عام على التسوية في الجنوب السوري ماذا حقّقت وأي مستقبل ينتظرها؟
تمهيد
تمكّنت قوات النظام السوري مدعومة بالقوات الروسية من إنهاء العمليات القتالية في كامل الجنوب السوري يوم 31 تموز/يوليو 2018. وتخضع هذه المناطق منذ ذلك الحين إلى عدة اتفاقيات تسوية مناطقية، حيث وقّعت كل منطقة بفصائلها المسلحة وفعالياتها الشعبية اتفاقيات مستقلة مع الجانب الروسي. وأسست هذه الاتفاقيات إلى حالات مختلفة من السيطرة، إذ خضعت بعض المناطق بالكامل لسيطرة النظام، فيما بقيت مناطق أخرى تحت سيطرة روسية، وأخرى تحت السيطرة الإيرانية.وعلى خلاف اتفاقيات التسوية التي تم التوصل إليها في مناطق أخرى، احتفظت فصائل الجنوب بأسلحتها وهياكلها، بل قام بعض قادتها بالمشاركة في لقاءات خارجية، مروراً بمطار دمشق، وبحماية روسية. واتّسمت التطورات التي شهدتها درعا في صيف عام 2018 بالغموض، إذ لم تُكشف بنود معظم اتفاقيات التسوية التي تم توقيعها، كما لم تُكشف الترتيبات الإقليمية التي أدّت لرفع الحماية الأمريكية لمنطقة الجنوب، ولا البنود التي تم التوافق عليها بين روسيا والفاعلين الدوليين والإقليميين المعنيين بالملف، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن. وسادت المنطقة منذ ذلك الحين حالة من الاستقرار النسبي، حيث لم تشهد عمليات عسكرية أو أمنية كبرى، لكنها في الوقت نفسه لم تتحوّل إلى حالة مستقرة، إذ استمرّت أعمال الاغتيال وانفجار العبوات الناسفة، إضافة إلى أعمال الاعتقال والقتل خارج نطاق القانون. ويلاحظ أن الشهور الأربعة الأولى من عملية التسوية قد شهدت مستويات أقل من عمليات الاغتيال والاعتقال والتفجير، مقارنة مع الفترة التي تلتها. ويدرس هذا التقرير حصاد عام من التسوية في درعا، بأبعادها الأمنية والسياسية والشعبية، وأثر هذه التسوية على الفاعلين المحليين والخارجيين، كما يحاول استقراء مستقبل التسوية هناك.
أولاً: ماذا حققت التسوية للفاعلين خلال عام؟
يختلف أثر التطورات الميدانية والسياسية التي شهدتها المنطقة الجنوبية في صيف عام 2018 من فاعل إلى آخر، ولكنها امتازت على العموم بغياب الخسارة أو النصر الكامل لأي طرف، نتيجة للظروف والعوامل التي أحاطت السيطرة على هذه المناطق، والتي تختلف عن ظروف السيطرة على أي منطقة أخرى كانت تحت سيطرة المعارضة.
السكان المحليين
لم يحصل السكان المحليون في الجنوب السوري على الأمان والاستقرار بعد توقيع اتفاق التسوية، حيث استمرّت أعمال الاعتقال، وخاصة بدعوى ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية، أو الاعتقال بسبب وجود دعاوى شخصية، وهو اعتقال يستهدف إما ملاحقة المعارضين، أو الابتزاز المالي للميسورين. وتمّت معظم عمليات الاعتقال إما عبر مداهمات للمنازل والمكاتب أو عند نقاط التفتيش وفي الشوارع .وقد وثق مكتب توثيق الشهداء في درعا اعتقال قوات النظام لـ 634 معتقلاً منذ 1 آب/أغسطس 2018 وحتى 31 تموز/يوليو 2019، تم إطلاق سراح 166 منهم في وقت لاحق، بينما قتل 9 منهم تحت التعذيب في سجون قوات النظام . وبالمقابل توقفت أعمال القصف الجوي، وغيرها من الأساليب العنفية التي يمارسها النظام مع المناطق الخارجة عن سيطرته. كما سمح الاستقرار النسبي بعودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها نسبياً.ودفع منهج النظام في التعامل مع مناطق التسوية إلى عودة الشعارات المناهضة له مع نهاية 2018، على جدران المدارس والمحال التجارية والمرافق العامة في مناطق درعا. وقد سارع النظام إلى إزالة هذه الكتابات، وقام باعتقال عدد من الشبان للاشتباه بارتباطهم بالأخيرة، وطلب من أصحاب المحال التجارية طلاء واجهات محالّهم بالعلم الرسمي، مهدداً المتخلف عن ذلك بالعقوبة والغرامة. وفي 22 كانون الأول/ ديسمبر 2018، خرج العشرات من أبناء مدينة درعا، عقب صلاة الجمعة في مظاهرات هي الأولى من نوعها منذ توقيع اتفاق التسوية طالبت بإسقاط النظام، قرب المسجد العمري، وشارك فيها أعضاء من لجنة التفاوض، وتم رفع شعارات تطالب بالإفراج عن المعتقلين خاصة النساء ورفع المحتجون علم الثورة السورية، وتكررت هذه المظاهرات وارتفعت حدّتها في 10 آذار/ مارس 2019، مع قيام النظام بنصب تمثال لحافظ الأسد في مدينة درعا. وفي 16 أيار/ مايو 2019، قام أهالي مدينة الصنمين بقتل ضابط وأسر ثلاثة عناصر من قوات النظام السوري على أوتستراد دمشق – درعا، رداً على عدم إخراج ثلاثة شبان كان قد تم اعتقالهم بعملية أمنية من المدينة قبل شهر، وعلى خلفية ذلك قام النظام بفرض حصار خانق على المدينة، ما دعا الوجهاء إلى إصدار بيان يدعو إلى الخروج بمظاهرات للمطالبة بفك الحصار والتأكيد على رفض تسليم السلاح والمطلوبين. وفي 23 نيسان/ أبريل، وقعت اشتباكات عنيفة بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين الأهالي وقوات النظام على خلفية الملاحقات والمضايقات التي يقوم فيها هذا الأخير. وقد أبقى النظام الخدمات العامة عند مستوى منخفض جداً، إذ بقيت المؤسسات التي كانت خارج سيطرة النظام السوري مدمّرة، واكتفى النظام برفع علمه عليها. وقد توقّفت المجالس المحلية التي كانت مدعومة من المنظمات الإنسانية عن تقديم الخدمات ولم يعوّض النظام عملها، ويشمل ذلك ترحيل القمامة والأنقاض وتأهيل البنى التحتية من صيانة شبكات المياه وتأمين الكهرباء أو إصلاحها، وأماكن السكن المدمّرة وأيضاً الخدمات الطبية التي انحصرت في “مشفى إزرع الوطني” ونظيره في درعا، مع إلغاء جميع النقاط الطبية التي كانت تعمل إبّان سيطرة المعارضة على المنطقة. وعلى مستوى التنقّل بات المواطن مجبراً على قطع المسافات باتجاه مدينة إزرع أو مدينة درعا، بعيداً عن احتمال تعرّضه للاعتقال على الحواجز .
لجنة التفاوض
انبثقت اللجنة عن لجنة شكّلتها غرفة العمليات المركزية في الجنوب في 3 تموز/ يوليو 2018، وباتت لاحقاً تحمل اسم “اللجنة المركزية” أو “لجنة مدينة درعا”، وتركّز عملها في مدينة درعا وطفس ومحيطها ومنطقة حوض اليرموك، وتضم في صفوفها قادة سابقين في فصائل المعارضة السورية، وممثلين عن الفعاليات المدنية من وجهاء محليين، مشايخ، حقوقيين، مهندسين وغيرهم. وتتولى اللجنة مهمة التواصل والتفاوض مع مكتب الأمن الوطني التابع للنظام السوري ومع مركز حميميم للمصالحة، باعتبار أن روسيا هي الضامن لاتفاق التسوية في الجنوب. وتقوم اللجنة بعدد من المهام منها: 1. اعتراض محاولات التجنيد الإلزامية والاحتياطية لشباب المحافظة. 2. اعتراض محاولات إلحاق المنشقين بالقطع العسكرية للنظام. 3. تسوية أوضاع المطلوبين من السكان المحليين على خلفية التهم الموجّهة إليهم مسبقاً واعتراض محاولات اعتقالهم. 4. متابعة ملف المعتقلين من أبناء المحافظة ومحاولة إخراجهم. وتحظى اللجنة بدعم من وجهاء محافظة درعا وقادة سابقين في المعارضة السورية المدنية والعسكرية، وقد برز ذلك بشكل واضح في 28 حزيران/ يونيو 2019، حينما أصدر هؤلاء بياناً يؤيّدون فيه بشكل كامل جهود ومساعي لجنة التفاوض.ومنذ توقيع اتفاق المصالحة في الجنوب السوري تعرّض أعضاء اللجنة وقيادات سابقة من المعارضة مدنيين وعسكريين ممن ساهموا في اتفاق التسوية، إلى حملات استهداف واسعة، حيث تعرّض العديد منهم إلى الاغتيال أو الاختطاف أو القتل، وقد استطاع فريق البحث رصد العديد من تلك المحاولات التي نجح بعضها وأخفق الآخر (انظر الملحق رقم -1-). ورغم أن بعض تلك الحالات لا يمكن نسبها بالضرورة للنظام السوري، إلا أن الكثير من حالات الاستهداف حملت بشكل واضح توقيع النظام، حيث تم تنفيذها من قبل دوريات تتبع له، أو من قبل حواجزه الثابتة والطيّارة. ولم تثنِ البطاقات الأمنية التي منحتها روسيا وبعض أفرع الأمن، لا سيما الجنائي، النظامَ السوري عن ملاحقة المطلوبين لديه، رغم أنه لم يستهدفهم جميعاً. وفي منتصف عام 2019، بدأ الإعلان رسمياً عن أسماء المطلوبين عبر تعليق اللوائح على أبواب المساجد والأماكن العامة في عدد من مناطق محافظة درعا، والتي تدعوهم لمراجعة فرع أمن الدولة، لكن الاستجابة كانت شبه معدومة، لأن فصائل التسوية كان لديها تجربة، فسبق أن قامت بإرسال بعض الأشخاص الذين طالب بهم النظام السوري في النصف الثاني من عام 2018 بذريعة الدعاوى الشخصية، وقدّم وعوداً للجنة المركزية بإطلاق سراحهم حال تسوية ملفاتهم ليتبين لاحقاً أنهم قد حُوّلوا إلى أفرع الأمن.وقد دفع كل ما سبق فصائل التسوية إلى تشكيل مربّعات أمنية في مناطق الجنوب والتهديد بالعصيان المدني ودعم جهود السكان المحليين في الاحتجاجات التي يقومون بها ضد سلطة النظام.
مركز جسور للدراسات