بحوث ودراسات

بلاد الشام والعراق والاطماع الاستعمارية في العصر الحديث 1 من 2

عامر الحموي

كاتب وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

1- الأطماع البريطانية و الفرنسية (1):
تعود أُولى بدايات التنافس الاستعماري بين البريطاني و الفرنسيين على المنطقة العربية، إلى حملة نابليون بونابرت على مصر و سوريا (2) (1798- 1801)، حيث أنهت ثلاثة قرون من العزلة المحليّة عن المشكلات الدولية. وكان هدفها قطع طريق المواصلات بين بريطانيا و مستعمراتها في الهند والشرق الأقصى، و احتلال المنطقة العربية والتمتّع بخيراتها و ثرواتها (3). لكنّ الحملة فشلت، بسبب تدمير الأسطول الفرنسي في معركة أبي قير البحرية من قبل الأسطول البريطاني(4)، و من ثمّ فشل الحملة أمام أسوار عكّا، ومحاصرة السّفن البريطانية و العثمانية للفرنسيين، من البحرين المتوسّط والأحمر، ومن البرِّ (5).
و لكنّ التدخّل الأجنبي ازداد في المنطقة العربية خصوصاً بعد انسحاب محمد علي باشا من بلاد الشام سنة 1840 بضغط أوربي(6)، و بعد تضخّم الإنتاج في أوربا، و بحثها عن المصادر الخامّ وأسواق لتصدير منتجاتها، و ازدياد المنافسة فيما بينها. و وَجدت تلك الدول في النزاعات الطّائفيّة- و التي أسهمت في تأجيج نيرانها- مجالاً رحباً للتدخّل في المنطقة، و لتحقيق أهدافها فيها، فدعمت كُلُّ دولة طائفة معيّنة (7). ثمّ قامت قوّات فرنسية باحتلال منطقة جبل لبنان لمدّة مؤقّتة تحت مُسمّى إيقاف الحرب الطائفية (8) التي حدثت في لبنان (6) سنة 1860(10)، والتي هي أشعلتها. و لكنّ بريطانيا تدخّلت عن طريق عقد اتفاقية باريس 3 آب 1860 حدّدت بموجبها بقاء القوّات الفرنسية في منطقة جبل لبنان لمدّة ستة أشهر تحت مُسمَّى “لجنة دولية” لاستتباب الأمن في الجبل.
و اقتربت بريطانيا من المنطقة باستيلائها على قبرص 1878، حيث تنازلت الدولة العثمانية لها عن الجزيرة مقابل دعم الأخيرة للعثمانيين ضدّ الأطماع الروسية في أراضيها، ثمّ احتلّت بريطانيا مصر 1882، و أخذت تهتمّ بالمشرق العربي أكثر فأكثر عقب توقّعها بقرب نهاية الإمبراطورية العثمانية، في الوقت الذي احتلّت فيه فرنسا الجزائر و تونس. و رغم الاتّفاق الودّي (11) بين بريطانيا و فرنسا في 8 نيسان 1904(12)، فإنّ الصراع تجاه المنطقة بقي محركاً لكلا الدولتين حتى الحرب العالمية الأولى (13).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كانت جمهورية البندقية في مقدمة الدول صاحبة النشاط التجاري في المشرق العربي بوجه عام في أوائل العصر العثماني، و لمّا فتح السلطان سليم الأوّل مصر عام 1517 عقد مع ممثلي البندقية في 14 فبراير منه معاهدة تجارية منحتهم الامتيازات التي تمتعوا بها في عهد سلاطين المماليك، وأهمّها أنّ قنصل البندقية (المقيم في الإسكندرية) هو الذي يقضي في شؤون رعاياه و يفضّ منازعاتهم الشخصية والمالية طبقاً لقوانين البندقية، مع ضمان شروط خاصّة بتسهيل رسو سفن البنادقة في الموانئ المصرية، و تعهّد البنادقة من ناحيتهم بأنّ رعايا السلطان سيكونون آمنين في موانئ البندقية ومدنها، ثمّ توسّعت الدولة العثمانية وجمهورية البندقية في تطبيق هذا النظام حين عقدت معاهدة بين الدولتين عام 1521 تقرّر بمقتضاها منح رعايا الجمهورية في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية امتيازات شبيهة بما كانت تحصل عليه الجمهورية من الدولة البيزنطية قبل سقوطها عام 1452م. ياغي: العالم العربي في التاريخ الحديث، ص 179- 180. ولقد نتج عن تحوّل الطرق التجارية العالمية بسبب اكتشاف رأس الرجاء الصالح إعطاء العثمانيين امتيازاتٍ و عقد معاهدات مع دول غربية أخرى لتشجيعهم على التجارة معها. فواتيراس: مصدر سابق، ص 27. و من تلك الامتيازات هي التي أعطاها السلطان سليمان القانوني لملك فرنسا فرانسوا الأول سنة 1532. الحكيم، يوسف: سورية و العهد العثماني، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ط 1، د ت، ص 23. حيث استطاع الفرنسيون بموجب تلك الامتيازات السيطرة على تجارة الشرق الأدنى، و حيث وجبَ على جميع السفن الأجنبية التي تُبحِر في تلك المنطقة رفع العلم الفرنسي. وأصبحت فرنسا فيما بعد حامية لجميع المواطنين الأوربيّين الموجودين في المشرق العربي. العريضي: المرجع سابق، ص 150. و من بعدها حصلت بريطانيا على معاهدة عام 1838 التي منحتها امتيازات تجارية في الدولة العثمانية. ثم تبعتهما دول غربية أخرى مثل البرازيل و ألمانيا و الولايات المتّحدة الأمريكية. السباعي، بدر الدين: أضواء على الرأسمال الأجنبي في سوريا / 1850- 1958، دار الجماهير، دمشق، ط 1، 1967، ص 7.
(2) سلطان، علي: تاريخ سورية / 1908- 1918، نهاية الحم العثماني، دار طلاس، دمشق، ط 1، 1987، ص 209.
(3) رافق، مرجع سابق، ط 6، 1998، ص 309- 310.
(4) سلطان: تاريخ سورية / 1908- 1918.
(5) رافق: عبد الكريم: تاريخ المشرق العربي في العهد العثماني، منشورات جامعة دمشق، دمشق، ط 6، 1998، ص 309.
(6) طربين، أحمد: تاريخ المشرق العربي المعاصر، منشورات جامعة دمشق، دمشق، د ط، 1992، مرجع سابق، ص 80- 102.
(7) رافق: مرجع سابق، ص 311. حيث أيّد البريطانيون الدروز، و الفرنسيين الموارنة، واستغلّ العثمانيون الوضع لإعادة سلطتهم على الجبل. المرجع نفسه، ص 313.
(8) المرجع نفسه.
(9) كانت حوادث لبنان ثمرة للتدخّل الأجنبي الأوربي المباشر في بلاد الشام، ودفع الشعب وأبناء طوائفه دماءهم رخيصة، في ظلّ فتن و حروب لا شأن لهم بها، جرّهم إليها صراع الدول الأوربية الاستعماري. و قد بدأت الفتنة في عام 1856 و كان صراعاً عامّاً، ما بين النصارى أنفسهم كالكاثوليك و الأرثوذكس و البروتستانت، (كان صراع هذه الطوائف يمثّل صراع الدول المحرّضة لها)، و ما بين المسلمين المؤُيّدين ضمنياً من الدولة العثمانية. وهذا ما بيّنه جدول أعمال اللّجنة الدولية في بيروت الذي بيّن تحريض الدول الأوربية للحرب الطائفية في لبنان، حيث وقف الروس يدافعون عن الأرثوذكس، و الفرنسيون عن الموارنة و الكاثوليك والبريطانيون عن الدروز و البروتستانت و اليهود . و دافعت الدولة العثمانية عن المسلمين ضمنياً. و امتدّ صدى هذه الحرب إلى دمشق فذهب فيها عدد من القتلى و كادت أن تتحوّل إلى حرب أهلية فيها لولا تدخّل العقلاء في دمشق من أمثال الأمير عبد القادر الجزائري . أبكاريوس، اسكندر بن يعقوب: نوادر الزمان في وقائع جبل لبنان، المقدّمة، تح عبد الكريم إبراهيم السمك، رياض الريس للكتب و النشر، لندن، ط 1، 1987، ص 45- 46، 64.
(10) يتكلّم المؤرّخ المعاصر “اسكندر بن يعقوب أبكاريوس” اللبناني (الأرمني الأصل) عن نزول القوّات الفرنسية الساحل اللبناني ودخول الجيش العثماني بلاد الشام -و كان الكاتب معاصراً للحدث- ما يلي: “في اليوم السادس عشر من شهر آب أقبلت إلى بيروت (البوارج) الفرنساوية. بالعساكر والمهمّات الحربية. وكان المُقدَّم عليها الجنرال بوفور… و نزل ضبّاطهم حول المدينة. و باقي العسكر نزل بالقرب منها في حرش الصنوبر. ونصبوا هناك خيامهم… و كانوا نحو ثمانية آلاف. منها نحو ستة آلاف مقاتل من عامّة العسكر. و نحو ألفين من الأتباع و الخدم و الصنّاع المختصّين لحمل الأثقال و رفع الأحمال الثقال، و أمّا فؤاد باشا [والي العثمانيين الجديد على بلاد الشام و قائد القوّات العثمانية] فإنّه عند وصوله دمشق قبض على واليها أحمد باشا ونزع عنه السيف و العلامة السلطانية. ووضعه تحت الترسيم و كتب في شأنه إلى الدولة العثمانية العليا. و في ذلك الوقت أمر بحبس طاهر باشا وكاخيا خورشيد باشا وأحمد أفندي السلح وقائم مقام بيت الدين و متسلّم دير القمر. فقبضوا عليهم جميعاً في بيروت وحبسوهم في قشلة العسكر. وأمّا جهلة الإسلام [مثيري الفتنة] فاضربوا عند قدوم دولته وصاروا يتهاربون. حتى لحق أكثر الهاربين حوران و جبل عجلون. و كان قد أُمسِك عليهم كلّ باب و طريق. فقبض على مقدار ألف نفر منهم و ألقاهم في السجن ليقيم عليهم ديوان تحقيق. وكان قد أمر بحبس عثمان بك متسلّم حاصبيا و محمّد آغا متسلّم راشيا… و على جماعة من الضبّاط و الأنفار الذين وقعت عليهم الشبهة في ارتكاب الخيانة المُبيَّنة. فأمر بقتل أحمد باشا وقتلهم بالرصاص في قلعة دمشق. و قتل الذين تحقّق عليهم الذنب من الأهالي بالشنق… و أمّا النصارى فإذا كان لم يبق لهم بيوت. استأذنوا من دولته بالرحيل إلى بيروت. فأذن لهم و حضر منهم عيال كثيرة على مصروف الدولة العلية”. المصدر نفسه.
(11) سلطان: تاريخ سورية / 1908- 1918، ص 211.
(12) بعد فشل المحادثات البريطانية- الألمانية حول تحديد التسلّح البحري في عام 1899 (بسبب ازدياد خطر الأسطول الألماني)، و بعد شعور بريطانيا بخطر التنافس الاقتصادي الألماني للاقتصاد البريطاني في أوربّا والعالم. أدّى بها إلى التقارب بينها و بين الدول الاستعمارية الأخرى و خصوصاً فرنسا و التي كانت بينهما العديد من المشاكل المعلّقة وخصوصاً في مصر حيث كانت بريطانيا قد بسطت نفوذها على هذا البلد و احتلّته عسكرياً في عام 1882، كما بسطت نفوذها على أعالي نهر النيل و أجبرت فرنسا على سحب حاميتها من منطقة فاشودا في تشرين الثاني 1898. فتمّ في 8 نيسان 1904 عقد اتّفاق بين كلا الدولتين من أجل تصفية القضايا الاستعمارية المعلّقة بينهما حيث وقّعتا الاتّفاق الودّي (Entente Cordiale) بينهما. هذا الاتّفاق الذي تخلّت نتيجة له فرنسا عن كلّ مطالبها في مصر و أعالي النيل، كما اعترفت لبريطانيا باحتلال قبرص الذي تمّ في عام 1876. من ناحيتها بريطانيا اعترفت لفرنسا بالحقّ في بسط حمايتها على المغرب الأقصى. كما سوّيتا بعض المشكلات الاستعمارية الثانوية الشائكة: كتعديل الحدود بين المستعمرات البريطانية الفرنسية في أفريقيا السوداء، و في سيام “تايلندا” و جزيرة مدغشقر و في جزر هبريد الجديدة، و بنيوفوندلاند. الصطّوف، عبد الكافي: دراسات في تاريخ أوربا و الولايات المتّحدة المعاصر (من مؤتمر فينّا 1814- 1815 لى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945)، مطبعة اليمامة، حمص، ط 1، 2002، ص 67.
(13) سلطان: تاريخ سورية / 1908- 1918، ص 211.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى