مقالات

فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟!

د. ممدوح المنير

كاتب وسياسي مصري.
عرض مقالات الكاتب

من الرائع في ديننا أنه لا يخضع لحسابات البشر ولا أهوائهم، ولا يسير خلف حظوظ نفوسهم، ولا يتلون مع حِيَلِهم ومكرهم، إنه دستور السماء والأرض، ومنحة الله الأخيرة لهذا البشرية التائهة المعذبة.

في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إحدى الغزوات، والحرب محتدمة على أشدها بين حق وباطل، ظهر لص محسوب على الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق – ويقال إنه كان منافقًا – سرق درعًا لأحد المجاهدين في المعركة.

وعادةً فاللصوص ومرتزقة الثورات والحروب لا تكون عيونهم إلا على المغنم، لا يعبئون بهيبة الموقف ولا جلال اللحظة التي تتضارب فيها السيوف، ويسقط فيها الشهداء، وتسيل فيها الدماء تخضب أرض المعركة.

ربما يذرفون دموع التماسيح أحيانًا كأحد مقتضيات (الصورة المطلوبة)، ولكن خبيئة قلوبهم وانحراف سلوكهم يجعلهم غير قادرين على استمرار كتمان ما تنطلي عليه قلوبهم من حب للدنيا وأثرة لما فيها.

لكن صاحب الدرع شكَّ في اللص، وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم اللص أنه لن يلبث طويلاً حتى ينكشف أمره وما فعله.

فطلب من عشيرته وأتباعه المقربين أن يضعوا الدرع في بيت يهودي خلسة؛ لتبرئة ساحته وإدانة اليهودي ظلمًا، كما جاء في أسباب نزول الآية الكريمة.

ونفذت جماعة من عشيرته ما طلب، ووضعوا الدرع في بيت اليهودي، لقد خافوا من العار والفضيحة حين ينكشف صاحبهم وابن عشيرتهم، فاختاروا أن يظلموا بريئًا يهوديًّا؛ حتى تكون القصة محبوكة، فاليهود هم أعداء الرسول والمسلمين في مجتمع المدينة وفي الدولة الناشئة.

كانت الجريمة محكمة، وبواعث تبرئة الأنصاري حاضرة، فالأولى والأسلم أن يُدان اليهودي حفاظًا على صورة الجماعة المسلمة الناشئة في المدينة.

فاهتزاز الصورة الفاضلة للجماعة المسلمة بهذه الجريمة يعني أن أبواق إعلام المنافقين والكافرين لن تتوقف لحظة واحدة عن العبث بالجماعة المسلمة وتشويه صورتها والنيل منها واهتزاز ثقة الحلفاء بها.

هكذا فكَّر بعض الصحابة وانضموا لقافلة المبرئين للأنصاري، المُدينين لليهودي المظلوم، وبحثوا له عن كل طريق ومخرج يبرءون به ساحته، ويبيضون وجهه أمام الرسول، ويرفعون عن رَجُلهم وَحْل الجريمة الآثمة.

وصدّق الرسول صلى الله عليه وسلم رواية الصحابة، وأعلن براءة الأنصاري وإدانة اليهودي بتهمة سرقة الدرع، وتنفس أهل اللص وعشيرته وأصحاب المواءمات والتوازنات الصعداء، لقد حافظوا على صورة الجماعة المسلمة مشرقة كما هي.

لكن حسابات السماء كانت مختلفة، وكان الله عز وجل يراقب الموقف عن كثب وهو به عليم، لينزل جبريل للنبي الخاتم بآيات زاجرة رادعة تصبح دستورًا ومعلمًا للحق والعدل إلى يوم القيامة.

نزلت الآيات معلنة براءة اليهودي المعادي للإسلام الكاره له، وإدانة الأنصاري المسلم والجريمة التي ارتكبها، بل معنفة وزاجرة لمن اشتركوا في الجريمة، سواء في ظلم اليهودي أو المدافعين عن اللص حفاظًا على صورة الجماعة المسلمة، واتقاءً للفتنة المتوهمة..

قال تعالى: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)). [النساء: 109: 114].
إنها الآيات الفاضحة لمنطق هؤلاء الضال ((وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ))، لقد قال الله الكلمة الأخيرة في مثل هذه المواقف، لا حياد بين حق وباطل، ولا تستر على مجرم أو فاسد، بحجج وذرائع تجعل المجرم ينفد من جريمته، ولا فتنة أكبر من التستر على لص مهما علا شأنه، ولا جريمة أبشع من ظلم إنسان حتى لو كان يهوديًّا كارهًا للإسلام.

هذه القصة القرآنية مهداه لمن يدافعون عن فاسدين أو ظالمين أو مجرمين بدعوى اتقاء الفتنة، فهل يتعظ هؤلاء؟!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى