صحافة

13 جولة من أستانا كافية لإثبات الفشل

بعد أن انتهت الجولة الثالثة عشر من اجتماعات أستانا، التي عُقدت في العاصمة الكازاخية نور سلطان، في الأول والثاني من آب/ أغسطس 2019 الجاري، تم الإعلان أن إدلب ومنطقة خفض التصعيد حولها دخلت وقفًا لإطلاق النار، ومع أن وقف إطلاق النار كان بموافقة، أو بالأدق، بقرار روسي، فإن المعارضة السورية التي خبرت النظام وحليفته روسيا حذّرت المدنيين و”الثوار” من “غدرهما”، ودعت إلى الحذر الشديد، في تشكيك مباشر بنيّات ما صدر عن هذه الجولة من أستانا.

وبالفعل، منذ الساعات الأولى لإعلان وقف إطلاق النار، رصدت المعارضة السورية خروقات قامت بها قوات النظام السوري وروسيا معًا، ووثقت المراصد هجماتٍ قام بها الطيران الروسي وطيران النظام، وإن كان بوتيرة أقلّ من الفترة السابقة، لكن وقف إطلاق النار المُعلن هذا ظلّ مُنتهكًا وضعيفًا، بسبب عدم وجود آلية للشكوى أو أطراف تراقبه وتضبطه.

وقف إطلاق النار الهش هذا الذي يعتمد على “النوايا” الروسية ومدى صدقيتها، هو -عمليًا- النتيجة الوحيدة التي صدرت عن الجولة الثالثة عشر من اجتماعات أستانا. نتيجة متواضعة وضبابية وغير مجدية، فيما نتائج بقية القضايا والمواضيع التي كان من المفترض أن يبحثها الاجتماع هي شبه صفرية، فلا اللجنة الدستورية تحركت قُدمًا، ولا إطلاق سراح المعتقلين نوقِش، ولا العملية السياسية بُحثت.

كل ما صدر عن هذه الجولة هو نفس “الديباجة” التي انتهت بها كل اجتماعات أستانا السابقة، وهي التزام الدول الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، بـ “سيادة سورية واستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها”، وغير ذلك من الجمل الإنشائية التي لا تفيد في دفع أي ملف يتعلق بالقضية السورية نحو الحل، كتأكيد الدول الضامنة على قلقها من تواجد (هيئة تحرير الشام) في منطقة خفض التصعيد، وضرورة القضاء عليها، وارتياحها بسبب التقدم الذي تم تحقيقه بصدد التنسيق حول اللجنة الدستورية، وأهمية الدعم الدولي للإغاثة في سورية، وجددوا التأكيد أن نهاية الصراع في سورية لا يمكن أن تكون عسكريًا، ودعوا المجتمع الدولي إلى زيادة تقديم المساعدات الإنسانية في سورية، ودعم إعادة اللاجئين والمهجرين، وهي الديباجات نفسها التي سمعها السوريون طوال 13 جولة من أستانا دون تغيير.

الهدف الروسي الأساسي من أستانا في الوقت الراهن هو تشكيل اللجنة الدستورية، وهو الهدف الذي يواجه طرقًا مسدودة، بعضها يُغلقها النظام وروسيا، وبعضها تغلقها الدول المعنية بالقضية السورية، فالنظام السوري ما زال مستمرًا في رفض تركيبة هذه اللجنة، ويُصرّ على أن يكون هو صاحب الأكثرية، وأن تكون برئاسته وتحت إشرافه من دون تدخل ومراقبة خارجية، و”تحت سقف الوطن”، لتكون نتائجها مضمونة وتُناسب ما يرمي إليه من استمرار للنظام الشمولي، وروسيا تريد أن تكون اجتماعات أستانا هي مرجعية اللجنة، لا قرارات جنيف الأممية الدولية، فيما لا تمنح الولايات المتحدة “مباركتها” لهذه الفكرة، طالما أنها بعيدة من قرار الأمم المتحدة 2254، ولا تتوافق الفكرة زمنيًا مع المماطلة الأميركية الرافضة لأي حسم راهنًا.

كل هذه العوامل و”إغلاق الأبواب” لمسها المبعوث الأممي لسورية غير بيدرسون، الذي أعلم أطرافًا في المعارضة السورية أن النظام ما زال يرفض مبدأ الرئاسة المشتركة للجنة، ويضع فيتو على أسماء محددة، ويرفض النسبة المُقترحة من المبعوث الأممي السابق، ويريد أن يتدخل بتركيبة (الثلث الثالث) الممثل للمجتمع المدني، ولم يوافق حتى الآن على آليات عملها وطريقة التصويت فيها، وهذا التعنّت بدوره يؤكد ما ذهبت إليه شريحة واسعة من المعارضين السوريين، أن اجتماعات أستانا لن توصل إلى لجنة دستورية مقبولة، ولن تخرج بنتائج ذات قيمة في ما يخص هذا الملف.

ربما كان الشارع السوري المعارض -هذه المرة- أكثر فطنة من المعارضة التي شاركت في أستانا، وأكثر قدرة على قراءة لقاء أستانا ونتائجه وطريقة تفكير الروس، فلم يكن متفائلًا قبل هذه الاجتماعات، وذخرت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام المعارضة، بانتقادات للمعارضين الذين سيحضرونها، وشددت الانتقادات على ضرورة مقاطعة أستانا، طالما استمرت بهذه الصيغة، وضرورة الإصرار على الحضور بطلبات واضحة، على رأسها تحريك ملف المعتقلين، ووقف قصف شمال غرب سورية، كشرط أساسي ولازم لمواصلة الاجتماعات، وتمهيد لأي عملية سياسية أو دستورية، وكذلك شددت على ضرورة عدم التنازل عن أهم مطالب الثورة المتمثلة بالتغيير السياسي الواضح والشامل، إلا أن من حضر لم يلتفت إلى رأي الشارع المناوئ للنظام، ثم عاد خالي الوفاض إلا من اتفاق هش لوقف إطلاق النار، تم خرقه في ساعاته الأولى وما يزال يُخرق.

في أحد بنود البيان الختامي، قفز أصحاب أستانا عن الحقائق والمنطق، ودعوا المجتمع الدولي إلى زيادة تقديم المساعدات الإنسانية في سورية وتنفيذ مشاريع البنى التحتية، ودعم إعادة اللاجئين والمهجرين بشكل آمن، وتناسى الروس أنهم والنظام السوري هم من يمنعون المساعدات الإنسانية، ويدمّرون البنى التحتية والمواقع الحيوية، ويشردون السوريين بحربهم العشوائية القاتلة.

بالتزامن مع أستانا، صدرت إحصائية أعدّها “منسقو الاستجابة” في سورية، أشارت إلى أن الحملة العسكرية التي شنها النظام السوري وروسيا على شمال غرب سورية، وبدأت في شباط/ فبراير الماضي، تسببت حتى الآن في خسائر مالية ضخمة، تجاوزت 1.45 مليار دولار، وأدت إلى نزوح نحو ثلاثة أرباع مليون شخص، وتسببت في مقتل 1184 شخصًا، وأدّت إلى تدمير أو تضرر 288 منشأة.

خلال خمسة أشهر، عقد الروس جولتي أستانا، وفي الفترة الزمنية نفسها شنّوا نحو 3 آلاف غارة جوية، جميعها قاتلة، استهدفت إدلب وحماة وحلب وأريافها، وشنّ النظام السوري نحو 12 ألف غارة جوية على المناطق نفسها، وتسببوا في خسائر بشرية ومادية هائلة، لدفع المعارضة السورية وحلفائها الأتراك وغيرهم، إلى تقديم كل التنازلات المطلوبة من أجل إنجاح أستانا ومخرجاتها، لكن حتى الآن ضاعت الجهود دون أن يكون لها نتائج تذكر، ثم قالوا ببراءة مصطنعة في “أستانتهم” إنهم يؤيدون بشدّة وقف قتل السوريين وإغاثتهم ومساعدتهم وعودة المهجرين منهم إلى ديارهم.

على الرغم من الفشل المتواصل لأستانا، وعدم تحقيقه أي خطوة، وإن كانت صغيرة، في طريق الحل السياسي، والنتائج التي تُلامس حدود الصفر، من المتوقع أن لا تُغيّر روسيا تكتيكاتها السياسية، ففي تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، سينتظر السوريون النسخة 14 من تلك الاجتماعات، وتُحاول روسيا إقناع العالم أنها تحقق من خلالها نتائج مهمة، على الرغم من أن الوقائع تُثبت أن هذا المسار لا يمكن أن يكون مسار الحل للقضية السورية.

كانت اجتماعات أستانا الأخيرة روتينية ممجوجة “بروباغندية” كسابقاتها، ولم تخرج بنتائج تُحدث اختلافًا، ومعطيات 13 جولة من أستانا كافية لتُقنع السوريين بأنها، مهما امتدت جولاتها، لن تُجدي نفعًا ولن تُوصل السوريين إلى بر الأمان.

موقع جيرون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى