عقيدة المسيَّا المخلِّص بين القرآن والسنُّة وبين الكتاب المقدَّس 3 من 10

5.علاقة عبادة الشمس بالمسيحيَّة والديانات الوثنيَّة
استنكر الهدهد، في قصَّته مع بني الله سليمان (عليه وعلى سائر أنبياء الله أفضل الصلوات وأتم التسليم) على أهل سبأ عبادة الشمس، ونطق بقول لا ينبع إلا من قلب مؤمن يخلص العبادة لله الواحد الأحد: “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ. أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. اللَّهُ لَا إله إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” (سورة النمل: الآيات 24-26). ومن قبل ذلك العهد بما يقرب من الألف وخمسمائة عام، وردت في القرآن الكريم قصَّة وصول أبِّ الأنبياء إبراهيم (عليه وعلى سائر أنبياء الله أفضل الصلوات وأتم التسليم) إلى الإيمان بالله تعالى، التي بدأت بالتأمُّل في ملكوته. ورد القصَّة في الآيات (74-79) من سورة الأنعام “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. وكذلك نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رأى كَوْكَبًا قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِين. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.”
يتَّضح لنا أن سيدنا إبراهيم بدأت رحلته إلى الإيمان من استنكاره عبادة الأصنام، في بلد كان حاكمها يُخلع عليه لقب “النمرود”، وهو لقب للإله البابلي مردوخ؛ فبدأ سيدنا إبراهيم في البحث عن خالق الكون، فلمَّا رأى مصدرًا للضوء اعتقد أنَّ هذا هو إلهه. وبتكرار التجربة مع القمر والشمس، اهتدى أبُّ الأنبياء إلى حقيقة أنَّ فاطر الكون وخالق عناصره لا يأفل، أي لا يغفل ولا ينام، فهو الحي القيوم الذي لا إله إلا هو. والسؤال الهام هنا، هل تأثَّر سيدنا إبراهيم بعقائد المشرق التي عبدت الشمس وقتها ليفكِّر على هذا النحو؟ الله أعلى وأعلم بذلك، ولكنَّه تأمَّل تلك العقيدة على الأقل حتى هُدي إلى بُطلانها.
وفق ما ورد عن خلق الإنسان في سفر التكوين، فقد صوَّره الإله على صورته: “وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ” (الإصحاح 1-الآيتان 26-27). كذب الإله على آدم حينما طلب منه وزوجه عدم الأكل من “شجرة المعرفة”، حيث قال ” وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلًا: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلًا. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»” (سفر التكوين: الإصحاح 2-الآيتان 16-17). ولعبت الحيَّة-تجسيد إبليس-هنا دور المرشد الهادي، فهي التي أخبرت حوَّاء بكذب الإله: “فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ: «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ»” (سفر التكوين: الإصحاح 3-الآيتان 4-5). انزعج الإله لفعل آدم وزوجه، لا لشيء إلا لكونهما قد صارا على وعي ودرايَّة بالأمور، وربَّما ينافسانه في الخلود بالأكل من شجرة الحياة؛ فطردهما من الجنَّة ونبذهما: “وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». فَأَخْرَجَهُ الرَّبُّ الإِلهُ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأَرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنْهَا. فَطَرَدَ الإِنْسَانَ، وَأَقَامَ شَرْقِيَّ جَنَّةِ عَدْنٍ الْكَرُوبِيمَ، وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ” (سفر التكوين: الإصحاح 3-الآيات 22-24).
أصل هذا التفكير الافتراء على الله تعالى بأنَّه لمَّا أخرج الإنسان من الجنَّة تركه ضالًا حائرًا، فهم يعتقدون أنَّ الله بذلك طرد الإنسان ولعنه وتخلَّى عنه، فعلب الشيطان في هذه الحالة دور الإله في توفير البيئة المناسبة للإنسان، فأصبح الإله الذي وهب المعرفة، وأصبحت النار التي خُلق منها إبليس مقدَّسة، كما أصبح النور رمزًا له، وصارت الشمس تجسيدًا لربوبيته. تقديس إبليس في التوراة يبدأ من سفر التكوين من طمس حقيقة أنَّ عداوته لآدم أشعلها أمر الله للملائكة أن يسجدوا للمخلوق الذي خلقه من طين، وأنَّ طرده من الجنَّة كان بسبب عصيانه لأمر الله. وتوضح الآيَّة 20 من سورة الأعراف “مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ” كيف تم الإغواء؛ فقد زعم الشيطان أنَّ الإله منع آدم وزوجه من الأكل من تلك الشجرة لأنَّهما بذلك إمَّا سيرتقيان درجة فيصلان إلى مرتبة الملائكة، أو ينازعانه في الخلود. في حين يصوِّر سفر التكوين أنَّ هناك شجرة أخرى غير التي أكل منها آدم وزوجه-هي شجرة الحياة-سلَّط الإله “ولهيب سيف متقلب لحراسة” الطريق إليها.
ونتيجة الأكل من الشجرة الأولى تصفها الآيَّة 22 من سورة الأعراف “فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ”، فهل صوَّرت التوراة الشيطان بوصفه عدوًّا مبينًا للإنسان؟ لعل مطالعة الآيات التَّالية من سفر اللاويين توضح ذلك: “وَيُلْقِي هَارُونُ عَلَى التَّيْسَيْنِ قُرْعَتَيْنِ: قُرْعَةً لِلرَّبِّ وَقُرْعَةً لِعَزَازِيلَ. وَيُقَرِّبُ هَارُونُ التَّيْسَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِلرَّبِّ وَيَعْمَلُهُ ذَبِيحَةَ خَطِيَّة. وَأَمَّا التَّيْسُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ لِعَزَازِيلَ فَيُوقَفُ حَيًّا أَمَامَ الرَّبِّ، لِيُكَفِّرَ عَنْهُ لِيُرْسِلَهُ إِلَى عَزَازِيلَ إِلَى الْبَرِّيَّة” (إصحاح 16: آيات 8-10)، هل هناك دليل على إشراكهم الشيطان-عزازيل، ويعني اسمه في العبريَّة “قوة الله”-مع إلههم في التقديس. وهكذا نجح الشيطان-الذي خلقه الله تعالى “مِن نَّارِ السَّمُومِ”-في إضلال الإنسان-المخلوق بعده “مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأ مَّسْنُونٍ”-الذي رفض السجود له ليعبد النار التي خُلق هو منها.
ويتنافى ما ورد في تلك الآيات مع ما ذُكر في قصة الخلق القرآنيَّة، وبخاصة في سورتي البقرة والأعراف. ويكفي أنَّ الله تعالى قد تاب على سيدنا آدم، وفق ما ورد في الآيَّة 37 من سورة البقرة “فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.” ويكفي كذلك أنَّ الله تعالى قد ذكر في الآيَّة 30 من نفس السورة أنَّ الهدف من خلق الإنسان جعله خليفة في الأرض “وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً”، أي أنَّ فترة وجوده في الجنة مع زوجه كان للتدريب على الطاعة، لا أكثر.
يتضح الآن لنا أنَّ العلاقة بين الإنسان وخالقه بدأت بالندِّيَّة والمنافسة؛ فالإله لا يريد أحدًا أن ينازعه في الخلود، فحرَّم على آدم الأكل من شجرة الحياة “وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ”. المفارقة هي أنَّ الشيطان هو الذي فتَّح أعين الإنسان على ذلك، فعلَّمه التمرُّد على العبوديَّة، وأرشده إلى سبيل الاستقلاليَّة…هكذا توحي توراة عزرا الكاتب. من هنا بدأت فكرة عبادة الشيطان بوصفه “حامل النور-Lucifer“، الذي هدى الإنسان الأوَّل وفق ما ورد في سفر التكوين إلى شجرة المعرفة. ويكمن السر وراء تقديس النور وإطلاق اسمه على العديد من الجمعيات الماسونيَّة ومزجه بعقائد الحركات الباطنيَّة في ذلك. واتضح الآن سبب اعتبار أنَّ الخلق عبارة عن فيوض نورانيَّة من الإله، وأنَّ الوحدة بينه وبين الخلق كلِّه قائمة يمكن تنشيطها من خلال التأمُّل، فيصل المخلوق إلى الوَحدة مع الخالق من خلال الحكمة، وهذه المسألة في غايَّة الحساسيَّة، وقد تجلَّت في عقيدة بني إسرائيل بعد عودتهم من السبي البابلي.
الهدايَّة والرشاد لا يُستمدَّان إلا من فيض النور الإلهي، ويتجلَّيان في صورة الحكمة المستمدة من الإله، وتُعرف بالحكمة الإلهيَّة. هذه الحكمة تُصبح في بعض أسفار الكتاب المقدَّس موازيَّة لكلمة الله من حيث الوظيفة، فكلاهما يمثِّل الجانب التأملي لفعل الإله ولوجوده الكلِّي. ففي سِفر سبق، وهو سِفر يُنسب زورًا إلى نبي الله سليمان (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلاة وأتم التسليم)، نجد أنَّ النار تُستخدم للإشارة إلى الروح القُدُس وإلى الحكمة الإلهيَّة في آن واحد، كما يُصوَّر الله تعالى في صورة البرق. الأكثر مثارًا للدهشة أن تجد الحيَّة رمزًا لكلمة الله، التي تشفي كلَّ شيء ومخلِّص الجميع، ويأتي هذا على النحو التالي:
سفر الحكمة “وَمَنْ عَلِمَ مَشُورَتَكَ لَوْ لَمْ تُؤْتِ الْحِكْمَةَ، وَتَبْعَثْ رُوحَكَ الْقُدُّوسَ مِنَ الأَعَالِي؟” (إصحاح 9: آية 17).
سفر الحكمة “لأَنَّ الْحِكْمَةَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِنْ كُلِّ مُتَحَرِّكٍ؛ فَهِيَ لِطَهَارَتِهَا تَلِجُ وَتَنْفُذُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. فَإِنَّهَا بُخَارُ قُوَّةِ اللهِ، وَصُدُورُ مَجْدِ الْقَدِيرِ الْخَالِصُ؛ فَلِذلِكَ لاَ يَشُوبُهَا شَيْءٌ نَجِسٌ، لأَنَّهَا ضِيَاءُ النُّورِ الأَزَلِيِّ، وَمِرْآةُ عَمَلِ اللهِ النَّقِيَّةُ، وَصُورَةُ جُودَتِهِ. تَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَتُجَدِّدُ كُلَّ شَيْءٍ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي ذَاتِهَا. وَفِي كُلِّ جِيلٍ تَحِلُّ فِي النُّفُوسِ الْقِدِّيسَةِ؛ فَتُنْشِئْ أَحِبَّاءَ للهِ وَأَنْبِيَاءَ”(نفس وظيفة الروح القدس) (إصحاح 7: آيات 24-27).
إنجيل لوقا “لِذلِكَ أَيْضًا قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، فَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَطْرُدُونَ” (إصحاح 11: آية 49)، أي أنَّ التجسيد لم يقتصر على كتابات بولس الرسول وإنجيل يوحنا.
سفر اشعياء “وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ” (إصحاح 11: آيتان 1-2). المسيح هو تجسيد النور الإلهي في الإصحاح 60 من نفس السفر “فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ” (3)؛ وفي الإصحاح 9 كذلك “اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ” (2).
يروي المُخلِّص في سفر اشعياء مهمته الإلهيَّة، بعد أن يُحدد طبيعته بقوله أنَّ الله قد وهبه روحه “رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ” (إصحاح 61: آية 1).
وهذا ورد بالنص في إنجيل لوقا “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّة” (إصحاح 4: آية 8).
في حين يخبرنا القرآن الكريم أنَّ الحكمة فضلٌ يمنُّ به الله تعالى على المصطفين من عباده لنشر الوعي السليم والعلم النافع، وفق ما ورد في الآيَّة 269 من سور البقرة “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ،” والآيَّة 54 من سورة النساء “أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ على مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا،” وفي آيات أخرى. وبعد تجسيد الحكمة، نجد تجسيدًا آخر، وهو للكلمة في سفر الحكمة “هَجَمَتْ كَلِمَتُكَ الْقَدِيرَةُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْعُرُوشِ الْمَلَكِيَّةِ عَلَى أَرْضِ الْخَرَابِ بِمَنْزِلَةِ مُبَارِزٍ عَنِيفٍ، وَسَيْفٍ صَارِمٍ يُمْضِي قَضَاءَكَ الْمَحْتُومَ؛ فَوَقَفَ وَمَلأَ كُلَّ مَكَانٍ قَتْلاً، وَكَانَ رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَقَدَمَاهُ عَلَى الأَرْضِ” (إصحاح 18: آيتان 15-16). وهذا نفس المعنى الذي ينقله سفر الحكمة “وَمَا شَفَاهُمْ نَبْتٌ وَلاَ مَرْهَمٌ، بَلْ كَلِمَتُكَ، يَا رَبُّ، الَّتِي تَشْفِي الْجَمِيعَ” (إصحاح 16: آية 12).
وهذا يأخذنا إلى قصِّة أبِّ الأنبياء إبراهيم مع النمرود، وسبقت الإشارة إلى أنَّ النمرود لقب للإله مردوخ، مما يوحي باتِّباع ذلك الملك لعقيدة التجسيد الإلهي في صورة البشر، وهي عادة انتشرت في الأمم الوثنيَّة، ومن بينها مصر الفرعونيَّة، ويثبت ذلك بقول حاكم مصر صراحةً في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك قوله “وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إله غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (سورة القصص: آية 38). بقراءة قوله تعالى “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (سورة البقرة: آية 258)، نجد أنَّ الملك اعتبر أنَّ كلمته المتمثِّلة في إصدار أمر بتنفيذ حُكم الإعدام في حقِّ رجل والإبقاء على حياة رجل آخر كان محكومًا عليه بالإعدام مثل الآخر، لها نفس تأثير الحُكم الإلهي؛ لكنَّ سيدنا إبراهيم أفحمه بطلب مُعضل أبرز عجزه البشري أمام سلطان المولى. ومن المثير للانتباه أنَّ سيدنا إبراهيم طلب منه أن يأتي “بالشمس من المغرب”، وكأنَّه يقول له لو أنَّك فعلًا تجسِّد إله الشمس فلما لا تغيِّر مساره لتري الخلق آيَّة تبرهن على صدق ادِّعائك؟!
بعد توضيح أصل عبادة الشمس وعلاقتها بالمسيحيَّة والديانات الوثنيَّة، يتوجَّب الآن إيضاح كيف يشبه المخلِّص في مختلف العقائد إلهة الشمس.
6. نقاط التشابه بين إله الشمس وبين المخلِّص في المسيحيَّة والديانات الأخرى
رُسم للمسيح عيسى بن مريم-عبد الله ورسوله-صورة إلهيَّة تشابه صورة إله الشمس في الهندوسيَّة، الذي يتحوَّل هنا إلى الخالق والحافظ والمجازي في الدنيا؛ فبما أنَّ الشمس هي التي تمنح الحياة اليوميَّة بشروقها في الصباح، تصبح بذلك بمثابة الباعث على العيش، وتصير أيضًا مانح الحياة. بقهر الشمس لظُلمة الليل ومشاركتها في عمليَّة التمثيل الضوئي للنبات، تصبح الشمس أحد عناصر الحياة التي لا غنى عنها.
أ. التشابه بين طبيعة الشمس وحياة المسيح
1. يوم ميلاد المسيح في 25 ديسمبر من كلِّ عام هو نفسه عيد الشمس السنوي، حيث كان يُحتفل به بمناسبة الانقلاب الشتوي. ويحتفل العالم كلُّه في ذلك اليوم بولادة الأم العذراء لطفلها الإلهي، ويشمل ذلك أعياد ميلاد بوذا وكريشنا وميثرا وحورس وباخوس وهرقل وأدونيس، وغيرهم من الآلهة المجسِّدة للشمس.
2. المسيح وُلد من رحم عذراء بلا جِماع، وكذلك تولد الشمس الساطعة من رحم الليلة المظلمة، أو من الفجر، أو من الأرض، ومن هنا سُمِّي أحد الأبراج باسم العذراء.
3. نبَّأ عن ميلاد المسيح نجم في السماء، والشمس هي نجم الصباح الساطع الذي يعلن ميلاد يوم جديد.
4. رنَّمت الملائكة لتحيَّة المولود الإلهي، وكذلك تسبِّح الطير في الصباح إيذانًا بمولد اليوم الجديد.
5. وُلد المسيح في كهف مُظلم (رغم أنَّ سورة مريم تشير إلى ميلاده عند جذع نخلة)، وكذلك تأتي الشمس كلَّ يوم من ظلام الليل الدامس.
6.أُمر بقتل المسيح في طفولته خشيَّة أن يسلب مُلك الحاكم الروماني (كما جاء في الأناجيل)، كما تُهدد الشمس بالمغيب بظهور السُحُب والغيوم.
7.قُتل المسيح على الصليب، كما تُقهر الشمس في فصل الشتاء حينما تختفي تمامًا أو تظهر بضوء خافت وأشعة ضعيفة لا تجلب الدفء ولا تضمن نماء النبات. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المسيح ضمن مجموعة من المخلِّصين، الذين صُلبوا للتكفير عن البشر، تجاوز خمسة عشر شخصًا.
8.بُعث المسيح بعد موته بثلاثة أيام، وكذلك تعاود الشمس قوَّتها ونشاطها في الربيع، وتقوى في الصيف.
9.يشهد المسيح على أفعال البشر يوم القيامة ويحاسبهم عليها، كما تشهد الشمس على عمل البشر كلَّ يوم وتقيِّد عليه كلَّ تصرُّف له.
10.سيأتي المسيح من جديد على حصان أبيض، وطالما كان الحصان الأبيض رمزًا للشمس في الثقافات الشرقيَّة.
يختلف المسيح وبوذا عن سائر المخلِّصين ممن وُلدوا من رحم نساء من العذارى في وجود براهين تؤكِّد وجودهما بالفعل، حيث لا يوجد حقائق تاريخيَّة تشهد بوجود غيرهما من المخلِّصين، الذين تُصنَّف حياتهم باعتبارها أساطير، وطُبِّقت تلك الأساطير حرفيًّا على بوذا، ثمَّ المسيح بعده بخمسة قرون وأكثر.