صحافة

المفقودون “أموات” قبل أن يثبت العكس

في غمرة الصراع الدائر وتشابكاته المعقّدة وحلوله المؤجّلة؛ ظلّ ملف الإفراج عن المعتقلين، ومعرفة مصير المفقودين والمغيّبين قسرًا، يغيب ويحضر على ساحة التباحث الدولية، بين المعارضة والنظام، حيث جرى تبويب هذا الملف مع الملفات الشائكة والمؤجّلة، بالرغم من كثرة المطالبين، ليبقى هاجسًا يتمسّك به أهالي المفقودين، وأملهم يعلو حينًا ويخبو أحيانًا، إلى أن حُسم الأمر بأن أصبح المفقود ميتًا بعد أربع سنوات.

ترتيبات معقّدة وكثير من الإشكاليات رافقت المرسوم الدستوري ذي الرقم 15 لعام 2019، الصادر بتاريخ 31/7/ 2019، والقاضي بإضافة مادتين إلى قانوني الخدمة العسكرية وخدمة عسكريي قوى الأمن الداخلي، إضافة إلى تعديل مادتين من قانوني المعاشات العسكرية ومعاشات عسكريي قوى الأمن الداخلي. وعلى الرغم من أن هذا القرار بشكله العمومي اختصّ بالمفقودين في صفوف قوات النظام، فإنه في العمق شكّل إجابة عن أسئلة أهالي المفقودين ككل. فالدستور السوري لم يميّز بين المفقود والغائب أو المغيّب قسرًا، في الاصطلاح، ليكون المفقود هو الغائب الذي انقطعت أخباره، فلا يُعرف مكانه ولا يُعلم أي شيء عن حياته أو وفاته، وتسري بشأن المفقود والغائب الأحكامُ المقرّرة بحسب المادة 34، وتميل معظم التشريعات إلى اعتبار نهاية الفقدان، بعودة المفقود أو بموته أو بالحكم على موته بعد سن معينة للمفقود، وإن لم يقم الدليل على موته. وهي بحسب قانون الأحوال الشخصية السوري سنّ الثمانين، وتتقرر حياة المفقود في هذه الحالة بحكم قضائي استنادًا إلى رجحان احتمالها، وليس إلى ثبوتها ثبوتًا قاطعًا، وبحسب المادة 205 من قانون الأحوال الشخصية السوري (الوفيّات الحكمية) فإن الشخص الذي يُفقد أو يغيب، في ظروف تحكمها عمليات عسكرية أو اضطرابات داخلية أو أمنية يغلب فيها الهلاك، يمكن اعتباره متوفّى، عبر دعوى ترفعها الزوجة أو أحد الورثة أمام المحكمة، ويشترط القانون أن يكون انقضى أربع سنوات بالتمام على غيابه، حتى يتم التعامل قانونيًا على أنه متوفّى.

التعديل الجديد عرّف المفقود “العسكري الذي لم تُعرف حياته من مماته، أو أنّ حياته محقّقة ولكن لا يعرف له مكان، وذلك بسبب الحرب أو العمليات الحربية أو الحالات المشابهة…”، مع التركيز على الاستحقاقات المالية للمفقودين، وإضافة صفة “شهيد” بعد أربع سنوات، مع ميّزاتها التي كثرت في الآونة الأخيرة، في محاولة لإرضاء حاضنته الشعبية، وكفّ صوتها عن المناشدة الدائمة بمعرفة مصير أبنائهم، خصوصًا مع مماطلة النظام بمبادلة مفقوديه الأحياء، مقابل سجناء معارضين، وتركها لظروف التسويات ومباحثات الضامنين في أستانا، وللتخلص من عبء معرفة مصير هؤلاء الجنود الذين أجبرتهم الحال وإجبارية الخدمة العسكرية على أن يكونوا حملة سلاح بوجه إخوانهم السوريين، والذين ضاقت بأهلهم الحال في انتظار غائبهم، وتضيق بهم الحال مع تردّي الظروف المعيشية، ويمكنهم الاستفادة من ميزات الشهيد التي تشكّل عونًا لكثير من الأُسر المعدمة. وتجدر الإشارة إلى أن مفقودي الميليشيات الرديفة، أو المدنيين المتعاقدين مع قواته، أو المفقودين المدنيين، لا يشملهم القرار.

أما الأهم من هذا وذاك، فهو التخلّص من أحد الملفات الضاغطة التي يجب التخلص منها، بعد أن تحوّلت أسماء الآلاف من المعتقلين في سجلّات القيد المدني إلى “أموات”، وأُصدرت بحقهم شهادات وفاة، مرّت من دون صدًى يُذكر من مؤسسات المعارضة الرسمية السورية، وكانت خبرًا عاديًا في الإعلام العربي والعالمي. وبناءً على هذا المرسوم الذي يمكن تجييره، كما غيره من قوانين سورية التي وُظّفت لخدمة النظام الذي يملك كل مؤسسات البلاد بما في ذلك القضاء؛ فإن شكوى الأهالي بخصوص غياب أحبابهم ومطالبهم بالبحث عنهم، لن تجدَ حجّتها بعد مرور 4 سنوات، فهم يبحثون عن رفات ميت، وميتهم لن يكون بمنزلة رفات الجاسوس الإسرائيلي “إيلي كوهين” لتسارع روسيا بإعادته لأهله، أو تجعل منه أولوية في مؤتمرات التسوية التي تديرها، كونها ضامنة للنظام السوري دوليًا. فهؤلاء المفقودون لم يكونوا سوى أرقام وورقة ضغط تحركها المنظمات المدنية معظم الأحيان، وتستجيب لها الجهات الدولية أحيانًا، والتخلّص منها يشكل تخلّصًا من واحد من أهم الملفات التي رافقت الحراك، خصوصًا مع تحرّك 50 منظمة سورية، في حزيران/ يونيو الماضي، للمطالبة في رسالة مشتركة بتحرك فوريّ في مجلس الأمن، بشأن قضية المفقودين في سورية، وضرورة عقد جلسة خاصة في مجلس الأمن، حول قضية المفقودين والمعتقلين، وإلزام سلطات الأمر الواقع وأطراف الصراع المحلية والإقليمية والدولية، وعلى رأسها الـنظام، بالوقف الفوري لممارسات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، والتجميد الفوري والكامل لعمليات الإعدام وتصفية المحتجزين وتسليم جثامين الضحايا. وقد قدّرت إحصائية (الشبكة السورية لحقوق الإنسان) بين آذار/ مارس 2011، وآذار/ مارس 2019، عدد المختفين قسريًا والمحتجزين تعسفيًا، بأكثر من 143 ألفًا، بينهم 127 ألفًا في سجون النظام، بينما يتوزع الباقون بين فصائل المعارضة المسلّحة و”تنظيم الدولة الإسلامية”، و”قوات سوريا الديمقراطية”، وأن أكثر من 14 ألفًا توفّوا تحت التعذيب، وتفوق نسبة المتوفّين داخل سجون النظام السوري 98%. وترفع بعض التقديرات أعداد المحتجزين والمخفيين والمفقودين في سورية إلى مئتي ألف.

يعيش السوريون أعوامهم على إيقاع جملة انتهاكات كثيرة، لا تحدّها حدود ولا يردعها قانون، تجعل من الأحياء أمواتًا أو على حافة الموت بأشكاله المختلفة، ونوافذ الأمل التي يفتحها الحكم على المفقودين، بأنهم أحياء حتى يثبت العكس، أُغلقت بعد أن صاروا -بمرسوم جمهوري- أمواتًا بلا قبور أو عزاء، وقبل أن يثبت العكس.

موقع جيرون- هوزان خداج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى