دين ودنيا

تكرار الحج

د. سلمان العودة

عرض مقالات الكاتب

حج الفريضة واجب على كل مسلم قادر توفرت فيه الشروط بإجماع العلماء، بل هو أحد الأركان الخمسة التي عليها مدار الإسلام بالاتفاق، ومن جحد وجوبه كفر إجماعًا.

والتزود من النوافل خير: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:158].

بيد أن ثَمَّت نوافل تخص الفرد بذاته، كالصلاة والصيام، فهذه تعود إلى المتطوع دون غيره، والأغلب أن الآخرين لا يتضررون منها، ولا يستفيدون منها بصفة مباشرة.

وثَمَّت نوافل تنفع الناس، ويتعدَّى بِرُّها وخيرها لهم؛ كنوافل الصدقة والإحسان، فمهما أكثر منها المرء كان فضلًا له، ونفعًا لغيره؛ ولذا يقال: «لا إسراف في الخير».

وإن كان هذا الأمر ليس على إطلاقه؛ ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه لما أراد أن يوصي بثلثي ماله أن يستبقي ماله لورثته، فهو خير من أن يذرهم عالة يتكففون الناس.

وفي الصحيحين في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا ونزلت توبتهم؛ قال كعب بن مالك رضي الله عنه: يا نبي الله! إن من توبتي أن لا أُحَدِّثَ إلا صدقًا، وأن أنخلع من مالي كله صدقةً إلى الله وإلى رسوله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

ويبقى قسم ثالث من النفل لا يتعلق بالمرء ذاته فحسب، بل له تَعلُّق بالآخرين بسبب المزاحمة في المكان أو في غيره.

والحج والعمرة من هذا القبيل، فإن المشاعر محدودة، والزمان موقوت، لا يتقدم ولا يتأخر.

ويعلم كل ذي لُبٍّ أنه لو حج من المسلمين نسبة قليلة ممن لم يؤدوا الحج أصلًا، ولتكن (1%)، لكان عدد الواقفين بعرفة
(12مليون حاج) ولما وسعهم المكان، ولفات الكثير منهم الحج، وأساء بعضهم إلى بعض بالضرورة.

ولذا فالحجاج الآن (1و0%) من نسبة السكان (أي: واحد بالألف).

 ومعنى ذلك أن شعبًا كإندونيسيا (200 مليون) يحتاجون إلى ألف سنة؛ ليتمكنوا من أداء الحج.

وهذا افتراض نظري بحت!!

زد على ذلك المعاناة السنوية بالازدحام الهائل الذي يُفقِد الفريضة روحانيتها وقدسيتها، ويحيلها إلى صخب وضجيج وعراك وجدل، ويتكرر المشهد دوريًّا، ويموت المئات تحت أقدام إخوانهم، وهم جميعًا مُتَلَبِّسون بأداء فريضة من فرائض الله!

ويا للحزن العميق!

يفترض أن الدافع إيماني دائمًا لهذه الرحلة المباركة… فكيف يغفل المسلم القريب في هذه الديار عن الآثار الصعبة التي يُحدِثها تكرار الحج كل عام، أو عامًا بعد عام على إخوانه المسلمين القادمين من بعيد، المؤدين للفريضة- وليس النافلة- من شيوخ ونساء وضعفاء ومرضى.. وهو لا يبالي بهم، ولا يكترث لمعاناتهم، المهم أن يداوم على ما اعتاده من الحج!

وفي سبيل هذا العمل قد يزوّر الترخيص، وقد يكذب، وربما استدان مالًا، أو ترك أهله مع حاجتهم له، أو صارت رحلة الحج عنده فسحة ومتعة وتسلية واستئناسًا بالصحبة المعتادة..

وإذا كانت تنظيمات الحج لا تسمح بتكراره الآن إلا بعد خمس سنوات، وهذا مبني على قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، حرصًا على تنظيم الحج وتفويج الراغبين فيه، وقد ورد في حديث فيه مقال عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقول: إن عبدًا أصححت جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، تأتي عليه خمسة أعوام، لم يَفِد إليَّ لمحروم».

وإذا كانت صحة الجسم وسعة الرزق وضمنها أمن الطريق محل رعاية، وهي أمور تعود للإنسان ذاته، فهذا يتضمن باللزوم رعاية حقوق الآخرين واحتياجاتهم ومصالحهم من أهل يعولهم، أو من لهم عليه استحقاق ما، ومنهم إخوانه المسلمون الحجاج الذين يطلبون ما يطلب، ويريدون ما يريد.

والكثير من الناس يرددون: ماذا يضر وجودي وأنا فرد واحد! وماذا ينفع غيابي!

وهذا منطق غريب، يوحي باستفحال الرؤية الأنانية، وغياب الإحساس بالمسؤولية.

ولو أن كل من قرأ هذه السطور أخذ على نفسه أن يتصدق بقيمة حجة النافلة على إخوانه المسلمين، ويتصدق أيضًا بالمكان الذي سوف يحتله لو حج في منى أو عرفة أو مزدلفة أو عند البيت أو عند الجمرة أو في الطرقات أو المراكب؛ لأمكننا أن نُساهِم فعليًّا في تخفيف الازدحام، وتيسير الحج، وتجنيب المسلمين مغبَّة الارتباك والقتل عند المشاعر.

والصدقة بقيمة الحج أفضل في مثل هذه الأوقات التي تتعاظم حاجة الناس فيها إلى المال، كما في الكوارث التي تضرب بلاد الإسلام من الزلازل، أو المجاعات، أو الحروب التي لم تنقطع منذ عشرات السنين.

ذكر ابن مفلح في «الفروع» أن الإمام أحمد رحمه الله سُئل: أيحج نفلًا أم يصل قرابته؟ قال: إن كانوا محتاجين يصلهم أحب إليَّ…

ونقل ابن هانئ في هذه المسألة أن الإمام أحمد قال: يضعها في أكباد جائعة…

وفي «الزهد» للإمام أحمد عن الحسن قال: يقول أحدهم: أحج أحج. وقد حججت! صِلْ رحمًا، تصدق على مغموم، أحسن إلى جار.

وفي كتاب «صفة الصفوة» لابن الجوزي: أن الصدقة أفضل من الحج ومن الجهاد.

وعن وكيع، عن سفيان، عن أبي مسكين قال: كانوا يرون أنه إذا حج مرارًا أن الصدقة أفضل. وهو قول الإمام النخعي أيضًا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى الكبرى»: «والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرين إلى نفقته».

وفي مثل هذه الأحوال التي يعاني الحجيج فيها من إشكالات عديدة في أداء النسك، بسبب الجهل والازدحام وسوء التنظيم وغير ذلك، يكون الأمر ألزم.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف؛ إن وجدت خَلوةً فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر».

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إذا وجدت على الركن زحامًا فانصرف ولا تقف».

وعن منبوذ بن أبي سليمان عن أُمِّه، أنها كانت عند عائشة رضي الله عنها، فدخلت عليها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعًا، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: «لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال؟ ألا كبّرت ومررت!».

وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أنها قالت: كان أبي يقول لنا: «إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن، وإلا فكبرن وامضين».

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان يكره أن يزاحم على الحجر، تؤذي مسلمًا أو يؤذيك».

 وعن سعيد بن عُبيد الطَّائي قال: رأيت الحسن أتى الحجر، فرأى زحامًا فلم يستلمه، فدعا ثم أتى المقام فصلى عنده ركعتين.

وهذا ليس خاصًّا بالحجر أو الركن، بل هو قاعدة عامة أن ما يترتب عليه مشقة على الناس أو تضييق فعلى المرء تجنبه.

نعم هنالك مَن يكون الحج أولى له، أو يلزمه بسبب غير سبب الوجوب الأصلي، كمَن يذهب مَحْرَمًا لزوجته أو قريبته، أو مصاحبًا لوالد مُسِنٍّ، أو قائمًا على مسؤولية تتعلق بمصالح الحجيج، دينية كانت أو دنيوية، لكن يظل سواد عريض من مُزْمعي الحج هم من غير هؤلاء.

وإنني أتمنى من الشيوخ الأفاضل والدعاة والمفتين وكبار العلماء، وأخص منهم سماحة المفتي العام للمملكة؛ أن يولوا هذا الموضوع عناية خاصة، وأن يوجهوا نداءات متكررة وقوية إلى الصالحين من أهل هذا البلد خاصة أن يوفروا على إخوانهم وعلى أنفسهم، وأن يتصدقوا بقيمة حجهم، خصوصًا وقد صدر من هيئة كبار العلماء في شأن تنظيم الحج ما سبق.

وربك تعالى سيكتب لهم نياتهم الصالحة ومقاصدهم الحسنة، وليؤثروا إخوانهم ممن لم يؤدوا الفريضة أصلًا، ولا يكونوا بفعلهم هذه النافلة سببًا- ولو غير مباشر- في ارتكاب ذنوب عظيمة، من تفويت حج على مفترض، أو زحام يؤدي إلى إزهاق الأنفس، وليراعوا المقاصد الشرعية العظيمة في سَنِّ هذه العبادات وتشريعها للناس، فربما أدى المرء نافلة، وتسبب في مفسدة أعظم وأكبر.

وليس من أخوة الإيمان بحال أن يعزل المرء نفسه عن مشكلات الآخرين وهمومهم، فهؤلاء المسلمون الذين تزاحمهم عند الحجر وفي المطاف والمسعى وعند الجمرة، هم الذين تتألم لهم وأنت تراهم على شاشة التلفاز جياعًا أو مشردين أو مضطهدين على أيدي الكفرة الغادرين.

والمشكلة الأهم ليست في حج المقتدرين الذين يترتب على حضورهم نفع متعدٍّ بعلم أو إحسان، ولكن في حضور غيرهم ممن يرمون بأنفسهم في الزحام، فيفترشون الطرقات ويسدُّون المنافذ، ويوقعون المهالك.

من كتاب “افعل ولا حرج”  للدكتور الشيخ “سلمان عبدالله العودة” ص 6 –  8

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى