مقالات

المنطقة الآمنة في القانون الدولي.. نشأتها إرهاصاتها وشروط نجاحها.

جهاد الأسمر

كاتب ومحامٍ سوري.
عرض مقالات الكاتب

في الحروب وبشكل خاص عندما تطول وتسير الأمور نحو التعقيد ودون أن يؤدي طولها إلى تسوياتٍ تنهيها. نبدأ نسمع بمصطلحات لم نكن نسمع بها من قبل، وأحد هذه المصطلحات مصطلح” المنطقة الآمنة” الجاري الحديث عنها لتطبيقها في الشمال السوري كمخرج يتحدث عنه الأتراك لحل أزماتٍ كثيرةِ ومستعصيةٍ ومزمنة وربما سيعالج وجودها جانبا من جوانب كثيرة تؤرق الثورة السورية وتؤرق تركيا في آن معًا.

فما هي المنطقة الآمنة وهل لها وجود وتعريف في القانون الدولي؟ وهل لوحظت وكُتِب فيها؟

فعلى الرّغم من شيوع هذا المصطلح وقت الحروب فإن هذا المفهوم “مفهوم المنطقة الآمنة” يظهر معها. ولكنه يبقى مفهومًا غير رسمي، ولا وجود له في القانون الدولي. ففي اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 لمْ نلاحظ لهذه العبارة من وجود. وكذلك أيضاً لا وجود لها في البروتوكولات الملحقة لهذه الاتفاقيات التي أُلحقت بها في عام 1977، فكل ما أشارت إليه هذه الاتفاقيات والبروتوكولات تحدثت فقط عن جهود لمنظماتٍ أمميةٍ تعنى بسلامة الأشخاص الموجودين في أرض المعركة لتقديم المساعدة لهم، كونهم أضحوا في حاجة لها، وتشديد هذه  المنظمات و حرصها على جعل مناطق تواجد المدنيين خارج الصراعات المسلحة، وجعل مناطقهم خارج الاستهدافات العسكرية، فجميع هذه العبارات من ممرات آمنة وملاذات آمنة، والمناطق المحمية، كل هذه العبارات أصبحت تدخل في نطاق العرف الدولي، والتي لم تُقنّن بعد لتكون ضمن قواعد ومبادئ القانون الدولي كما أسلفنا.

يقودنا الحديث عن المناطق الآمنة عبارة أخرى يجري الحديث عنها وهي” المنطقة العازلة”، فبتنا نسمع كثيرًا عن مناطق آمنة ومناطق عازلة كمرادف للمنطقة الآمنة ولكن! ما هو الفرق بين هذين المصطلحين وهل لهما مدلول واحد؟

المنطقة العازلة أول ما تعنيه خلق مساحة محددة من الأرض وفصل للقوات المتحاربة فيها وتكون خالية من السلاح وغالبًا ما تكون متواجدة فيها قوة دولية ولا بد أن تقترن هذه المنطقة العازلة بفرض حظر جوي على سمائها، لحماية المدنيين من أي محاولة للاعتداء عليهم كما نشاهده الآن من اعتداءات على مدنيي إدلب من النظام وروسيا.

في حين المنطقة الآمنة لا تهدف إلى الفصل بين أطراف النزاع بقدر حرصها وبالدرجة  الأولى على حماية المدنيين الفارين من المعارك، بتقديم ما يحتاجونه، فالمنطقة الآمنة لابد فيها من توافق وإجراءات بين الأطراف المتنازعة وبصدور قرار من مجلس الأمن بتوصية من مجلس حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة وإجراءات بين الأطراف المتنازعة بجعل المنطقة خالية من السلاح، وإخراجها  من سياق العمليات العسكرية، وإخضاعها لإدارة مدنية تتولى الإشراف عليها، والتأكيد على تحييد أطراف النزاع من الدخول بأي ترتيبات أمنية تجري فيها، أو على حدودها، وتوفير حماية دولية أممية، أو من قوات تحالف دولي يقوم بهذه المهمة.

الدول التي أُقيمت فيها مناطق الآمنة..

المناطق الآمنة دائمًا تظهر في الدول التي تبتلي بصراعات وحروب، سواء كانت حروبا بينها وبين دولة أخرى، أو نتيجة لصراعات عرقية أو طائفية داخل البلد الواحد.

ففي العراق مثلاً عام 1991 بعد حرب تحرير الكويت نجد أن التحالف الدولي قد أقام منطقة آمنة في شمال العراق “كردستان العراق”، بجعل الشمال العراقي منطقة آمنة وفرض حظر جوي على الطيران العراقي وربما تكون هذه المنطقة تاريخيًا هي من أنجح المناطق الآمنة من الناحية الفنية التي أقيمت، ولعل مرّد هذا يعود إلى وجود قوات البيشمركة، والسبب الآخر والأهم لأن هذه المناطق كانت تعيش أساسًا تحت حكم ذاتي منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي.

البوسنة والهرسك. في عام 1993 والذي أقيمت فيها مناطق آمنة وذلك لحمايتهم من القوات الصربية بعد أن أصدر مجلس الأمن قرارا بفرضها، ولكن واقع الحال أثبت أن المناطق الآمنة التي أنشئت جاءت بنتائج عكسية كارثية أدت لمجازر قام بها الصرب ضد البوسنيين، ولا سيما مجزرة سيربرنيتسا وغيرها.            

في سيريلانكا أيضاً تم إنشاء مناطق آمنة لحماية المدنيين من القتال الدائر بين القوات الحكومية والمتمردين فيها. أما في رواندا فقد قرر مجلس الأمن إنشاء منطقة آمنة خلال الحرب الأهلية بين قوميتي الهوتو والتوتسي.

 جميع هذه التجارب والسوابق التاريخية في إنشاء المناطق الآمنة كانت متشابهة، وذات نتائج سلبية، اللهم سوى تجربة المنطقة الآمنة في شمال العراق كما أسلفنا ولعوامل جئنا على ذكر أسباب نجاحها، أما ما خلا هذه التجربة فإنها جاءت لتسهيل ولتمكين أطراف النزاع في مناطق النزاعات ليرتكبوا ما ارتكبوا من فظائع ومجازر (البوسنة دليل على ذلك).

ما الشروط التي يجب توفرها لتجعل من المنطقة الآمنة مناطق آمنة فعلًا؟             

الشرط الجوهري والجاذب لأي منطقة آمنة والتي يجب توفرها شرط وعامل الاقتصاد. فكما أن السياح تجذبهم معالم البلد ليقصدوه، فكذلك في المنطقة الآمنة يجب توفير فرص عمل كبيرة وكثيرة ليقبل اللاجئون إليها من دول المهجر، وكذلك توفير البنى التحتية والفوقية من مساكن وخلافها لتأمين الأعداد المهولة التي ربما ستقبل عليها إن شاهدت ما تريد أن تراه، وهناك شرط آخر وهو توفير الأمن فيها، فهذان عاملان جاذبان يجب العمل عليهما وتوفيرهما قبل أي عمل آخر سواهما، فهل تحقق هذا في المنطقة الآمنة المزمع إقامتها في الشمال السوري؟ يضاف إلى هذين الشرطين، شرط أهم من سابقيه. وهو توفر الحظر الجوي الذي لابد منه لتأمين أجواء المنطقة من خروقات أي طائرة تحاول خرق الحظر، ما نعرفه إلى هذه اللحظة أن لا يوجد قرار أممي  صدر عن مجلس الأمن بإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا وهذا مما لا يمكن تصور حدوثه الآن باعتبار أن مجلس الأمن معطل، وأي مشروع قرار يقدم إليه سيكون الفيتو الروسي بانتظاره، وفي حال عدم حصول قرار كهذا من مجلس الأمن فهذا يعني أن أي إجراء عملي آخر  في ظل عدم موافقة روسيا عليه، ستتصدى روسيا له، فهل ستتصدى أمريكا وتركيا لأي خرق لطائرات روسية أو غير روسية لأجواء المنطقة الآمنة فيما لو تم خرقها والتي لم توافق على إقامتها؟

هواجس وظنون..

المنطقة الآمنة ليست بجديدة فقد أعلن عنها في العام الأول من الثورة السورية مع اشتداد المعارك والمذابح التي ارتكبها النظام بحق الشعب السوري فقد طرحتها تركيا، ولاقت قبولًا واستحسانًا من فرنسا وبريطانيا لكنها لم ترُق لأوباما وقتذاك فنُسي أمر إقامتها، ومع مجيئ ترامب لاقت فكرة تركيا بإنشاء المنطقة الآمنة قبولًا لديه، فاتفق على إقامتها في عام 2018 ومنذ ذلك التاريخ ومباحثات ومفاوضات ماراثونية تجري بينهما بين الفينة والأخرى، حتى توافق الجانبان التركي والأمريكي مؤخرًا على إقامتها بمفاوضات جرت بينهما بالأمس، وكثيرون لا يعلمون نتائج ما توصل إليه الجانبان على وجه الدقة وربما سترشح النتائج كاملة في الأيام القليلة القادمة، فالهواجس والظنون حول المنطقة الآمنة ربما يعززها أنه لابد من وجود قوى جوية ضاربة إضافة إلى قوى أرضية تعمل على معالجة طوارئ ما يحدث على الأرض، خاصةً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وجود متشددين وخلايا نائمة، لتنظيمات كثيرة في المنطقة. تنظيمات يهمها أن تثبت أنها موجودة وتريد تطبيق ما يرونه يخدم تنظيماتهم مستفيدين من إقامة المنطقة الآمنة والتي ستكون ملاذا آمنا لهم.

فهل سنكون على موعد مع إقامة منطقة آمنة يتمكن القائمون على إنشائها من توفير أسباب النجاح لها؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى