بحوث ودراسات

تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية” 6 من 12

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

بل من قال أصلا إن محمدا كان يصيبه الصَّرْع؟ إن ذلك الشيطان يحاول بخبث، لكنه مفضوح، أن يمرر فى هدوءٍ الزعمَ بأن النبى عليه الصلاة والسلام كان مصابا بالصَّرْع، وكان يسقط دائما أمام المشركين فى الشارع كلما جاءته نوبة الوحى. يريد أن يقول إن وحى القرآن لم يكن وحيا سماويا بل أثرا من آثار الصَّرْع. ولكن منذ متى كان الصَّرْع يثمر شيئا مثل القرآن أو يثمر أى فكر أصلا؟ إن الصَّرْع حالة يفقد معها الإنسان حسه وشعوره وعقله وتفكيره. فكيف يتسق هذا وذاك؟ وكيف، عندما ينهض محمد من نوبة الصَّرْع، يكون جاهزا بنص قرآنى بلغ القمة فى روعة الأسلوب وفى رقى مضمونه العقيدى والأخلاقى والاجتماعى والاقتصادى والنفسى والسياسى والعسكرى حسب النص الموحى به، خصوصا أن الوحى فى كثير من الحالات كان ردا فوريا على سؤال من هذا الشخص أو ذاك بما يدل على أنه لم يكن أمام الرسول فرصة للتفكير فى الجواب؟ ولقد سبق أن تناولت تلك التهمة الغبية فى الفصل الثالث من الباب الأول فى كتابى: “مصدر القرآن”، وبينت من خلال ما كتبه الأطباء عن أعراض الصَّرْع أن أعراض الوحى شىء آخر مختلف تماما عن هذا المرض وعن أى مرض غيره. ثم لو كان محمد مريضا بالصَّرْع ويسقط فى شوارع مكة دائما أكان المشركون يؤمنون به حتى لو انطبقت السماء على الأرض؟ وهل المصروع يمكن أن يكون قائدا سياسيا وعسكريا ومشرِّعا وزوجا وصديقا وأبا وحَمًا وقاضيا يبعث على الإجلال والتبجيل بين أتباعه، بل وبين الخصوم الكارهين له؟ وقبل ذلك كله هل حدث أن اتهمه قومه بأنه مصروع؟ الواقع أن ذلك لم يحدث قط. ألا إن ما يقوله كرستوف لوكسنبرج لكلام ساذج مفضوح.
كذلك يقول الكاتب إن “الهوى” فى الآية الثالثة هى الصَّرْع. فهل يمكن أن يقول العربى إن فلانا لم ينطق ما نطقه عن الصرع؟ يمكننا أن نقول إن فلانا ينطق عن علم أو عن جهل أو عن كبر أو عن فرط سذاجة مثلا، أما أن يقول إنه ينطق (بمعنى “يأتى بأفكار ومبادئ وعقائد وأخلاق”) عن صرع فلا. ذلك أن الصرع غياب عن الوعى والإدراك والتفكير والتقدير، وليس حالة يمكن أن يصدر عنها أى شىء من هذا القبيل. أما استشهاده بقوله تعالى عن خمر الجنة: “لا يُصّدَّعون عنها ولا يُنْزِفون” فهو استشهاد فى غير محله، إذ التصديع (أى الإصابة بالصداع) هو نتيجة لشرب الخمر، أما التفكير والتقدير فليسا نتيجة للصرع. وهذا يريك كيف يخبط الرجل خبط عشواء! ألم نقل إنه حمار عريق فى الحمارية؟
وهنا أود اهتبال الفرصة السانحة لسَوْق بعضٍ من كلامه فى تحليل الألفاظ العربية وانتقالها المزعوم من السريانية إلى العربية كى يلمس القارئ بنفسه أنه أمام كلام غير مفهوم. يقول ذلك الأعجمى المتساخف مخطِّئا القرآن بعد أربعة عشر قرنا لم يستطع أن يدرك خطأه خلالها عمالقة الشعراء والخطباء والبلغاء من مشركين ويهود ونصارى معاصرين للنبى ولا متعصبة اليهودية والنصرانية الذين كانوا يعملون طوال الوقت على تصيد العورات للإسلام فلم يفلحوا حتى هل هلال لوكسنبرج فالتقطت عيناه فى الحال تلك الأخطاء:
“القراءة التقليديّة: “يُنْزِفُونَ” قراءة خاطئة. والتعديل المُقْتَرَح هنا يُبَرِّره الفعل السّريانى “اتْرَفِّى” (“استرخى”)، وما الصيغة القرآنيّة إلا ترجمة له. أنظر:
R. Smith, Thesaurus Syriacus, vol. I, Oxford 1879, vol. 2, 1901.
مثلا: “رَفِّيُوتا” و “مرَفِّيُوتا” وما يقابلهما بالعربيّة، حسب بار على وبار بهلول: “رَخَاوَة”، “ارْتِخَاء”، اسْتِرْخَاء”. أن يكون الجذر السريانى “رْ فَ ا” هو نفسه صيغة مُشتقَّة من “رْ/فَ/ح” بحذف الحاء فذلك ما تبرهن عليه دلالة هذا اللّفظ الذى يقابِله منّا (Manna) فى العربيّة بكلمة “رَخَفَ” (وهو تبادل صوتمى لكلمة “رَفَحَ”، فالحرف العربى “خَ” هو صوتم آرامى منبثق عن حرف “حَ”، ويؤكّد هذا عديد اللّهجات الآراميّة البابليّة بما فيها اللّهجات الآراميّة الجديدة التى تُعْرَف بالآشوريّة فى بلاد ما بين النهرين) ثمّ “اسْتَرْخى” بالمعنى المادّى للكلمة (مثل العجين بالنّظر إلى طبيعته غير المتماسكة).
إن هذا الاستشهاد الأخير يُظهر لنا أنّ الجذر العربى “رَ/خَ/ا” هو اشتقاق تطوّر من حذف حرف النهاية: “ف” للفظة “رَخَفَ” (مثلا فى اللّهجة الحلبيّة المعاصرة فإنّ لفظة “ب-أَعْرِفْ” تُنْطَق “ب-أَعْرَا). وهذه الأخيرة هى بدورها نطق مشتق من الجذر السريانى الآرامى “ر ح ى ف” الذى يُنْطَق بدوره من خلال تخفيف الحرف الوسطى “ح”، والفعل العربى المشتق “رَأَفَ/رَؤُفَ”، ومنه اللّفظ السريانى “رَاحُوفَا” الذى يعطى اللّفظ العربى “رَئِيف”. وهذا يمكن مقارنته بالجذر “رْ/حِ/يـ/مْ”، بالعربيّة “رَ/حِ/ي/مْ”. أخيرا، نلاحظ أنّ “لسان العرب” يستشهد عند تعرّضه للجذر “رَ/فَ/حَ” بحديث عمر لمّا تزوّج أمّ كلثوم بنت على، إذ قال: “رَفِّحُونِى”. أى قولوا لى ما يُقال للمُتزوِّج، بمعنى “تَفْرَحُ” (وهذه العبارة ما زالت تُقال إلى يومنا هذا قبل أو عند الزّواج)، وكذلك فإنّ عبارة “فَرَحْ” تُطلق على حفلة الزفاف فى مصر مثلا، (وكذلك فى تونس). وهذا يُفسِّر لنا أن الصيغة المشتقّة من الفعل العربى “فَرِحَ” هى تبادل صوتمى للجذر السريانى الآرامى “ر/ف/ح” (أمّا الصيغة العربية الأخرى “رَ/قَ/حَ” التى ذكرها “لسان العرب” على أنّها تؤدّى نفس المعنى هى بوضوح نتيجة للتّنقيط الخاطئ الذى أفرز “ق” عوضا عن “ف”). نودّ أيضا أن نجلب الانتباه إلى صيغة أخرى للإشتقاق العربى لنفس الجذر التى هى نتيجة لقلب “الحاء” إلى “هاء” لكى تعطى: “رَفَهَ/رَفُهَ”، تَرَفَّهَ، والأسماء المشتقّة مثل “رَفَاهَة” و”رَفَاهِيَّة”… إلخ”.
أما “شديد القوى” فإن لوكسنبرج يرى أنه هو الله وأن معنى “ذو مِرَّة”: “الذى هو مارا”، أى الرب. وأما جملة “وهو بالأفق الأعلى” فالواو فيها استئنافية لا حالية، وتعنى أن الله يسكن فى الأعالى، أى أن مسكنه فى السماء، وأن “دنا فتدلى” معناها أنه سبحانه قد تواضع فنزل من عليائه ليكون فى مستوى عبده تحببا إليه وتنازلا حتى لا يكسر خاطره. أما من أين أتى التواضع هذا فمن كلمة “استوى”، التى أوصلها لوكسنبرج ببهلوانياته وشقلباظاته إلى أن معناها: “تواضَعَ”. أى أن الله قد نزل من عليائه نزولا ماديا.
والآن إلى التفاصيل. فهو، بكل وضوح، لا يتصور أو لا يريدنا أن نتصور، أن صفة “القوة” لا يمكن أن يوصف بها أحد سوى الله، مع أن هذه الصفة قد تكررت فى القرآن كثيرا نعتا للمخلوقين كما فى قوله تعالى: “إنى عليه لقوى أمين”، “إنّ خَيْرَ مَنِ استأجرتَ القوىُّ الأمين”، “اللهُ الذى خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة”، “مَنْ أشدُّ منا قوةً وأكثرُ جمعا؟”، “كانوا أشدَّ منهم قوة”. بل إن قوله تعالى فى سورة “النجم”: “شديد القوى” قد وُصِف به جبريل فى سورة “التكوير” فى الحديث عن نفس الموقف: “وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِنْدَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثََمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ”. فـ”شديد القُوَى” فى “النجم” هو ذاته الموصوف هنا بـ”ذى قوة عند ذى العرش مكين”. وهناك رأى محمد جبريل “بالأفق الأعلى”، وهنا رآه “بالأفق المبين”. وأرجو أن يتنبه معى القارئ إلى أننا هنا، كما هو الحال مع سورة “النجم” أيضا، إزاء قَسَمٍ متلوٍّ بـ”إذا” الظرفية، مع فصل القسم عن جوابه أيضا.
ومعروف فى الإسلام وفى العقل وفى المنطق أن الله لا يُرَى لنا، على الأقل: فى الدنيا وفى ظل إمكاناتنا الإدراكية الحالية. وقد سبق موسى أنْ طلب من الله رؤيته، فكان جوابه سبحانه عليه: “لن ترانى. ولكن انظر إلى الجبل. فإن استقرَّ مكانَه فسوف ترانى”. ثم إنه سبحانه تجلَّى للجبل فاندكّ، وخَرَّ موسى صَعِقًا، واعتذر حين أفاق قائلا: “سبحانك! تبتُ إليك، وأنا أول المؤمنين”. وقد نفت عائشة أن يكون الرسول رأى ربه البتة. والإسلام لا يعرف التجسيد كالنصرانية، ومن ثم فرؤية الله مستحيلة فى دنيانا هذه إلى أن ننتقل إلى الآخرة، فيصير لكل حادث حديث لا نريد استباقه قبل الأوان.
وهذا هو الحديث الخاص بكلام عائشة فى إنكار رؤية النبى ربه، فعن مسروق أنها رضى الله عنها قالت له: “يا أبا عائشةَ، ثلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بواحِدةٍ منهنَّ فقد أعظمَ على اللهِ الفِرْيةَ: مَنْ زَعمَ أنَّ محمَّدًا رأى ربَّهُ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على الله. والله يقول: “لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ”، “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ”… فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنْظِرينى ولا تُعْجِلِينى. أليسَ اللهُ تَعالى يقول: “وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى”، “وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ”؟ قالَت: أنا واللهِ أوَّلُ مَن سألَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عَن هذا. قالَ: “إنَّما ذلك جبريلُ. وما رأيتُهُ فى الصُّورةِ التى خُلِقَ فيها غيرَ هاتينِ المرَّتينِ. رأيتُهُ منهبِطًا منَ السَّماءِ سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ”. ومن زعمَ أنَّ محمَّدًا كَتَمَ شيئًا مِمَّا أنزلَ الله عليهِ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على اللهِ. يقولُ الله: “يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ”. ومَنْ زعمَ أنَّهُ يعلَمُ ما فى غدٍ فقد أعظمَ الفريةَ على اللَّهِ، واللَّهُ يقولُ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إلا اللَّهُ”.
ومن ثم فكل ما قاله لوكسنبرج هو من ثمار التفكير بالحوافر لا مَعْدَى لنا عن وصفه بذلك. والعجيب أن لوكسنبرج يحسب نفسه خفيف الدم فيقول إن “ذو” فى “ذو مِرّة”، ليس معناها “ذو قوة” بل معناها “الذى هو الرب” لأن “مِرّة” هى فى السريانية “مارا”، أى الرب. وعلى ذلك فمعنى الكلام هو “علّمه شديد القوى الذى هو الرب”. وهو يستعين بما يقال فى كتب النحو من أن بعض القبائل العربية تستخدم “ذو” لا بمعنى “صاحب” بل بمعنى “الذى/ التى” كما فى قول الشاعر: “وبئرى ذو حفرْتُ وذو طويتُ”، أى “بئرى التى حفرتها والتى بطَّنتها بالحجارة”. لكن فاته أن “ذو” (عندما تكون اسما موصولا) تحتاج إلى جملة صلة. وهنا لا توجد جملة صلة. فهل يمكن أن يقول العرب: “شديد القوى الذى الله”؟ هذا ليس كلاما عربيا بل خواجاتيا سخيفا تافها. والعجيب أنه يحاول استغفالنا فى الزحمة فيقول فى عجلة ولهوجة إن “ذو” معناها: “الذى هو”، أى “الذى هو مِرَّة” أى مارا، بمعنى “الذى هو الرب”، وذلك حتى تستقيم له الجملة. وشتان! فـ”ذو” معناها “الذى” فقط دون “هو”. ورؤيته حلمة أذنه أقرب إليه من بلوغ غايته من خلال هذه البهلوانية. أما كيف تحولت، على يديه الخفيفتين كأيدى اللصوص، كلمة “مِرَّة” إلى “مارا”، أى الرب فى السريانية كما يقول، فمن خلال الزعم بأن هناك خطأ فى قراءة كلمة “مارا” أدى إلى نطقها وكتابتها: “مِرَّة”.
إن صنيع هذا المدلس ونظرائه إنما يستهدف وضع المسلمين دائما تحت ضغط التشكيك فى دينهم وكتابهم ونبيهم وإرباك ذهنهم وعقولهم وإشعارهم أن كل شىء فى القرآن مؤلف تأليفا وليس نازلا من السماء وأنه لا فرق بينه وبين الكتاب المقدس، الذى انهار تحت معاول البحث والتحقيق بعدما ثبت أنه من صنع بشر. وبهذا لا يكون أحد أحسن من أحد. ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإسلام هو الحصن الحصين المتين للمسلمين. به فتحوا العالم وسادوا الدنيا، وظل الغرب يرهبه ويرهب أتباعه قرونا. وهم موقنون أن المسلمين بدون الإسلام لا شىء: فبه قوتهم، ومنه عزتهم وكرامتهم، وبمبادئه وقيمه العظيمة يمكنهم أن يستعيدوا مجدهم الدابر الغابر وتصبح لهم مكانة عظيمة. فالذى يفعله المستشرقون وصبيانهم هو ضربات استباقية حتى لا يفيق المسلمون من سكرتهم وخُمَارهم ويظلوا فى رقدة الوخم والوهن بل رقدة العدم التى هم فيها. واستدامة تلك الرقدة القاتلة إنما تكون بالتشكيك فى مصدر القرآن، والإلحاح على أنه إنجاز محمدى. وما دام القرآن صناعة بشرية فلن يعود له ذلك السحر الآسر الذى يستولى به على العقول والقلوب. وبالمناسبة فقول لوكسنبرج إن قوله جل جلاله: “وأجلب عليهم بخيلك ورجلك” هو فى الحقيقة “بحيلك ودجلك” يذكرنا بالنكتة التى تقول إن أحد العوام الجهلاء قد رأى لافتة مكتوبة بخط متداخل كما يفعل الخطاطون أحيانا لبعض الأسباب الفنية والزخرفية فقرأها على أنها اسم شخص يُدْعَى: “سُنْقُرْ بِكْ فلانْس”، ولم يفهم لأنه جاهل وعامى أنها قوله تعالى من سورة “الأعلى”: “سنُقْرِئُكَ فلا تَنْسَى”.
أما الخطأ الإملائى المزعوم الذى ذكر محمد على عبد الجليل أن المحروس أحمد الجابرى قد اكتشفه فى قوله تعالى: “فويل للمصلين” واقترح تحويله إلى “فويل للمُضِلِّين” لينسجمَ، حسب كلامه، معنى الآية التالية مع المنطق القرآنى: “فويل “للمُضِلِّينَ * الَّذينَ هُم عن صلاتهم ساهون” لأنَّ المُصَلِّين لا يمكنهم أنْ يسهوا عن صلاتِهم، وإلا لما كانوا مُصَــلِّين، أما ذلك الخطأ الإملائى المزعوم فيدل على جهل القائل به وغبائه الغليظ، إذ المقصود وصف صنف من المصلين يؤدون الصلاة أمام الناس لكنهم بينهم وبين أنفسهم ساهون عما يصنعون لأنهم لايصلون من قلوبهم بل يؤدون الصلاة رياءً يخفون حقيقة حالهم بها، فهم يقومون ويركعون ويسجدون ويجلسون دون أن يعوا شيئا مما يفعلونه ودون أن يعتقدوا شيئا مما يرددونه. ومعروف أن المصلين أصناف: فمُصَلُّون مركِّزون، ومصلون غافلون، ومصلون عابثون، ومصلون منافقون، ومصلون يضيعون وقتهم، ومصلون غير طاهرين، ومصلون غير مسلمين أصلا… وهكذا. والمصلون المقصودون فى السورة هم الذين عن صلاتهم ساهون. فهم يصلون رياء ونفاقا، ولهذا قال عنهم القرآن عقب ذلك: “الذين هم يراؤون”. ولأن صلاتهم ليست نابعة عن إيمان فتراهم يمنعون الماعون ولا يساعدون أحدا.أى أن الصلاة لم تؤثر فيهم، وبقيت قلوبهم جاسية لا تلين- إبراهيم عوض).
(النوع الثانى: الأخطاء اللغوية أو الإنشائية المقصودة لحاجة ترجمية أو موسيقية: وهى عيوب أكثر منها أخطاء. وبعض هذه الأخطاء فى الألفاظ أو فى ترتيب الكلمات داخل الجملة ناتجٌ على الأرجح عن تأثير النصوص غير العربية التى كانت مَصْدَرَ القرآن. ومن هذه الأخطاء تغييرُ التذكير والتأنيث للكلمة كاستخدام الكلمة المؤنَّثة بصيغة المذكَّر لإضفاء معنى إضافى عليها يؤدِّى معنى الكلمة الأصلية فى اللغات الأجنبية (الآرامية أو العِبرية أو غيرها) التى نُقِلَ منها القرآنُ بتصرُّف شديد. مثلا، استخدمَ القرآنُ 24 مرةً بصيغة المذكَّر كلمةَ “عاقبة” المؤنثةَ (مثال: “فانْظُرْ كَيفَ كانَ عاقِبةُ المُنْذَرِين” [الصافات، 73])، وهذا خطأ. ويبدو أنه خطأ مقصود لحاجة ترجمية لأنه من المستبعَد أنْ يُخطِئَ سهوًا واضعو القرآنِ أو جامعوه أربعًا وعشرين مرةً فى تذكير كلمة مؤنثة. وأُرَجِّح أنَّ الكلمةَ العربية المؤنثة “عاقبة” هى ترجمة لكلمة عِبْرية مذكَّرة ربما هى الكلمة العِبْرية المذكَّرة עקב[eqev] التى تعنى: عَقِب القَدَم، مآل، نتيجة، تتمَّة، جزاء. ويبدو أنَّ واضعى القرآنِ استخدموا كلمةَ “عاقبة” بصيغة المذكَّر لكى يضيفوا بُعدًا دلاليًا آخر غيرَ موجودٍ وقتَـئذٍ فى الحقل الدلالى للكلمة العربية. ويُرَجَّح أنَّ كلمة “عاقبة” المؤنَّثة كانت فى وقت كتابة القرآن تعنى: الذُّرِّيَّة والولد. [“وكُلُّ من خَلَفَ بَعدَ شىء فهو عاقِبَةٌ” (تاج العروس).” والعاقِبةُ ولَدُ الرجلِ ووَلَدُ ولَدِه الباقونَ بعده” (لسان العرب)]. وبالتالى فقد كان استخدامُ هذه الكلمة العربية المؤنثة بصيغة المذكَّر فى القرآن (طِبقًا للكلمة العِبرية الأصل فى النص العِبرى المنقول عنه كالتوراة والتلمود وغيرهما) يهدف ربما إلى إعطاء معنى الجزاء والعِقاب.
نلاحظ مثلا فى هاتين الآيتين فى المزامير (לָמָּה אִירָא, בִּימֵי רָע–עֲו‍ֹן עֲקֵבַי יְסוּבֵּנִי.) [“لماذا أخافُ فى أيَّامَ الشرِّ عندما يُحيطُ بى إثْمُ مُتََعَقِّبى”] (مزمور، 49: 5) و(ז יָגוּרוּ, יצפינו (יִצְפּוֹנוּ—(הֵמָּה, עֲקֵבַי יִשְׁמֹרוּ: כַּאֲשֶׁר, קִוּוּ נַפְשִׁי.) [“يجتمعون يختفون يلاحظون خطواتى عندما ترصَّدوا نفسي.”] (مزمور 56: 7) أنَّ الكلمة العِبرية (עֲקֵבַי) (“آثارى” أو “تعقُّباتى”)، التى تشترك فى الجذر مع الكلمة العربية المؤنثة “عاقبة”، هى كلمة مذكَّرة فى صيغة الجمع مع لاحقة الملكية العائدة على المتكلِّم المفرد- محمد عبد الجليل).
(الواقع أنه يكفى فى نسف هذا الكلام العفن كلمة واحدة: أين يا ترى تلك الغاية الترجمية أو الموسيقية التى سولت للرسول أو للمسلمين من بعده استخدام الفعل: “كان” لـ”عاقبة” عوضا عن “كانت”؟ لا يوجد، لأن كلمة “كان” موجودة فى أول الجملة بكل الشواهد، وليست هى الفاصلة. ثم فلتكن فى العبرية ما تكون فما دخل ذلك بتذكير الفعل المستخدم معها فى العربية؟ وهل كان الرسول أو مساعدوه أو العابثون فى القرآن يعرفون العبرية وقواعدها النحوية والصرفية؟ نحن لم نكد ننتهى من أمر السريانية حتى طلعت علينا العبرية أيضا! لكأنهم قد تخرجوا من جميع أقسام اللغات السامية بكلية الألسن. أليس هذا بالله عليكم هو التنطع بحَوْبَرِه وزَوْبَرِه؟ ثم إن النصوص القرآنية الكذا والعشرين التى وردت فيها كلمة “عاقبة” مذكَّرةً تنتمى كلها، خلا ثلاثة منها فقط (هى 137 آل عمران، و10 محمد، و9 الطلاق، إلى الفترة المكية وليس فى المدينة حيث اصطبح الرسول والمسلمون هناك بوجه اليهود الحليسى أصحاب اللغة العبرية كى يقال مثلا إنهم قد استعاروها منهم أو راعَوْا أن يكلموهم بلغتهم ولو على سبيل التظاهر بمعرفة اللغات الأجنبية كما يصنع الشاعرون بالنقص من بيننا الآن حين يطعِّمون حديثهم دون أى داع ببعض الألفاظ الأجنبية التى لا يعرفون سواها بغية لفت النظر وإيهام المخاطَب بأنهم ذوو ثقافة واسعة ومعرفة بلغات المتحضرين. ومن ثم فكل ما قاله ذلك المتنطع ثقيل الظل هو هباء فى هباء.
كذلك فهذا الجاهل لا يعرف أن العربية تجيز تذكير الأفعال المسندة إلى المؤنث المجازى، أى المؤنث الذى ليس له فَرْج. ومن شواهد هذا فى القرآن: “ولا يُقْبَل منها شفاعةٌ” بدل “ولا تُقْبَل منها شفاعة”، “لئلا يكون للناس عليكم حُجَّة” بدل “لئلا تكون للناس عليكم حجة”، “قد كان لكم آيةٌ فى فئتين” بدل “قد كانت لكم آية”، “فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسُنا إلا أن قالوا: إنا كناظالمين”، “وقالوا: لولا نُزِّل عليه آيةٌ من ربه” بدل “نُزِّلَتْ عليه آية”، “وما كان صلاتُهم عند البيتِ إلا مُكَاءً وتَصْدِيَةً” بدل “وما كانت صلاتهم”، “لقد كان لسبإٍ فى مسكنهم آيةٌ” بدل “كانت لسبإ فى مسكنهم آية”، “تدارَكَه نعمةٌ من ربه” بدل “تداركته نعمةٌ من ربه”، “حَقَّ عليه كلمةُ العذاب” بدل “حقَّتْ عليه كلمةُ العذاب”، “حَقَّ عليهم الضلالةُ” بدل “حَقَّتْ عليهم الضلالةُ”. بل إن العربية لتجيز تأنيث الفعل المسند إلى مؤنث حقيقى التأنيث متى فُصِل بينه وبين ذلك المؤنث كقولنا مثلا: “تخصَّص فى الطب سميرةُ”. ومع هذا كله فقد أُنِّّثَ الفعل المسند إلى “عاقبة” فى قوله سبحانه: “فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ”، “ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبةُ الدار”. وهناك توجيه آخر مقبول جدا، وهو أن “عاقبة” معناها أيضا “الولد والنسل”، فرُوعِىَ فى تذكيرها ذلك، إذ كل من الولد والنسل مذكر. وعلى هذا يكون معنى “فكان عاقبة أمرها خسرا” مثلا أنها نسلت نسلا خاسرا ضارا.
وثالثا كيف يتصور هذا المعتوه أن العبث بالقرآن يمكن أن يتم دون أن تشتعل الدنيا وتقوم المعارك وتؤلف الكتب وتُتَبَادَل التكفيرات؟ هذا رجل أحمق يظن أن ذلك الكلام الأخطل سوف يجوز على العقول. إن هذا الملعون يريد أن يوهمنا بأنه كان بين جامعى القرآن من يعرفون العبرية والسريانية وغيرهما معرفة واسعة عميقة بدقائقهما النحوية والصرفية والمعجمية، وأنهم كانوا يعقدون اجتماعات يتبادلون فيها الآراء ويطرحون الاقتراحات إلى أن يستقروا على “عبث معقول” فيأخذوا به ثم يذهبوا فيجمعوا المصاحف ويحرقوها ويوزعوا بدلا منها مصاحف ملعوبا فيها مع بعض الحلوى لإسكات المتحرجين المعارضين على أساس من قاعدة “أطعم الفم تستح العين”. وأخيرا فكيف سكت أصحاب تلك اللغات فلم يفضحوا الملعوب المضحك، ويجعلوا من المسلمين وقرآنهم ضُحْكَة كل ضاحك، ويضربوا دين محمد فى مقتل؟ هل من المعقول أن يوجد ناس على هذه الشاكلة من الخطل والهطل؟ صحيح: من يَعِشْ يَشُفْ.
وبالمناسبة كنت صغيرا أخطِّئ من يقول: “البنات تلعبن” متصورا أن الصواب هو “يلعبن” فقط، لكن لما كبرت عرفت أن الصورتين جائزتان، وإن كانت الثانية هى الأشيع. كذلك قرأت أنه يمكنك أن تقول مثلا: “البنتان يأكلان”، وإن كانت صيغة “تأكلان” هى الأصل. وهناك باب واسع لتذكير الفعل وتأنيثه من يطالعه، وبخاصة فى الكتب المبسوطة، يجد العجب. فالمفروض ألا يسارع الواحد منا إلى التخطئة اعتمادا على معلوماته القليلة أو اعتدادا بجهله الفادح الغليظ، بل عليه مراجعة الكتب الموسعة حتى لا يَضِلّ ويُضِلّ. ومنذ عشرين عاما تقريبا كنت أهاتف أحد الصحفيين الشبان، فعَرَّج الكلام إلى قول البعض: “جاء ترتيب الطالب الفلانى الواحد والعشرين على فرقته”، فأنكر الصحفى ذلك إنكارا شديدا قائلا: الصواب هو “جاء ترتيبه الحادى والعشرين”. فقلت له إن “الواحد” هى الأصل، و”الحادى” منقلبة عنها. فأصر على كلامه، فأردت التحقق من الأمر ونظرت فى بعض كتب القواعد القديمة الموسعة فوجدت أن هذا صحيح، بل صحيح أيضا أن تقول: “جاء ترتيبه الواحد عشر”، وأن تقول أيضا: “عندى واحدَ عشرَ كتابا” بدلا من “أحد عشر كتابا”. فعرفت أن علمنا قليل جدا بجانب ما نجهله.
إن كثيرا من الجهلة المتسرعين يحاكمون لغة القرآن إلى كتب القواعد التى يدرسها التلاميذ الآن فى المرحلة الإعدادية والثانوية، جاهلين أن هذه القواعد، وإن ناسبت عقول الصبيان المعاصرين، أضيق كثيرا وأخصر وأفقر وأبسط من كتب النحو فى العصور القديمة. صحيح أن من يجرى على قواعدنا الحالية يسلم، لكن ينبغى أن يعرف أن الميدان أوسع مما يظن، وأن النصوص القديمة لها وضع آخر. وكثيرا ما يقول عباس حسن فى كتابه: “النحو الوافى” إن الاستعمال الفلانى صواب، لكنه لا ينصح باستخدامه فى عصرنا، بل يذكره فقط للمساعدة فى فهم النصوص القديمة. ونقوله نحن أيضا لطلابنا قبل وبعد اطلاعنا على ما قاله النحوى الكبير- إبراهيم عوض).
(وهناك خطأ لحاجة موسيقية سجعية (من أجل الفاصلة القرآنية أو القافية) كحذف ياء المتكلِّم فى نهاية الآية (فى أحدَ عشرَ كلمةً، مثل: “فكيفَ كان نَكيرِ [الأصل: نكيري]” [الحج، 44] و”لكم دِينُكم ولِى دِينِ [الأصل: ديني]” [الكافرون، 6]) وكاستخدام الفعل الناقص “كان” فى بعض المواضع، مثل: “إنَّ اللهَ كان على كُلِّ شىء شهيدًا” (الأحزاب، 55، والنساء، 33). والخطأ هو استخدام الفعل “كان” فهو زائد لا يضيف على المعنى شيئًا بدليل أنَّ القرآن استخدمَ الجملةَ نفسَها وبالمعنى نفسِه مِن دُونِ الفعل “كان”، وذلك فى سورة الحج: “إنَّ اللهَ على كُلِّ شىء شهِيد” (الحج، 17). وهذا الخطأ يبدو مقصودًا للحصول على كلمة منصوبة تتماشى مع نهايات الآيات (الفواصل) فى السورة. فهو خطأ دلالى للحصول على تأثير موسيقى. ونظرًا لكون القرآن كتابًا ترتيليًّا تجويديًّا تعبُّديًّا ليتورجيًّا فإنه من الطبيعى أنْ يُعْطِى أهميةً كبيرة للفاصلة، أى للكلمة التى تقع فى نهاية الآية (السجع). فالفواصلُ فى القرآن هى بمنزلة القوافى فى الشعر. فالقرآنُ كلام مسجوع (كلام مــنثور مُقَفًّى له فواصِلُ)- محمد عبد الجليل).
(المشكلة بل الطامة أن هذا الجاهل الحقود يتصدى لما لا يحسن. هذا الجاهل الحقود لا يعرف ولا يفهم أن فى اللغة إمكانات كثيرة، وإنْ جَهِلها هو، فجهله لها إذن لا يقدم ولا يؤخر، لكنه يدينه ويجعل منه هُزْءَة لكل هازئ. وقد بحثت هذا الموضوع الذى يتصدى له هذا الجاهل الحقود فى كتابى: “السجع فى القرآن”، الذى ترجمتُ فيه عن الإنجليزية بحث ديفين ستيوارت المعنون بهذا العنوان، وأعقبت الترجمة ببحث طويل ناقشت فيه آراء المؤلف وفندت بعض أوهامه. ومن بين ما رددت عليه وَخْزَته السخيفة فى قوله: ألم يكن الله قادرا على الجمع بين السجع واحترام القاعدة؟ ذلك أنه كان يظن، كما يظن كاتبنا الحالى، وإن لم يكن بهذه الحماقة التى يتمتع بها كاتبنا، أن السجع القرآنى يكون فى بعض الأحيان على حساب القاعدة النحوية والصرفية فلا يتحقق إلا بكسر هذه القاعدة. وبينت بالشواهد المتعددة أن الفاصلة القرآنية لا تخرج على القاعدة إلا فى نظر السطحيين غير الملمين بالعربية إلماما جيدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى