الغَمَّ وَالغَرَقا
وقال جرير:
لَعَلَّكَ ترجو أَن تَنَفَّسَ بعدَما غُمِمْتَ كما غُمَّ المُعَذَّبُ فى القَبْرِ
أما الركاكة التى يرمى الآيةَ هذا الجاهلُ بها فهى ركاكة عقله وذوقه. والغريب أنه يقول ما يقول باعتزاز بالغ، ويطلق الأحكام بثقة يحسد عليها شأن كل جاهل لا يدرك من الأمر الذى يتناوله شيئا، فهو يخبط خبط عشواء، ولذا نراه دائم الوقوع فى المصائب والكُرَب والغموم الشديدة التى تأخذ بأكظام نفسه وتكاد أن تُزْهِق روحه.
وأما تعليقه الغبى على قوله جل جلاله: “كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق” فمعناه أنه عديم الذوق والأدب: عديم الذوق والأدب فى السلوك وفى الشعر والنثر على السواء. ذلك أن تركيب الآية مذهل إذهالا عجيبا، فقد انزلق الكلام من السرد والوصف إلى الحوار فى براعة وخفة وخفاء تستلزم إنسانا يتمتع بالفهم والشعور الحى حتى يقدر ما فيه من روعة بديعة، وذلك دون استعمال أى شىء يمهد للحوار كـ”قال، وصاح، وصرخ، وسأل، وأجاب…”، اللهم إلا الواو العجيبة التى تسبق “ذوقوا”. وقد سبق أن رأيناه يعيب الحذف والتقديم والتأخير ويتهم القرآن بأنه يستعمل تلك الأمور كما لو كانت سبة، جاهلا أن هذه الأشياء، إذا ما استعملها حاذق، كانت بدعا بديعا من القول. وواضح أنه يجهل تماما أن علم المعانى من البلاغة إنما يقوم على هذا، فهو العلم الذى يدرس التقديم والتأخير، والفصل والوصل، والحذف والذكر، والإيجاز والإطناب. كما تشيع هذه الطريقة فى كتابة القصة الحديثة حيث يتداخل السرد والحوار: الخارجى والداخلى منه على السواء تداخلا معجبا. ثم يأنس هذا الجاهل فى نفسه القدرة على السخرية من القرآن وممارسة الأستاذية عليه وعلينا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى