مقالات

الثورات وأزمة الشرعية في الدول العربية

الدكتور بهاء الأمير

عرض مقالات الكاتب

السؤال

السلام عليكم أخي الفاضل, أرجو منك قراءة سريعة لما يجري في الجزائر.

الجواب

دكتور بهاء الأمير

1

سأتجاوز التفاصيل اليومية الصغيرة والمتلاحقة للأزمة الناشبة في الجزائر, والتي تخاطب الحواس والمشاعر ويراها عموم الناس في الشاشات ويقرؤونها في الصحف, ويقتات على وصفها وتكرارها والثرثرة فيها المحللاتية والخبراء من النوع الاسترابطيخي في بلاليص ستان, وأنتقل إلى مسائل منهجية وإلى المستويات غير المرئية للأزمة, والتي هي مستويات مشتركة بين بلاد العرب جميعاً.

ومن عيوب العقلية العربية والذين يتصدرون الصحف والشاشات من هؤلاء المحللاتية والخبراء أنهم يتعاملون في كل أزمة مع مظاهرها, دون إدراك مصدرها والعلل التي أنتجتها, وهم في ذلك لا يختلفون عن المعلقين على مباريات كرة القدم, الذين تقتصر وظيفتهم على وصف ما يحدث والتعليق عليه فقط.

والفرق بين العطار أو الطبيب الكولشنكان وبين الطبيب الحاذق والخبير, أن العطار والطبيب الأي كلام يرى الأعراض منفصلة فيصف كل عرض, ويصف له ما يخفف حدته, دون أن يدرك الرابط بينها, فتخف حيناً ثم تعود, أما الطبيب الحاذق فإنه يضيف إلى ذلك  أنه يدرك أن ثمة علة كامنة هي مصدر هذه الأعراض جميعها, وأنه يجب عليه أن يصل إليها ويصف للمريض دواءها وما ينهي الأعراض التي تنتجها.

2

والمستوى الأول للأزمة في الجزائر هو المستوى السطحي والمباشر الذي يتعلق بوصول ولاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى نهايتها, وعمله, أو عمل القوى التي تتخذه واجهة لها على تمديد رئاسته لفترة جديدة, رغم حالته الصحية, مما أثار اعتراضات واسعة واحتجاجات كبيرة بين أوساط الجزائريين, خصوصاً الشباب, ودفعهم للنزول في الشوارع

وهذا هو المستوى الذي تراه وتتعامل معه وسائل الإعلام ومن فيها من المحللاتية والخبراء, ولذا لن أتعرض في هذا المستوى سوى لمسألة واحدة, وهي أن الحكام والأنظمة والطبقات الحاكمة في بلاد العرب جميعها, وسواء كان الحكم ملكياً أو جمهورياً, ليس عندها وعي ولا أدنى تقدير للتغيير الإجباري الذي أحدثته وسائل الإعلام في العلاقة بين السلطة وعموم الناس, بكسر احتكار السلطة لها, ودخولها كفاعل شديد التاثير في عموم الناس, مع قدرتها على تجاوز السلطة ومخاطبة الناس مباشرة وإثارتهم وتحريكهم.

ومن ثَم تدير الأنظمة والطبقات الحاكمة في بلاد العرب ما يحدث من أزمات بالطرق العتيقة التي كانت تدار بها عبر العصور كلها, وفي بعض الأحيان تصنع هذه الأنظمة والطبقات الأزمات لنفسها, لعدم وعيها أو لاستهانتها بهذا المتغير الذي يجعل العلاقة بين السلطة وعموم الناس في هذا  الزمان مختلفة عن أي عصر آخر.

ففي جميع العصور, وفي كل الأمم عبر التاريخ, كان عموم الناس يسمعون عما حدث أخباراً بعد أن تقع بسنوات أو شهور أو أيام دون أن يروه, أما الآن فالناس يرون ما يحدث في لحظته وينفعلون به وتهيج له مشاعرهم قبل أن يعرفه الحاكم أو تصل أخباره إلى السلطة.

وفي الأزمنة الخوالي كان الناس يسمعون عن الحاكم دون أن يروه أو يسمعوه, وما يسمعونه روايات ينمقها عنه حاشيته ووسائل الإعلام البدائية التي يحتكرها, أما الآن فالناس يشاهدون الحاكم أمام أعينهم ويسمعونه بآذانهم, ويصلهم ما يفعله أو يقوله في الغرف المغلقة في لحظته.

ولذا لم يعد يجدي أن يخرج المطبلاتية وحملة المباخر ليترنموا بعبقرية ولي الأمر وحكمته والناس يشاهدونه أمامهم في التلفزيون بشحمه ولحمه أحمق ويتهته “والسلوك عنده داخلة في بعضها”.

ولا أن يؤلفوا الأغاني في بطولته وإخلاصه للأمة, والناس يرون بأم أعينهم في الشاشات والصحف خيانته, وأنه ليس سوى عصا في يد أعدائها ونعلاً في قدمهم.

ولا أن ينشدوا الأناشيد في حب الناس له وتولههم به ورغبتهم في دوام حكمه بينما كتل كاسحة من هؤلاء الناس وملايين الشباب يؤلفون الهاشتاجات في سبه وبيان مفاسده ومطالبته بالرحيل, ويؤلفون الأغاني والنكات ومقاطع الفيديو المرئية في السخرية منه ويبثونها في مواقع التواصل التي تدخل كل بيت وتصل إلى أيدي جميع البشر.

ولا أن يفرضوا الضرائب على عموم الناس ويرفعون أسعار الأقوات وما هو من ضرورات الحياة, ويطالبونهم بالصبر والتقشف, بذريعة صعوبة الأوضاع الاقتصادية, وهم يرون الحاكم ومن حوله يرفلون في الترف ويغرقون في الزخرف والزينة وينفقون الأموال بلا حساب على الاحتفالات والمهرجانات والمؤتمرات التي لا هدف لها ولا فائدة منها.

ولم يعد ممكناً أن تدعو السلطة الناس إلى انتخاب شخص ليكون حاكماً لهم وهو أمامهم لا يقدر على التحكم في يده ولا لسانه ولا بوله, فيتساءلون متعجبين: هل هو الذي يحكم حقاً ويريد أن ينتخبه الناس, أم أنه مجرد صورة وواجهة لأطراف أخرى تختبئ خلفه؟!  

وأثر الإعلام في عموم الناس بعضه تلقائي, فوسائل الإعلام تخاطب حواسهم وتثير مشاعرهم, وطالما أنها تستطيع الوصول إليهم فلا يمكن أن يلومهم أحد على انفعالهم بما يشاهدونه في لحظته حياً أمامهم ويمس حياتهم ومعاشهم, ولا على استجابتهم له وحركتهم به, فهذه هي طبيعة البشر أو طبيعة الغالبية منهم, فالبشر جميعاً لهم عيون وآذان, ولكن ذوو الألباب ومن يعقلون منهم ويتحركون بما يعقلونه قليل.

وبعضٌ من آثار وسائل الإعلام مدبر ومقصود, ولكن بوسائل ناعمة غير مرئية وليس بالطرق الخشنة, وليس بالضرورة أن يكون ذلك بتجنيد العملاء كما يتوهم ويشيع إعلام البلاط في بلاليص ستان, إذ يكفي أن يصنع أحد صفحة أو هاشتاجاً يرفع شعار الحرية أو النضال وتحدي الظلم والاستبداد والفساد, ويستقطب اثنين أو ثلاثة, وما بعد ذلك سيحدث تلقائياً, ويتحول الثلاثة إلى عشرات من الألوف البريئة التي تحيط بهم وتخفيهم, ولن يكون في مقدور أحد أن يجعل هذه الألوف تنفض, لأن الظلم والفساد حقيقي, وليس عندهم ما يواجهون به السلطة ويحصلون به على حقوقهم المهدورة سوى هذه الطريقة.

والأبالسة من اليهود والماسون كانوا يسعون في كل العصور إلى تطوير وسائل الإعلام التي تتجاوز جميع الحواجز وتخاطب عموم الناس وتصل إلى كل فرد, لأنهم يدركون أنها تمنحهم قوة جبارة يمكنهم بها تحريك عموم الناس وتحريك الأحداث بهم دون أن يظهروا هم أو يرصدهم أحد فيما يحدث.

وما يعنينا في هذا المقام رصد ما يحدث وتفسير الأمر الواقع, وليس هنا موضع المقارنة بين الأنواع المختلفة من هندسة العلاقة بين السلطة وعموم الناس وما يحكمها من قواعد, ولكن لابد من إشارة إلى أن كبح وسائل الإعلام وإبطال آثارها في عموم الناس وكتل العوام لا وسيلة له سوى هندسة المعيار والميزان, التي تقوم على أن ثمة طبقة قوامة على هذا المعيار والميزان, وينصاع له ولها الحاكم والسلطة وعموم الناس ويثقون في نزاهتها وهي التي تضبط العلاقة بينهم.

ومحور عمل الغرب وإمبراطورياته في بلاد الإسلام كان كسر هذه الهندسة وتغييب المعيار والميزان وإذابة الطبقة القوامة عليه وتحويلها إلى طبقة من الموظفين وحفظة الأكلشيهات, وإحلال وسائل الإعلام محلها.

ولأن السلطة والحكام والطبقات الحاكمة في بلاليص ستان كانت هي نفسها إحدى وسائل هذا الكسر وهذه الإذابة, فلم يعد أمامها مع تطور وسائل الإعلام وما بلغته من قدرة على تجاوزهم والوصول إلى الناس وتحريكهم سوى أن تعي ذلك, وأن تتواءم معه وتقوم بتعديل الطريقة العتيقة والغشيمة التي تتعامل بها مع عموم الناس, وإلا فلن يكون لها قرار, ولن يخبو أوار أزمة حتى تشتعل أخرى, وهو ما ينقلنا إلى المستوى الثاني للأزمة في الجزائر.

3

والمستوى الثاني والعميق للأزمة في الجزائر, وفي بلاد العرب جميعها, هو  افتقاد التجانس والرضا بين السلطة والطبقات الحاكمة وبين الشعوب, والخلل العميق المتراكم في الهندسة التي تحكم علاقة السلطة بعموم الناس, وفشل الطبقات الحاكمة في إقناع الشعوب بشرعية حكمها لها, أو بعبارة أدق وأصرح عدم وجود مصدر حقيقي يمنح السلطة في بلاد العرب شرعية حكم الشعوب.

وهنا لابد من الإشارة أولاً إلى الفرق بين الأزمات في بلاليص ستان والأزمات التي تشهدها دول الغرب, فالغرب فاسد بمعايير الإسلام وموازينه, ولكن داخل هذا الفساد العمومي ثمة تجانس بين الأنظمة والحكومات وبين شعوب الغرب, فالسلطة والحكومات تتكون بالانتخابات, وعموم الناس يختارون من يمثلهم, أو يتوهمون ذلك, والبرلمانات التي ينتخبون أعضاءها تراقب الحكومات وتحاكمها أمامهم في الشاشات, وإذا وصل للسلطة من يفتقد الرضا العام أو أحسوا أنهم أخطأوا في اختياره فثمة طرق منظمة لكي يسقطوه, إن لم يكن في حينها ففي الانتخابات القادمة.

ولذا فالشعوب في الغرب تغضب وتثور, وقد تنزل الشوارع من أجل الاعتراض على شخص ما في السلطة, أو الاحتجاج على سياسات جزئية, أو على مسائل تتعلق بالمعاش مثل الضرائب والأسعار, ولكن هذه الشعوب راضية عن الهندسة التي تحكم العلاقة بينها وبين السلطة, ولا يدخل في مظاهراتها ولا يرد على أحد منها المطالبة بتغيير النظام العام وشكل الحكم أو القواعد التي تنظم طريقة تكوين السلطة والعلاقة بينها وبينهم, وفي كل الأحوال يمتص غضبهم ويحجم من آثاره أن النظام العام يمكنهم مِن تغيير مَن وما لا يرضون عنه.

أما في بلاليص ستان من محيطها الهائم إلى خليجها السائم فالمسألة أعمق من ذلك, وعموم الناس حين يحتشدون وينزلون الشوارع في أتون أي أزمة, فليس من أجلها وحدها, بل من أجل الاحتجاج على النظام العام وطريقة تكوين السلطة واختيار الحاكم, وعلى الهندسة والقواعد التي تحكم علاقة السلطة بهم, وعلى حقوقهم العامة التي تهدرها هذه السلطة, ولا توجد أي وسيلة أو قنوات منظمة لكي يطالبوا بها أو يحصلوا عليها.

فالأنظمة والطبقات الحاكمة في دول بلاليص ستان كلها صنعتها الإمبراطوريات الماسونية وأوصلتها للسلطة وملكتها الثروات في حراستها وتحت سطوة جيوشها, لتكون من أدوات تفكيك بلاد الإسلام وإزاحة الإسلام منها, لكي تتحول المنطقة كلها إلى محضن لليهود ومشروعهم.

ولأن السلطة والطبقات الحاكمة في بلاليص ستان تدور حول الغرب وتستلهمه في كل شيء وتخاصم الأمة وتاريخها, وتستأثر بالثروات, وتحصر السلطة والثروة في قشرة على سطح المجتمعات تدور  حولها, تكونت بين الحكام والطبقات الحاكمة وبين الشعوب فجوة هائلة ومساحات تتزايد مع مر السنوات والعقود من عدم التجانس وافتقاد الرضا وتراكم السخط والغضب.

ومع هذه الفجوة وعدم التجانس صارت شرعية الأنظمة العربية الوحيدة والحقيقية في الجيوش وأجهزة الأمن والمخابرات وأدوات البطش والقهر, وفي ولائها للغرب الذي يمدهم بها, ليس لمواجهة أعداء الأمة أو أعداء شعوبهم, بل للرقابة على المجتمعات والسيطرة على جميع مناحي الحياة فيها, ولتكتيف عموم الناس وإخافتهم ومنعهم من الاجتماع ومن الحركة ومن الكلام ومن التفكير.

والجيوش وأجهزة الأمن والمخابرات يمكنها فعل ذلك, وتتحقق بها شرعية الإجبار والخوف, ولكن لا سلطان لها على العقول والنفوس, ولا تتحقق بها وحدها شرعية القبول والرضا, ولا يمكنها منع الانفجارات حين تتراكم أسبابها وتتوفر شرارتها, وإذا كسر عموم الناس حاجز الخوف, أو مكنتهم وسائل الإعلام من تجاوزه وكسره, تلقائياً أو بتدبير, ونزلوا كتلاً إلى الشوارع, فسوف تُشَل الجيوش وأجهزة الأمن ولن تقدر على فعل شيء, حتى لو فتحت النار عليهم.

ولأن مناسبة هذا الكلام أزمة الجزائر فالمثال منها, فبعد أن خرجت فرنسا من الجزائر بمليون شهيد, تَوَهم عموم الناس فيها أن هذا الخروج استقلال حقيقي يعود بهم إلى الإسلام ويعيده إلى بلدهم ومجتمعهم, فخرجوا في الشوارع يهتفون ويغنون في الشوارع:

“يا محمد مبروك عليك, الجزائر رجعت إليك”

ولكن لأنه مثل دول بلاليص ستان كلها كان استقلالاً مزيفاً, وفرنسا لم تخرج إلا بعد ان كونت طبقات موالية لها وتستلهمها وتخاصم الإسلام, وملكتها الجيوش والسلاح الذي يمكنها من امتطاء عموم الناس وعرقلة عودة الإسلام, فلم تمض بضع سنوات حتى كان العقيد محمد بو خروبة/هواري بو مدين يقول في مؤتمر عام:

” لقد اخترنا الاشتراكية نهجاً لنا فإن توافق الإسلام معها فأهلاً به”

وبعد أن أطاح بأحمد بن بِلة, لأنه أراد التخفيف من عسكرة الدولة وزيادة مساحة الديمقراطية, كان أحد محاور الدولة التي كونها هواري بومدين, حصْر الإسلام في خانة أنه رمز, وعزله عن السلطة, وعن السياسة والاقتصاد, وعن هوية المجتمع وقيمه, وعن التعليم والإعلام والآداب والفنون, وهو نفسه سيناريو محمد نجيب وعبد الباطل في مصر.

ولأن الشعارات والدعاية والتعليم لا يمكنها مهما بلغت قدراتها وسطوتها أن تُحِل الاشتراكية أو أي شيء غيرها في عموم المجتمعات العربية محل الإسلام, طالما ظل القرآن موجوداً, صار صلب دولة هواري بومدين الذي تقوم عليه ومصدر شرعيتها الوحيدة هو الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات, كما قال هواري بومدين نفسه:

“الجيش هو العمود الفقري للبلاد, والمخابرات نخاعها الشوكي”.

والجيش الذي صار العمود الفقري للجزائر, وضع بومدين على رأسه خمسة عشر ضابطاً, كانوا جميعاً من الضباط الذين يخدمون في الجيش الفرنسي الذي كان يحتل الجزائر قبل استقلالها, وهؤلاء هم الذين صاروا رأس الدولة والمسيطرين على مقاليدها بعد بومدين, والرئيس بوتفليقة نفسه كان وزير خارجية هواري بومدين وأحد أقرب المقربين إليه, ومن ذوي التوجه الفرنسي.

وعبر العقود وفي بلاد العرب جميعها, حين تصدق السلطة والطبقات الحاكمة الأكاذيب التي تشيعها عن رضا الشعوب بها, وتخفف قبضة أجهزة الأمن والمخابرات, وتحاول إحلال الوسائل الناعمة محلها, تكون النتيجة التلقائية هي ازدهار الاتجاهات الإسلامية, سواء كانت حركات سياسية أو مجتمعية أو دعوية, لينتهي هذا التخفيف بصدام مروع بين السلطة والدولة وبين عموم الاتجاهات الإسلامية, وترويع عموم الناس لانحيازهم إليها, وبإعادة الجيوش إلى صدارة المجتمعات وعودة القبضة العنيفة لأجهزة الأمن والمخابرات على كل شيء فيها, كما حدث في الجزائر وفي مصر.

وهي دورة لا نهاية لها, وستظل تتكرر طالما ظلت العلة الأصلية كامنة لا يراها ولا يتطرق إليها احد, وهي هذا الخلل العميق والراسخ في العلاقة بين السلطة وعموم الناس, وفي الهندسة والقواعد التي تحكمها وتنظمها.

وبقيت المفارقة بين مصدر الشرعية الحقيقي للأنظمة العربية وبين مصادر الشرعية المزورة التي تتغلف فيها هذه الأنظمة وترفعها كشعارات, وهذه المفارقة هي نفسها من مصادر قدح الأزمات وإشعالها.

فمصدر الشرعية الحقيقي هو الجيوش وأجهزة الأمن والمخابرات وقدرتها على إخافة عموم الناس وإبقائهم ساكنين, أي شرعية القهر والإجبار, وفي الوقت نفسه تبث السلطة والطبقات الحاكمة في التعليم ووسائل إعلامها وفي خطابها العام أن شرعيتها تقوم على تمثيلها للشعوب ورضاها, وهي في الحقيقة لا تمثلهم وهم غير راضين, وأن النظام السياسي قائم على الديمقراطية, وأن الحاكم والحكومات تتكون بانتخاب الناس لها, والانتخابات مزورة, وعموم الناس يوقنون بذلك, والسلطة تعلم أنهم يعلمون.

ومن المفترض أن الناس يختارون من يمثلهم في البرلمانات لينوبوا عنهم في مراقبة  السلطة ومحاسبتها, وما يحدث فعلاً أن السلطة هي التي تضع في هذه البرلمانات من تملك مفاتيحه ويتوافق معها, والبرلمانات في دول بلاليص ستان جميعها ومنذ نشأتها الأولى, وظيفتها ليست تمثيل الشعوب, بل أن تكون وسيلة تطيح السلطة من خلالها بالمعيار والميزان وتزيل الإسلام من المجتمعات وتحل الغرب محله وتفعل ما تشاء, في غلاف أن من يمثلون الشعب هم من يريدونه.

والرئيس في النظم الجمهورية موظف يصل إلى منصبه بالانتخاب ولفترات محددة, ولكنه في بلاد العرب حاكم أبدي, وأشد عتواً وتجبراً من الأكاسرة والقياصرة, والدساتير لا تفرق عنده وعند من يحيطون به عن مناديل التواليت, ويَنُصون فيها على أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطة, والشعب مغلوب على أمره ولا حول له ولا قوة, وتراهم يتغنون أمام شعوبهم بالدولة الدستورية وقدسية الدساتير, ثم إذا خطر لهذا الرئيس أن يفعل أي شيء خارج الدستور المقدس, أطلقوا إعلام البلاط ليبشر في الشعب بأن الدستور ليس قرآناً ولا إنجيلاً.

وترفع الحكومات والطبقات الحاكمة في بلاد العرب كلها شعارات التقدم واستلهام الغرب, وتعرضه وسائل إعلامها كنموذج براق للمحاكاة والتقليد, وحين يفعل عموم الناس ذلك ويطالبونهم بمحاكاته في طريقة تكوين السلطة وفي العلاقة بينها وبين الشعب, وفي أسلوب عمل المؤسسات السياسية والبرلمانية, كما يفعلون في القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية والاقتصاد والأزياء والرياضة والآداب والفنون وفي كل شيء, يتهمونهم بالخيانة والعمالة.

والمحصلة النهائية أن كل شيء في بلاليص ستان مزور وليس على حقيقته, وتوجد مفارقة وتناقض كبير بين مصدر الشرعية الحقيقي للسلطة والطبقات الحاكمة وبين غلاف الشرعية المزور الذي تتغلف به, وهذا هو مصدر جميع القلاقل التي تواجهها دول بلاليص ستان وحكوماتها والأزمات التي لا تكاد تخبو حتى تستعر من جديد.

والأزمة في الجزائر نموذج على المفارقة بين مصدر الشرعية الحقيقي والغلاف الذي تتغلف به الطبقات الحاكمة في بلاليص ستان كلها, فالحاكم الذي انتهت ولايته الرابعة ليس ملكاً, بل هو رئيس في دولة جمهورية, ولا يصل إلى موقعه إلا بالانتخاب, والسؤال الساذج الذي لم يسأله أحد: إذا كان الرئيس سيرشح نفسه في انتخابات والناس يمكنها أن تختاره أو لا تختاره,, فلماذا احتشد ملايين الناس في الشوارع اعتراضاً على ترشحه, بدلاً من أن يحتشدوا في مقار الاقتراع وصناديق الانتخابات ويمنعوا وصوله للسلطة من خلالها؟!

لأنهم يعلمون ويوقنون أن الانتخابات مزورة, وأصواتهم لا قيمة لها, واحتشادهم في لجان الانتخابات لن يقدم أو يؤخر, وأن ثمة جهات أخرى هي التي تختار الرئيس الذي تريده وتفرضه عليهم, وأن الدور المرسوم لهم من هذه الجهات ينحصر في الاحتشاد أمام لجان الانتخاب, ليكونوا ديكوراً يحجب هذه الجهات, وزينة لتجميل المشهد في وسائل الإعلام.

ولا علاج لهذه العلل, ولما يحدث في بلاد العرب, سوى بأحد أمرين, إما العودة إلى هندسة المعيار والميزان والصفوة القوامة عليه, وهي الهندسة الإسلامية, أو أن تنتقل بلاد العرب إلى هندسة الديمقراطية الشاملة والنموذج الغربي الكامل والقائم على وجود دستور لا يتغير من أجل شخص ولا مجموعة, وعلى الانتخابات الحرة النزيهة, والحكومات التي تأتي بهذه الانتخابات وتمثل الشعوب حقاً وتدافع عن قيمها ومصالحها, والبرلمانات التي تراقب هذه الحكومات فعلاً وتحاسبها, وولاؤها لمن انتخبوها وليس للسلطة والحكام.

وهنا المفارقة والمعضلة, لأنه حتى هذه الهندسة الغربية النموذجية والنظام الديمقراطي الحقيقي سوف يفضي قصر الوقت أو طال إلى عودة الإسلام إلى السلطة وصدارة المجتمعات, والغرب يعلم ذلك, والطبقات الحاكمة التي صنعها الغرب تعلمه, والغرب وإمبراطورياته الماسونية صنعت دول بلاليص ستان كلها وبنتها على عزل الإسلام عن السلطة وإخراجه من أنسجة المجتمعات عمداً, لأن المشروع اليهودي ما كان له أن يكون ولا أن يصل إلى تمامه إلا بهذا العزل وهذه الإزاحة.

وها هنا عتبة المستوى الثالث لما يحدث في الجزائر وفي بلاد العرب كلها منذ اندلعت فيها الثورات.

4

والمستوى الثالث والأعمق لما تشهده الجزائر والسودان وبلاد العرب كلها, والذي لا يراه ولا يدركه أحد في بلاليص ستان, لأنه عملية تاريخية متراكمة وغير منظورة في الأحداث, وما يحدث في المستويين السابقين هو في الحقيقة من أجلها وتتموه فيه, ولن يدركها الأميون في بلاليص ستان إلا بعد أن يمر الزمان وتكون قد تمت وأنتجت آثارها المرئية, وحتى حين يحدث ذلك لن يدركوا في الغالب صلة ما نتج بما حدث, كالعادة, وكما لا يدركون إلى الآن صلة غزو إمبراطوريات الغرب لبلادهم وما فعلته فيها والصورة التي صنعتها تحت سطوة جيوشها لها ولحكامها ونخبها باليهود ودولتهم.

وهذا المستوى هو علاقة ما يحدث بتطوير المشروع اليهودي والدخول في مرحلة جديدة منه, فما يحدث في الجزائر والسودان امتداد لما حدث في الثورات في مصر واليمن وسوريا ولييبيا.

وما يحدث فيها كلها هو في مستواه الأعمق استثمار للخلل في الهندسة التي أقيمت عليها دول بلاليص ستان, وللعلاقة القلقة بين السلطة والحكومات وبين الشعوب, وهو الخلل والقلاقل التي زاد من حدتها تطور وسائل الإعلام وكسر احتكار السلطة لها وآثارها الهائلة في كتل الشباب البرئ, استثمار ذلك في تحريك بلاد العرب كلها وهزها وإعادة هيكلتها سياسياً وجغرافياً وتكوين طبقات حاكمة جديدة فيها, تتناسب مع المرحلة التالية في المشروع اليهودي ومقاسات إسرائيل الجديدة.

فإسقاط الخلافة في أوائل القرن العشرين, وغزو الإمبراطوريات الماسونية لبلاد الإسلام, وتفكيكها بإزاحة الإسلام ورابطته, وإحلال العلمانية والرابطة القومية محله, وصناعة طبقات حاكمة بهذه الرابطة وإقامتها داخل الخريطة القومية, والعمل على أن يكون ولاؤها دائماً للغرب وأن تدور حوله وتستلهمه في كل شيء, وأن يمدها الغرب بالسلاح وينقذها إذا تحركت الشعوب وبدا أن مقاليد الأمور ستخرج من يدها, والخلل الذي ترتب على ذلك في العلاقة بين السلطة وهذه الطبقات الحاكمة وبين الشعوب, والذي جعل مصدر شرعيتها الوحيد في الجيوش وأجهزة الأمن والمخابرات, ذلك كله كان مرحلة هدفها أن تكون هذه الخريطة القومية محضناً يستقبل اليهود ويقيمون فيه دولتهم, وإن وجد داخلها من يرفعون شعارات العداء لها أو حتى من يقاتلونها.

ذلك أن إزاحة الإسلام بهذه الخريطة القومية الوطنية, وبدولها وأنظمتها والحدود والفواصل بينها, وبطبقاتها الحاكمة العميلة للغرب, ونخبها التي صُنعت في كل المجالات بالرابطة القومية وحشوها العلماني, ويستوي في ذلك من حاربوا إسرائيل ومن هادونها, هذه الخريطة وهذه الطبقات الحاكمة والنخب هي المحرك والعنصر الفعال الحقيقي الذي كان مراداً, لأنها ولأنهم المحضن والشرنقة التي ما كان لدولة اليهود أن تكون وتنمو إلا داخلها.

وما يحدث في بلاد العرب هو المرحلة التالية التي يتم فيها توظيف وسائل الإعلام في تفجير العلاقات القلقة بين الأنظمة والشعوب العربية, من أجل رسم خريطة جديدة لما بين الخليج والمحيط, تتفتت فيها بعض بلاد العرب ويختفي بعضها, لكي تتمدد إسرائيل على حسابها, بمعونة البعض الآخر وتواطئه, والوصول باليهود الأخفياء إلى صدارة بلاد العرب بدلاً من العملاء, ومن كان يعادي إسرائيل فسوف يخطب ودها ويطلب رضاها, ويصير الجميع مهيضي الجناح خاضعين لها, ويَضُخون في أذهان شعوبهم أن القدس مسألة هامشية, ثم يسلمون اليهود المسجد الأقصى ليقيموا الهيكل.

ولكي يمكن إتمام ذلك لابد أن يتواكب معه غسل الحكام والنخب المحيطة بهم لأدمغة شعوبهم وأنسجة مجتمعاتهم, بالتعليم والإعلام والمشخصاتية والمغنواتية, ليزيلوا ما بقي فيها من آثار الإسلام وعقائده وتاريخه وموازينه.

وهذه هي ذروة دورة إفساد بني إسرائيل الثانية في سورة الإسراء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى