مقالات

حتى لا يكون التعليم محاضن للتعصب والتطرف

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

من السذاجة في عصر الصراعات الأيديولوجية اعتبار المدرسة مؤسسة محايدة، فعلى الرغم من أنها لا تكتسي طابعاً حزبياً رسمياً، ولا صيغة طبقية مكشوفة، فإنها كانت وماتزال جهازاً للتأطير الأيديولوجي يخدم الايديولوجية السائدة في المجتمع، أي الوضعية الطبقية السائدة، وتعمل على إعادة إنتاجها، ولهذا يستحيل أن تكون التربية محايدة، حتى التربية العلمانية هي تربية غير محايدة في مضامينها وتوجهاتها وأساليبها، إذ إن لها موقفاً ورؤية من الكون والخالق والوجود والأحداث المعاصرة.

ولو دققنا النظر في تعليم المجتمعات الثالثية، فإننا نلاحظ أن استراتيجياته تُنفذ ايديولوجيات محددة تخدم نسق السُلط السياسية القائمة، فالكتاب الأحمر لـ ماوتسي تونغ، والميثاق القومي لـ عبد الناصر، والكتاب الأخضر لـ معمر القذافي، والمنطلقات النظرية لحزب البعث، هي كتب الإيديولوجيا التي تم تدريسها في المدارس، ولقنها المدرسون للأطفال والشباب، حتى أفلاطون لم يُعبّر في فلسفته عن رأي الشعب، وإنما كان يُعبّر عن رأي النخبة التي كان واحداً منها، وعن مطامحها وتطلعاتها، وهو لم يتحدث عن تربية أبناء العمال والفلاحين لأنهم عبيد، ومهمتهم تنحصر في توفير الغذاء للنخبة الاجتماعية، التي يستحق أفرادها لقب “مواطن”.

والواقع أن تطور التعليم الحديث نفسه يرتبط ارتباطاً قوياً بالدولة والهُوية العرقية والثقافية، على حساب الهُوية الإنسانية، إذ تنظر دول كثيرة للتعليم على اعتبار أنه أداة للمشايعة السياسية، وتكوين مواطن متحد تمام الاتحاد مع دولته وهويته، بما في ذلك لغته وثقافته القومية، وكثيراً ما يعنى ذلك غرس الكراهية للقوميات والدول الأخرى منذ الصغر، حيث تخلط الكثير من الدول بين مسؤوليتها عن التعليم العام من ناحية، وحقها المزعوم في صب الإنسان في قالب المواطنة التقليدي، الذي يجد نموذجه الأعلى في الجندي المحارب من أجل بلاده.

مع التأكيد أن ما تقوم به التربية العربية تحت حكم السُلط المستبدة، هو تنميط عمل التعليم ليكون مخرجه متعلماً من النمط نفسه، حيث لا يُسمح للمتعلم من إبداء رأي، أو طرح فكرة تلامس حياته من قريب أو بعيد، مما يجعل التعليم المختطف في صميمه استغلالاً لإنسانية الإنسان لمصلحة السلطة المختطفة، التي تريد منه أن يكون إمعة كالببغاء عقله في أُذنيه، ومعتقلاً داخل النص الذي يكتبه المستبد كما يهوى.

ولهذا السبب ترتبط نظم التعليم بالأيديولوجيا القومية، والهُويات العرقية ارتباطاً حميماً، ولا تتمكن من إيجاد الصياغات الضرورية للفت النظر إلى أن انتماء الشخص لهُوية ما، ليس بالضرورة على حساب الهويات الأخرى. وبذلك يقوم التعليم بصهر وجدان التلاميذ وتأطير عقولهم بما يناسب الأيديولوجيا القومية والعرقية والدينية، مما يؤدي إلى تكوين جندي لدى الدولة، بغض النظر عما إذا كان يعمل بالقوات المسلحة للبلد المعني أم في أنشطة أخرى.

     من هنا لا بد للقائمين على التعليم في الوطن العربي من تحريره من الأيديولوجيات السياسية والدينية، سواء تعلق الأمر بالفلسفة التربوية، أو السياسات التعليمية، أو الأهداف، أو المناهج الدراسية، لأن التعليم الحقيقي ليست وظيفته تنميط شخصيات التلاميذ في المدارس من أجل أن يألفوا الخنوع والذل والاستكانة، ويتعايشون مع الخوف والرعب، ويتعودون السلبية والانهزامية، ولأن مثل هذا التوظيف السياسي والأيديولوجي للتعليم هو المسؤول الأول عن الميول نحو العنف والتعصب، وفك عرى الارتباط بين المعرفة والمسؤولية الأخلاقية، حيث نتج عن ذلك أن أصبح تعليم الدول المستبدة محاضن للتعصب والتطرف، يُعدّ فيه الناس لكي يصيروا جنوداً ينتظرون أوامر الحاكم، وليس من أجل أن يكونوا بشراً أفضل. بهذا المعنى يمكن القول: إن التعليم العربي هو المفرخ الأول للشمولية والتعصب والتطرف، أو على الأقل لواحدية الهُوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى