بحوث ودراسات

تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية” 7 من 12

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

إن جاهلنا الحقود لا يعرف أن حذف هذه الياء قد وقع فى عدد من الآيات فى درج الكلام لا فى نهايته، ومن ثم لا يمكن الزعم بأن السجعة قد أجبرت الآية على هذا الحذف. إنه استعمال عربى صميم وسليم مائة فى المائة، فمن العرب من كان يحذف ياء الاسم المنقوص حتى بعد تعريفه بـ”أل”، ويحذف ياء المتكلم مع الاكتفاء بالكسرة التى قبلها. وهو ما نجده فى كثير من آيات القرآن العظيم: “فإنى قريبٌ أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعانِ”، “يا قومِ، لقد أبلغتكم رسالة ربى”،، “لإِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يوم القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذريته إلا قليلا”، “وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ”، “وقل: عسى أن يَهْدِيَنِ ربى لأَقْرَبَ من هذا رَشَدًا”، “إنْ تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالا وولدًا * فعسى ربى أن يُؤْتِيَنِ خيرا من جنتك”، “قال: ذلك ما كنا نَبْغِ. فارتدّا على آثارهما قَصَصًا”، “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَـاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم”، “ٍقال: ربِّ، إن هؤلاء قومٌ مجرمون”، “يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَـارِيبَ وَتَمَـاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَـاتٍ”، “ومن آياته الجَوَارِ فى البحر كالأعلام”، “يَا عِبَادِ، فَاتَّقُونِ”، “يا عبادِ، لا خوفٌ عليكم اليوم”، “واسْتَمِعْ يوم ينادى المُنَادِ من مكانٍ قريبٍ”، “يومَ يدعو الداعِ إلى شىءٍ نُكُرٍ”، “مُهْطِعين إلى الداعِ يقول الكافرون: هذا يومٌ عَسِرٌ”.
بل إن هناك من يقف على آخر المنقوص النكرة المرفوع أو المخفوض بإثبات يائه، فيقول مثلا: “جاء قاضى، ومررت بقاضى…”، وهكذا. ليس ذلك فحسب، إذ هناك شواهد شعرية متعددة على إثبات الضمة والكسرة على ياء الاسم المنقوص والفعل الناقص كما فى الأمثلة التالية:
وَيَوْمًا يُوافينَ الهوَى غَيرَ ماضِىٍ * ويَوْمًا تَرَى منهنَّ غُولا تَغَوَّلُ
* * *
كَذَبْتُمْ وَبيتِ اللهِ نُبْزَى محمَّدًا * وَلَمْ تُخْتَضَبْ سُمْرُ العَوالِىِ بالدَّمِ
* * *
ما إنْ رأيتُ ولا أرى فى مُدَّتى * كَجَوارِىٍ يَلْعَبْنَ بالصَّحْرَاءِ
* * *
فَلَوْ كنتَ حُرًّا ذَا وَفاءٍ جَعَلْتَنا * لعينيكَ من دُون الغَوَانِىِ مَقْنَعا
* * *
لا باركَ اللهُ فى الغوانِىِ هَلْ * يُصْبِحْنَ إلاَّ لهنَّ مُطَّلَبُ
* * *
لعَمْرُكَ ما تَدْرِى متى أنتَ جائِىٌ * ولكنَّ أقصى مُدَّةِ العُمْرِ عاجِلُ
* * *
تَرَاهُ، وقد فاتَ الرُّماةَ، كأنَّهُ، * أمامَ الكلابِ، مُصْغِىُ الخَدِّ أَصْلَمُ
* * *
وكأنَّ بُلْقَ الخيلِ فى حافَاتِهِ * تُرْمَى بهنَّ دَوَالِىُ الزُّرَّاعِ
* * *
وعِرْقُ الفَرَزْدَقِ شَرُّ العُرُوقِ * خبيثُ الثَّرَى كابِىُ الأَزْنُدِ
* * *
إذا قُلْتُ عَلَّ القَلْبَ يَسْلُوُ قُيِّضَتْ
* * *
تُسَاوِىُ عِندى غيرَ خمسِ دَّراهِمِ
وقد كان هذا كله وغيره حريا أن يكفّ من غَرْب الكاتب الجهول المتغطرس بحمق وضلال. لكن متى كان الجاهل يفهم ويعقل ويراعى حدوده ويلتزم الأدب والذوق؟ إنه لو صنع ذلك ما كان جاهلا. فما بالنا لو كان جاهلا جهولا مجهالا جَهِلا جَهِيلا جُهَلَة؟- إبراهيم عوض)
(نلاحظ أنَّ الفاصلة الغالبة فى سورة “الأحزاب” هى كلمة منصوبة، بينما الفاصلة الغالبة فى سورة “الحج” هى كلمة مرفوعة أو مجرورة. وبالتالى نستنتج من ذلك أنَّ القرآن استخدمَ “كان” فى تلك الآية من سورة الأحزاب (“إنَّ اللهَ كان على كُلِّ شىء شهيدًا”) فقط للحصول على كلمة منصوبة (“شهيدًا”) ليتوافقَ سجعُ الآية مع سجع باقى الآيات فى السورة، بينما لم يكنْ بحاجة إلى قافية منصوبة فى سورة “الحج” فلم يستخدم الفعل “كان” فى الجملة نفسها: (“إنَّ اللهَ على كُلِّ شىء شهِيد”).
وهناك أمثلة أخرى كثيرة تؤكِّد على أنَّ الهدف من استخدام القرآن للفعل “كان” فى كثير من الجُمَل ذات القافية المنصوبة هو الحصول على الفاصلة المناسبة للآية، مقابل استخدامه للجُـمَـل نفسِها مِن دون الفعل “كان” فى سُوَر أخرى قافيتُها مرفوعة أو مجرورة. ومن هذه الأمثلة:
1- “إنَّ اللهَ كان علِيًّا كبيرًا” (النساء، 34)؛ مقابل: “وأنَّ اللهَ هو العَلِى الكبير” (الحج، 62).
2- “فإنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا” (النساء، 129)، “إنَّ اللهَ كان غفورًا رحيمًا” (الأحزاب، 24)؛ مقابل: “إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم” (المائدة، 39، والأنفال، 69).
3- “وكان اللهُ غفورًا رحيمًا” (الأحزاب، 5 و50 و59 و73)؛ مقابل: “واللهُ غفورٌ رحيم” (المائدة، 74، والتوبة، 27).
4- “وكان اللهُ غنيًّا حميدًا” (النساء، 131)؛ مقابل: “فإنَّ اللهَ غنى حميد” (لقمان، 12).
5- “وكان اللهُ على كلِّ شىء قديرًا” (الأحزاب، 27، والفتح، 21) مقابل: “إنَّ اللهَ على كُلِّ شىءٍ قدير” (البقرة، 20 و 109 و148، وآل عمران، 165، وفاطر، 1، والعنكبوت، 20، والنحل، 77، والنور، 45).
6- “وكان اللهُ سميعًا بصيرًا” (النساء، 134) مقابل: “إنَّ اللهَ سميعٌ بصير” (الحج، 75، ولقمان 28، والمجادلة، 1).
7- “وكان ذلك على الله يسيرًا” (النساء، 169) مقابل: “إنَّ ذلك على الله يسير” (الحج، 70).
8- “إنَّ اللهَ كان عليمًا حكيمًا” (الأحزاب، 1)؛ مقابل: “إنَّ اللهَ عليمٌ حكيم” (التوبة، 29).
9- “إنَّ اللهَ كان بما تَعْمَلون خبيرًا” (الأحزاب، 2) مقابل: “واللهُ بما تَعْمَلون خبير” (آل عمران، 180)، “وأنَّ اللهَ بما تَعْمَلون خبير” (لقمان، 29).
10- “وكان اللهُ قويًّا عزيزًا” (الأحزاب، 25) مقابل “إنَّ اللهَ قوى عزيز” (المجادلة، 21، والحديد 25)، “إنَّ اللهَ لَقوى عزيز” (الحج، 74).
11- “إنَّ اللهَ كان لطيفًا خبيرًا” (الأحزاب، 34) مقابل: “إنَّ اللهَ لطيفٌ خبير” (الحج، 63، ولقمان 16).
12- “وكان اللهُ بكُلِّ شىء عليمًا” (الأحزاب، 40، والفتح، 26)، “فإنَّ اللهَ كان بكُلِّ شىء عليمًا” (الأحزاب، 59) مقابل: “إنَّ اللهَ بكُلِّ شىء عليم” (العنكبوت، 62، والتوبة، 115، والأنفال، 75، والمجادلة، 7)، “واللهُ بكُلِّ شىء عليم” (الحُجُرات، 16، والتغابن، 11، والنور، 35).
ولكنَّ النحويين اخترعوا معنى جديدًا للفعل “كان”، وهو معنى “الأزل والأبد”، لتبرير استخدام القرآن لهذا الفعل. ولكن لو أرادَ حقا مؤلِّفو القرآنِ تسليطَ الضوء على معنى “الأزل والأبد” لاستخدموا الجملةَ من دُونِ الفعل “كان” أو مع الحرف المشبَّه بالفعل “إنَّ” أو مع أية كلمة تُــعَــبِّر عن الديمومة. كما أنَّ الشواهدَ الشعرية التبريرية التى قدَّمَـها بعضُ النُّحاة للفعل “كان” لا تفيد معنى “الأزل والأبد” إذا ما دقَّقنا فيها جيدًا، بل تفيد معنى الحال أو ربما العادة الماضية. ومن هذه الشواهد قولُ المُتَلَمِّس:
وكُـنَّــا إذا الجَـبَّارُ صَعَّرَ خَــدَّه * أقَـمْنا له مِن ميلِه فتَــقَــوَّما
وقولُ قيس بن الخطيم:
وكُنتُ امرءًا لا أسمع الدهرَ سَــبَّةً * أُسَبُّ بها إلا كشفتُ غطاءها
وقولُ أبى جندب الهذلى:
وكنتُ إذا جارى دعا لمضوفةٍ * أُشَمِّرُ حتى يُــنْصِفَ الساق مِئْزَرى
– محمد عبد الجليل).
(فات هذا الجهول أن لكل من الاستعمالين مغزاه: فاستعمال “إنّ” للتأكيد، واستعمال “كان” للإشارة إلى الأزلية والديمومة. وقد يجمع القرآن الكريم بين الاستعمالين كما فى الشواهد التالية التى أوردها الجاهل، لكن لأنه جاهل لم يلتفت إليها: “إنَّ اللهَ كان عليمًا حكيمًا”، “إنَّ اللهَ كان بما تَعْمَلون خبيرًا”، “إنَّ اللهَ كان لطيفًا خبيرًا”. وفى القرآن مثلها كثير جدا: “إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىء عَلِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىء شَهِيدًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىء حَسِيبًا، فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا…”. ولو كان الأمر كما يقول جاهلنا لاستخدم القرآن كل تركيب من التركيبين وحده فى موضعه ولما جمع بينهما أبدا.
كذلك يجهل هذا الأحمق أن القرآن الكريم دائما ما ينوّع الفواصل ولا يلتزم فاصلة واحدة طوال أية سورة اللهم إلا فى بعض السور القصيرة كـ”العصر والكوثر والإخلاص والناس والقمر”. ولنأخذ مثلا سورة “القارعة”، التى رغم صغرها تحتوى على عدة فواصل: “الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)”. فما بالنا بطوال السور؟ أريد أن أقول إن القرآن لم يكن مضطرا إلى مراعاة الفاصلة، ومن ثم لم يكن مجبرا على استخدام “هذا” الاستعمال فى السورة ذات الفاصلة المطلقة الألف، و”ذاك” فى السورة التى ليست كذلك.
والآن إلى مثال قرآنى تطبيقى على ورود جملة “إن الله…” منتهية بفاصلة مختلفة عن الفواصل التى حولها، وذلك فى قوله تعالى من أوائل سورة “البقرة”: “أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىء قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)”. وإذن لقد كان هناك مندوحة فى استعمال تركيب “إن الله…” بدلا من “وكان الله…” لو كان هذا التركيب الأخير خاطئا فى العربية كما يزعم صاحبنا. لكنه جاهل لا يفقه الموضوع الذى زج بنفسه فيه على غير بصيرة ولا ذوق، بل اندفع ينفذ ما أمروه به أمرا حتى تحظى بضاعته عندهم بالنَّفَاق.
أما دعوى الجهول بأن الشواهد التالية:
وكُـنَّا إذا الجَـبَّارُ صَـعَّــرَ خَــدَّه * أقَـمْنا له مِنْ مَيْلِه فتَــقَــوَّما
وقول قيس بن الخطيم:
وكُنتُ امرءًا لا أسمع الدهرَ سَــبَّةً * أُسَبُّ بها إلا كشفتُ غطاءها
وقول أبى جندب الهذلى:
وكنتُ إذا جارِى دعا لمضوفةٍ * أُشَمِّرُ حتى يُنْصِفَ الساقَ مِئزري
لا تفيد أزلية فقد غاب عنه، لأنه جاهل، أنها بالنسبة للبشر لن تفيد أزلية لأن البشر مخلوقون، فلا علاقة لهم بالأزل، لكنها بالنسبة إلى الله تفيد ذلك. والمهم أنها تفيد الاستدامة والاتصال ولا تعرف الانقطاع رغم أن لها بداية ونهاية بالنسبة للبشر، أما الاستدامة والاتصال بغير بداية ولا انتهاء فمعناها الأزلية الأبدية. ومعلوم أن الصفات المشتركة بين الله وعباده تدل فى حالة كل من الطرفين على ما يناسبه ويليق به: ففلان رحيم، والله رحيم، لكن شتان بين رحمة العبد ورحمة الرب. وفلان كريم، والله كريم، ولكن هل الكرم المطلق الشامل العميم مثل الكرم الموهوب المحدود الناقص؟ وهناك كذلك علم الله وعلم البشر، لكن أهذا مثل ذاك؟ هل علم البشر القليل النسبى الذى كان بعد أن لم يكن، وتراكم شيئا فشيئا، ويظل دائما ناقصا، كعلم الله الذى لا يند عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء، والذى هو هكذا منذ الأزل إلى الأبد؟
وعلى هذا الأساس ينبغى أن ننظر فى الأمثلة التالية التى يستخدم فيها الماضى فى موضع الحاضر المستمر، وكلها من الشعر الجاهلى تجنبا لتنطع صاحبنا الجهول، الذى أتصور أنه سوف يقول عن شواهد ما بعد الإسلام لو كنا قد استعنا بها إن أصحابها إنما أرادوا تعضيد كلام النحاة عن “كان” حين تنسب إلى الله. قال الأسعر الجعفى:
وَسِرُّكَ ما كانَ فى واحِدٍ وَسِرُّ الثَلاثَةِ غَيْرُ الخَفي
وقال البَرّاق:
أَأَنْزِلُ بَينَهُم إِن كانَ يُسْرٌ * وَأَرْحَلُ إِنْ أَلَمَّ بِهِم عَسيرُ؟
وقال الحارث المَذْحِجِىّ:
بَنِىَّ، اهْتَدُوا فيما اهْتَدَيتُ سَبيلَهُ فَأَكْرَمُ هذا الناس مَنْ كانَ هادِيا
وقال المتلمس الضبعى:
وَمَن كانَ ذا عِرْضٍ كَريمٍ فَلَمْ يَصُنْ * لَهُ حَسَبًا كانَ اللئيمَ المُذَمَّما
وقال ذو الإصبع العداونى:
وَلِى ابنُ عَمٍّ عَلَى ما كانَ من خُلُقٍ * مُخْتَلِفانِ، فَأَقْلِيهِ وَيَقْلِيني
وقال زهير:
إِنَّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيثُ كانَ، وَلَـــــــــــــــــــــكِنَّ الجَوَادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ
وقال عدىّ بن زيد:
وفى الخَلْقِ إذلالٌ لِمَنْ كانَ باخِلا * ضَنِينًا. وَمَن يَبْخَلْ يَذِلَّ وَيُزْهَدِ
وقال عروة بن الورد:
فَيَلحَقُ بِالخَيْراتِ مَنْ كانَ أَهلَها * وَتَعْلَمُ عَبسٌ رأس مَنْ يَتَصَوَّب
وقال عمرو بن قميئة:
يا راكِبًا، بَلِّغ ذَوِى حِلْفِنا * مَنْ كانَ من كِنْدَةَ أو وائِلِ
وقال عمرو بن كلثوم:
نَؤُمُّ بِها بِلادَ بَنِى أَبِينا * عَلَى ما كانَ مِن نَسَبٍ وَصِهْرِ
وقال أمية بن أبى الصلت:
أَلا كُلّ شَىء هالِكٌ غَيْرَ رَبِّنا * وَلِلَّهِ مِيراثُ الذى كان فانِيا
وأخيرا لقد كان بإمكان القرآن أن يستعمل “إنّ” فى سياق الآيات ذات الفواصل المنتهية بألف فيقول: “إن الله غفورا رحيما”، “إن الله سميعا عليما”، “إن الله عزيزا حكيما”… وبهذا يتجنب استخدام “كان”، ويسلم من لسان جاهلنا. ذلك أنه كان من العرب آنئذ من ينصبون اسم “إن وأخواتها” وخبرها جميعا. وهذا لو كان اعتراض أحمقنا على”كان” وزعمه دون أهل العلم جميعا أنها لا تكون للأزلية صحيحا.
ومن الشواهد على مجىء اسم “إن” وخبرها منصوبين الحديث الشريف الذى يقول: “إن قعر جهنم سبعين خريفا”، وقول عبد الله بن مسلم بن جندب:
كأنه شاقَهُ أنْ قيل: ذا رجبٌ * يا ليت عِدَّةَ حولٍ كله رَجَبَا
وقول العجاج:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
وقول عمر بن أبى ربيعة:
إذا اسودَّ جنْح الليل فَلْتَأْتِ، ولتكن * خُطَاك خِفَافًا. إنّ أصحابَنا أُسْدَا
وقول بشار:
حتام تُجْشِمنى الصبا وتشفّنى؟ * بل ليت غيرَك يا فؤاد فؤادَا
وقول ابن المعتزّ:
مَرَّتْ بنا سَحَرًا طيرٌ، فقلت لها: * طُوبَاكِ، يا ليتنى إياك، طوباكِ
ثم الشواهد التالية، وهى من “همع الهوامع” للسيوطى:
إنَّ العجوز خِبّةً جَرُوزَا

* * *
كأنَّ أُذْنَيْه إذا تشَوَّفا
قادمةً
أوْ قَلَمًا مُحرَّفَا
* * *
ألا يا لَيْتني حجرًا بوَادٍ
* * *
وسُمِع: “لعل زيدا أخانا”
وفى باب “اللام مع الياء” فى “المستقصى من أمثال العرب” للزمخشرى “ليت القِسِىَّ كلها أرجلا”. كما تكرر فى “الرسالة” للشافعى هذا الاستعمال عدة مرات.
وقد تحدث عن هذه النقطة على سبيل المثال ابن سلام فى مقدمة كتابه: “طبقات الشعراء”، إذ قال إنها لغة لقوم العجاج الراجز المشهور، مضيفا: “سمعت أبا عون الحرمازى يقول: “ليت أباك منطلقا، وليت زيدا قاعدا”. وأخبرنى أبو يعلى أن منشأها بلاد العجاج، فأخذها عنهم”. وذكرها أيضا ابن هشام فى “مغنى اللبيب” فى الباب الذى خصصه لـ”إنّ”، والشيخ شاكر عند تعليقه على هذا الاستعمال لدى الشافعى فى “الرسالة”، وعباس حسن فى “النحو الوافى” فى باب “إن وأخواتها”. وفى “الجَنَى الدانى فى حروف المعانى” لابن أم قاسم لدن الكلام عن “إنّ”: “وأجاز بعض الكوفيين نصب الاسم والخبر معا بـ”إنّ وأخواتها”، وأجازه الفراء فى “ليت” خاصة. ونقل ابن أصبغ عنه أنه أجازه فى “لعل” أيضا. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك فى “إن وأخواتها” ابن سلام فى طبقات الشعراء، وزَعَمَ أنها لغة رؤبة وقومه. وقال ابن السيد: نصب خبر “إن” وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة”- إبراهيم عوض).
(النوع الثالث: الأخطاء الإنشائية المتعلِّقة بترتيب الكلمات داخل الآيات أو بترتيب الآيات داخل السور (البلبلة والاضطراب والاختلال فى ترتيب الآيات): وهذه الأخطاء منها ما هو مقصود لإضاعة الخيط الموجِّه للمعنى الكلى للنص بحيث لا يتمكَّن من إدراكه العوامُّ فتوجِّهُهم السلطةُ الزمنية بحسب مصالحها. ومنها ما هو غيرُ مقصودٍ مردُّه إلى السهو أو إلى جهل جامعى القرآن بمصادر القرآن وسياقه وباللغات السامية السائدة وقتَ ظهورِ القرآن. فلو أَعطَينا شخصًا مُـــنَــضِّدًا لا يعرِف الفرنسيةَ ولا الفلسفةَ مَـقاطِعَ أو فقراتٍ أو جُـمَــلا متفرِّقةً مترجمةً (من الفرنسية إلى العربية) ومخطوطةً بخط اليد مأخوذةً من عدة كتب للفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل Simone Weil فمن الطبيعى أنْ يحتوى النصُّ الرقمىُّ المنضَّدُ على أخطاء تنضيدية ليست بالقليلة. فكيف سيكون حجمُ الأخطاءِ إذا كان النصُّ المخطوطُ لا يحتوى على تنقيط، وإذا كان قد جُمِعَ بعد سنوات من تأليفه وطُبِعَ بعد مئات السنوات، وإذا لم يكنْ فى حوزتنا أى مخطوط أصلى للنص؟ وهو ما ينطبق على القرآن- محمد عبد الجليل).
(المتنطع يتحدث عن القرآن على أساس أن النبى محمدا كانت عنده مكتبة فيها معاجم لغات العالم، وبخاصة لغات المنطقة التى تحيط ببلاد العرب، وكُتُب قواعدها ونصوصها وأهم مصادرها ومراجعها، وكان يقضى سحابة يومه وليله فيها يقلب الكتب ويتتبع النصوص التى يمكن أن تنفعه فى تلفيق الإسلام وتأليف القرآن، وكان حوله طائفة من المساعدين ينسخون له ما يعينه لهم ويبيضون مسوداته ويراجعون ما يقع فيه من سهو وخطإ. ثم إن الصحابة الكرام ما إن انتقل عليه السلام إلى الرفيق الأعلى حتى تركوا ما فى أيديهم وفرَّغوا أنفسهم لمزيد من التلفيق فى القرآن، فكانوا إذا وجدوا شيئا مفهوما أعادوا صياغته وأشاعوا الاضطراب فيه حتى لا يخرج منه المسلمون العاديون بشىء نافع. وهو ما يعنى أن القرآن كان كتابا نافعا، أى أن محمدا قد جاء بدين طيب، لكن منهم لله الصحابة، فهم الذين أفسدوا كل شىء. وتتساءل: من أين لهذا الأفاق كل تلك الحكايات؟ فلا تجد جوابا لأنها كلها من بنيات عقله المختل. وهل على المجنون حرج أو تبعة؟ إن كل مَنْ كتب من النصارى المعاصرين لبدايات الإسلام عن النبى والدين الذى أتى به لم يقولوا شيئا من هذا، أما محمد على عبد الجليل ففاجر تركبه السمادير الشيطانية فيريد أن يقنعنا بأنها هى حق اليقين، دون أن يطرف له جفن أو يرتبك له ضمير. ذلك لأنه فاجر كما قلت. وهل الفاجر لديه ضمير أو إحساس؟ لو كان لديه هذا أو ذاك ما كان فاجرا. إن ذلك المتنطع يحسب أن كل الناس مثله، وأنه لا أحد شريف فى هذه الدنيا، وأن النبى الكريم العظيم وأصحابه يشبهونه هو ومن على شاكلته ممن تجندهم مؤسسات التخابر فى الدول الأجنبية التى تعادى الإسلام والمسلمين ليقوموا لها بوظيفة الكبش الذى يكسر بيبان القلاع المطلوب اقتحامها.
وتعالوا ننظر فى المثال الذى أورده للتشكيك فى القرآن والادعاء بأن نصه قد خضع لإفساد كبير. قال خيبه الله: “لو أَعطَينا شخصًا مُـــنَــضِّدًا لا يعرِف الفرنسيةَ ولا الفلسفةَ مَقاطِعَ أو فقراتٍ أو جُمَلا متفرِّقةً مترجمةً (من الفرنسية إلى العربية) ومخطوطةً بخط اليد مأخوذةً من عدة كتب للفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل Simone Weil فمن الطبيعى أنْ يحتوى النصُّ الرقمى المنضَّدُ على أخطاء تنضيدية ليست بالقليلة. فكيف سيكون حجمُ الأخطاءِ إذا كان النصُّ المخطوطُ لا يحتوى على تنقيط، وإذا كان قد جُمِعَ بعد سنوات من تأليفه وطُبِعَ بعد مئات السنوات، وإذا لم يكنْ فى حوزتنا أى مخطوط أصلى للنص؟ وهو ما ينطبق على القرآن”.
فهو هنا يتخيل بمخيلته المريضة أن القرآن مترجم عن اللغات الأجنبية، وأن مَنْ نسخوه وراجعوه يشبهون رجلا يكتب على الكاتوب كتابا لا يعرف فيه شيئا لا عن موضوعه ولا عن لغته ولا حتى عن حروف تلك اللغة. فهل من راجعوا القرآن كانوا كذلك؟ وهل كان القرآن مترجما كله أو بعضه عن لغة أجنبية غير معروفة عند العرب لا فى مكة ولا فى خارج مكة؟ ترى لو كان الأمر كذلك فكيف انفرد محمد وحده بمعرفة تلك اللغة التى ترجم منها الألفاظ والعبارات المشار إليها؟ إن المستشرقين عادة ما يصفون النبى عليه السلام، على سبيل الاتهام لا المدح، بالدهاء وعمق فهم الحياة وبالمقدرة على التخطيط المذهل. ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يرتكب تلك الغلطة البلقاء الحمقاء. نعم لم يا ترى يترجم محمد كلاما من لغة أجنبية ويضمنها قرآنه، وهو لا يعرفها؟ فإذا كان هو لا يعرف لغة أجنبية، وكان أتباعه كما يصورهم هذا النص لا يعرفون تلك اللغة ولا الأفكار التى استمدها محمد زعمًا من كتب تلك اللغة، فلم قام فى ذهنه أن يجترح هذا العمل العبثى؟ وأين تلك الألفاظ التى مثلت مشكلة لجامعى القرآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى