بحوث ودراسات

عقيدة المسيَّا المخلِّص بين القرآن والسنُّة وبين الكتاب المقدَّس 5 من 10

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

وفي هذا ما يتطابق مع قوله تعالى في الآيَّة 116 من سورة المائدة “وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ”. وهذا كذلك يتفق مع ما بشَّر به رسولنا الكريم (عليه وعلى سائر أنبياء الله أفضل الصلوات وأتم التسليم) عن عودة عيسى رسول الله، وعن اتِّباعه لحفيده. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم“، والحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم. وقد أخرج أبو نعيم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “منَّا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه.” جدير بالذكر أن الرسول الكريم لم يصف المسيح عند عودته بالحاكم، إنَّما بالحكم المقسط. فقد روى البخاري ومسلم (2222) ومسلم (155) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ (وفي روايَّة: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ) حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَّة، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ). أمَّا الذي وُصف بأنَّه يبسط سلطانه على الأرض فهو رجل من أهل بيت النبوَّة، فقد ورد في مسند أحمد 10839: “حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا مَطَرٌ وَالْمُعَلَّى عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُمْلَأُ الْأَرْضُ ظُلْمًا وَجَوْرًا ثُمَّ يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا”.

يوضح الفصل الخامس عشر بعد المئتين تفاصيل رفع رسول الله عيسى بن مريم بعد خيانة يهوذا له وإخبار ملاحقيه عن مكانه مقابل ثلاثين قطعة من الذهب-وفق ما ذُكر في الفصل السابق. يقول الفصل “…فلمَّا رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم، فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبِّح الله إلى الأبد.”  يتفق هذا مع ما ورد في الآيَّة 55 من سورة آل عمران “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ”، وكذلك ما ورد في الآيَّة 158 من سورة النساء “بل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”.  مع ذلك، فوفق ما رواه الامام البخاري عن قتاده عن انس بن مالك عن مالك بن صعصعة الأنصاري، فنبي الله عيسى، ومعه ابن خالته يحيي بن زكريا، النبي الذي عاصره، في السماء الثانيَّة، أمَّا مَن في السماء الثالثة فهو نبي الله يوسف.

نأتي إلى آخر النقاط، وأهمها، وهي الجدال الذي دار بين يسوع الناصري، أو المسيح، مع الكهنة في هيكل أورشليم. من الملفت أنَّ رسول الله عيسى بن مريم في جداله مع الكهنة في أورشليم قد أكَّد لهم أنَّ أفعالهم تتنافى مع ما جاء به أب الأنبياء إبراهيم، قائلًا “لعمر الله إنَّ إبراهيم أحبَّ الله بحيث أنَّه لم يكتفِ بتحطيم الأصنام الباطلة تحطيمًا، ولا بهجر أبيه وأمِّه، ولكنَّه كن يريد أن يذبح ابنه طاعةً لله، فأجاب رئيس الكهنة: إنَّما أسألك هذا ولا أطلب قتلك فقل لنا من كان ابن إبراهيم هذا؟ فأجاب يسوع: إنَّ غيرة شرفك يا الله تؤججني ولا أقدر أن أسكت، الحقَّ أقول أنَّ ابن إبراهيم هو إسماعيل الذي يجب أن يأتي من سلالته مسيا الموعود به إبراهيم أنَّ به تتبارك كلُّ قبائل الأرض.” وهنا صدر قرار مُجمع من الكهنة والكتبة والفريسيين وشيوخ الشعب بقتل المسيح:

 “فلمَّا سمع هذا رئيس الكهنة حنق وصرخ: لنرجم الفاجر لأنَّه إسماعيلي وقد جدَّف على موسى، وعلى شريعة الله، فأخذ من ثمَّ كلٌّ من الكتبة والفريسيين مع شيوخ الشعب حجارة ليرجموا يسوع فاختفى عن أعينهم وخرج من الهيكل، ثمَّ أنَّهم بسبب شدَّة رغبتهم في قتل يسوع أعماهم الحنق والبغضاء فضرب بعضهم بعضًا حتى مات ألف رجل ودنَّسوا الهيكل المقدَّس.” (إنجيل برنابا: الفصل الثامن بعد المائتين).

أمَّا ما ورد في إنجيل متَّى، فهو “«يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا! هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لاَ تَرَوْنَني مِنَ الآنَ حَتَّى تَقُولُوا: مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!» (إصحاح 23: آيات 37-39).” وعدهم المسيح بالخراب الأبدي لهيكلهم من إثم ذنوبهم، لكنَّ خطاب المسيح لم يذكر أبدًا جدالهم معه بشأن هويَّة مسيا الذي جاءت به نبوءة ناثان زمن داود-كما ورد في سفر صموئيل الأول-بحيث بدت الرغبة في القتل هنا لأنَّها عادة بني إسرائيل قتل الأنبياء “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا“. يتحدَّث المسيح في الإصحاح ذاته باعتباره مُرسل الأنبياء، كونه ابن الله وتجسيده المادي ” هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً، فَمِنْهُمْ تَقْتُلُونَ وَتَصْلِبُونَ، وَمِنْهُمْ تَجْلِدُونَ فِي مَجَامِعِكُمْ، وَتَطْرُدُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إِلَى مَدِينَةٍ” (إصحاح 23: آية 34). بالطبع يتفق هذا القول مع ما ورد في الآيَّة 87 من سورة البقرة “وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تهوى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ“، لكنَّ المخاطِب هنا هو الله تعالى، وليس المسيح. ولعلَّ في استنكار المسيح فعل الكتبة والفريسيين والكهنة-وفق ما ورد في إصحاح 23 من إنجيل متَّى-ما يشابه قول الله تعالى في الآيَّة 78 من سورة المائدة “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلك بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ،” ثم يأتي التبرير القرآني في الآيَّة التاليَّة لهذا اللعن “كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ،“وتُختم الآيَّة الكريمة بذم فعلهم “لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ“.

 من المُلفت أنَّ المسيح لم يُذكر على لسانه “العهد” مُطلقًا، وإن كان ذُكر في الإنجيل، ومن أمثلة ذلك ما ورد في سفر أعمال الرسل ” وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهُ آبَاءَنَا قَائِلًا لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَوَّلًا، إِذْ أَقَامَ اللهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ»” (إصحاح 3: آيتان 25-26). وهذا السفر من تأليف القدِّيس لوقا الإنجيلي، تكملةً لنسخته من الإنجيل. وقد ورد ذكر “العهد” بأنَّه انتقل إلى المسيح في رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطيَّة “لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ” (إصحاح 3: آية 14).

وقد تضمَّن سفر العدد أوَّل بشارة من نوعها عن المسيح “أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ، فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى. وَيَكُونُ أَدُومُ مِيرَاثًا، وَيَكُونُ سِعِيرُ أَعْدَاؤُهُ مِيرَاثًا. وَيَصْنَعُ إِسْرَائِيلُ بِبَأْسٍ” (إصحاح 24: آيتان 17-18). جاءت هذه النبوءة على لسان بلعام بن بعور-أو باعوراء-وهو ذاته المذكور في سورة الأعراف “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذلك مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”.  خان هذا الرجل بني إسرائيل وأعان الجبَّارين عليهم حينما أراد موسى وقومه دخول الأرض المقدَّسة لتنفيذ وعد الإله لإبراهيم بأرض كنعان مُلكًا أبديًّا له ولنسله. هنا، يتنبأ بأنَّ ميراث الأرض سيكون على يد رجل من بني يعقوب، هو الذي ” فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى. وَيَكُونُ أَدُومُ مِيرَاثًا، وَيَكُونُ سِعِيرُ أَعْدَاؤُهُ مِيرَاثًا. وَيَصْنَعُ إِسْرَائِيلُ بِبَأْسٍ”، والسؤال هنا هو: ما هذا العهد؟ وهل له أصل في القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة؟

8.حقيقة “عهد” الله تعالى إلى إسحق بن إبراهيم بمُلك “أبدي” على مملكة من “نهر مصر إلى نهر الفرات

نأتي إلى المسألة الهامة في الحديث عن المسيَّا المخلِّص، وهي رفض يسوع الناصري أن يُدعى بالمسيَّا، بل وإصراره على أنَّ المقصود بالعهد المذكور في التوراة لأحد أبناء إبراهيم هو الذبيح، والذبيح هو إسماعيل كما ورد في القرآن الكريم في سورة الصافات في الآيات من 102 إلى 107؛ لأنَّ البشرى لم تأتِ إبراهيم بإسحق-الذي ذُكر اسمه صراحةً-إلا في الآيَّة 112، أي أنَّ إسحق ما كان قد وُلد وقت ذاك الحدث. والعهد باختصار هو ميراث الأرض التي وعدها الله إبراهيم في الآيَّة 18 من الإصحاح 15 من سفر التكوين ” لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ.” وتتضح الصورة أكثر بعد النظر إلى تفاصيل العهد في الإصحاح 17 من سفر التكوين (الآيات 1 إلى 8):

“وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً. فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيرًا جِدًّا». فَسَقَطَ أَبْرَامُ عَلَى وَجْهِهِ. وَتَكَلَّمَ اللهُ مَعَهُ قَائِلاً. «أَمَّا أَنَا فَهُوَ ذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا، وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا، وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ».

ثم يُحدد الإله في الآيات من أي فرع في نسل إبراهيم يكون العهد من نصيبه: “إِبْرَاهِيمُ للهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». فقال الله “بل سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَّة.» (سفر التكوين: إصحاح 17، آيات 18-21).

ويتبادر إلى الذهن السبب في ذلك، ولكن بعد الرجوع إلى الآيات (4-6) في الإصحاح 16 من سفر التكوين، ربما تتضح الرؤيَّة: “فَدَخَلَ عَلَى هَاجَرَ فَحَبِلَتْ. وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرَتْ مَوْلاَتُهَا فِي عَيْنَيْهَا. فَقَالَتْ سَارَايُ لأَبْرَامَ: «ظُلْمِي عَلَيْكَ! أَنَا دَفَعْتُ جَارِيَتِي إِلَى حِضْنِكَ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرْتُ فِي عَيْنَيْهَا. يَقْضِي الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ». فَقَالَ أَبْرَامُ لِسَارَايَ: «هُوَ ذَا جَارِيَتُكِ فِي يَدِكِ. افْعَلِي بِهَا مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ». فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ، فَهَرَبَتْ مِنْ وَجْهِهَا.” ساراي قد غيَّر الإله اسمها إلى سارة، كما جاء في سفر التكوين ” وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «سَارَايُ امْرَأَتُكَ لاَ تَدْعُو اسْمَهَا سَارَايَ، بَلِ اسْمُهَا سَارَةُ” (إصحاح 17: آية 15).

يتضح سبب تفضيل الإله لإسحق على أخيه إسماعيل من نظرة الاستعلاء والكِبر التي وجَّهتها سارة إلى “هاجر المصريَّة“، فمن الواضح أنَّ عنصريَّة سارة-التي تنتمي في الأصل إلى أور الكلدانيين مثل زوجها-دفعتها إلى التقليل من شأن هاجر ووصفها بالجاريَّة، بل ويشجِّعها إبراهيم على ذلك بقوله “هُوَ ذَا جَارِيَتُكِ فِي يَدِكِ. افْعَلِي بِهَا مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ،” والنتيجة هي: “فَأَذَلَّتْهَا سَارَايُ.” ويتواصل الإذلال حتى الإصحاح 21 من سفر التكوين “وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّة الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ. فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ: «اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَّة وَابْنَهَا، لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَّة لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَاقَ». فَقَبُحَ الْكَلاَمُ جِدًّا فِي عَيْنَيْ إِبْرَاهِيمَ لِسَبَبِ ابْنِهِ. فَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَابْنُ الْجَارِيَّة أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ». هذه المرة ليس إبراهيم الذي يشجِّع سارة على إذلال هاجر، إنمَّا الإله الذي يصفها بـ “الجاريَّة”، بينما يُسمِّي سارة بالاسم الذي اختاره هو لها. والنتيجة هي أنَّ إبراهيم يمتثل إلى أمر زوجته طاعةً لإلههما، ويطرد هاجر وابنها: “وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّة بِئْرِ سَبْعٍ… وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّة، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّة فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ” (سفر التكوين: إصحاح 21، آيات 9-21).

 إله سفر التكوين لا يأبه إلا بنقاء السلالة، وهذه هي بذرة العنصريَّة التي ألقاها كاتب هذا السفر، وأثمرت ادِّعاءات اليهود بأنَّهم فصيل مختلف عن سائر البشر، وأنَّ غيرهم من الأمم “حيوانات مقدَّسة” خُلقت على صورة البشر لخدمتهم، وهذا ما دعَّمه التلمود البابلي. وقد أثبت القرآن الكريم عنصريَّة بني إسرائيل في الآيَّة 75 من سورة آل عمران “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”. ونجحت سارة في الحفاظ على نقاء السلالة من خلال تزويج إسحق من رفقة، ابنة ناحور أخ إبراهيم.

 جدير بالذكر أنَّ الكاتب اليهودي آرثر كوستلر قد دحض هذا الادعاء في كتابه السبط الثالث عشر-Thirteenth Tribe بذكره رأي عالم الاجتماع الأمريكي مجري الأصل رافائيل باتاي في هذا الشأن. فقد وجد باتاي أنَّ فكرة النقاء العرقي لليهود؛ فالدراسةأثبتتأنَّ القياسات البشريَّة تثبت عدم وجود ما يُسمَّى بالجنس اليهودي. أظهرت تلك القياسات بتطبيقها على مختلف يهود العالم أنَّهم مختلفون في كافة الخصائص الهامة، من حيث طول القامة، والبشرة، والوزن، واللون، وفصائل الدم. وقد أثبتت نفس القياسات تقارُب اليهود من سكان البلد التي يعيشون فيه من الجنتايل-Gentile (غير اليهود) أكثر من تقاربهم مع غيرهم من اليهود من سكان البلدان الأخرى، ويعتبر تمازُج الأجناس أهم ما يفسر تلك المسألة. أضف إلى ذلك أنَّ الدراسات أثبتت كذلك أنَّ اليهود المنتمين إلى أسباط بني إسرائيل لم يتجاوزوا نصف مليون شخص في ستِّينات القرن الماضي، وأنَّ دماء هؤلاء ليست خالصة بسبب التزاوج مع الأقوام الأخرى، وأنَّ التحليلات الجينيَّة أثبتت أنَّهم أقرب إلى الأجناس التي يتشاركون معها الموطن من الأمم اليهوديَّة الأخرى، من حيث التكوين الجيني.

يتفق رأى آرثر كوستلر مع رأي الدكتور أحمد معاذ علوان حقِّي-الأستاذ المشارك بكليَّة الشريعة والدراسات الإسلاميَّة بجامعة الشارقة-في كتابه أثر عزرا في الديانة اليهوديَّة (2008)، حيث ذكر علوان أنَّ ما أفرزته عقليَّة عزرا من أفكار كان له الأثر الأكبر في تكوين الهويَّة الذهنيَّة اليهوديَّة اليوم، وهذه الهويَّة الذهنيَّة هي ما يفسِّر ما فعله الغزاة اليهود في الأراضي العربيَّة، فعقيدتهم هم أنَّ فلسطين هي قدس الأقداس وينبغي ألا تتنجس برجسات الأمم الأخرى. والأمم الأخرى ليست إلا حيوانات على صورة البشر خُلقت لخدمة اليهود؛ لأنَّه ليس من المعقول أن يخدم اليهودي حيوان على صورته الأصليَّة. عزرا هو من أدخل فكرة أنَّ اليهود شعب الله المختار في أكثر من موضع، فقد جاء في سفر التثنيَّة “لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ” (إصحاح 7: آية 6)، أما سفر التثنيَّة فقد جاء وصف اليهود بكونهم “مُبَارَكًا تَكُونُ فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ” (إصحاح 7: آية 14).

صحيح أنَّ القرآن الكريم قد أورد في أكثر من موضع أنَّ الله تعالى قد فضَّل بني إسرائيل-وليس اليهود-على العالمين، كما ذكرت الآيتان 47من سورة البقرة -والمكررة نصًّا في الآيتين 122 من نفس السورة-” يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” مع ذلك فإنَّ الآيَّة التاليَّة-والمكررة نصًّا كذلك-هي “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ”. لا يعني هذا التفضيل أبدًا أنَّهم شعب الله المختار على سائر البشر وحدهم، فالاصطفاء هو لإيمانهم بالله وحده ولتلقِّيهم وحي السماء، ويرتبط ذلك التفضيل بحفاظهم على عهد الله، فالآيَّة 124 من سورة البقرة تقول: “وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ”، أي أنَّ نفض الميثاق مع الله كان سببًا في لعنهم وخروجهم من رحمته، كما توضح الآيَّة 13 من سورة المائدة “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَّة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”. أهم ما خلُصت إليه دراسة علوان (2008) هو أنَّ اليهوديَّة لا تمتُّ لرسول الله موسى بأي صلة، إنَّما هي ملَّة ظهرت في بابل بهدف تأسيس كيان عنصري في فلسطين-أرض الميعاد ومحل حُكم العالم بأسره-وكانت الأفكار التي روَّجتها توراة عزرا تستهدف إعداد عقليَّة بني إسرائيل من أجل عزو الأراضي بلا رادع لأنَّ الله وهبها إيَّاهم باعتبارهم شعبه المختار وأنقى سلالة بشريَّة. يُذكر أنَّ كتابة التوراة في عجالة جعلها تذخر بالتناقضات والأخطاء الفادحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى