بحوث ودراسات

تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية” 4 من 12

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

إنَّ كثيرًا من الأخطاء التى حصلَتْ عند جمعِ القرآن وكذلك عند تنقيطه لا علاقةَ لها بفصاحة العرب المسلمين بل بعدمِ معرفتهم بسياق القرآن وبخفايا وَضْعِه وبمصادره أولا، وبكونهم يعتبرون القرآنَ مقدَّسًا ثانيًا، مما جَعَلَهم لا يجرؤون على مجرَّد التفكير بكشف أخطائه ولا على تصحيحها فيما لو كشفوها. فإذا كان بعضُ معاصرى القرآن من المقرَّبين لمحمَّد وربما لمؤلفى القرآن وممن لا يُشَــكُّ فى معرفتِهم الواسعة بالعربية وببيئة القرآن (كعُمَرَ وأبى بكر وابن عباس) لم يفهموا معانى بعضِ الكلمات فيه (كمعنى “الأَبّ” [عبسَ، 31] و”الغِسْلين” [الحاقَّة، 36] و”حنانًا” [مريم، 13] و”أَوَّاه” [التوبة، 114] و”الرَّقِيم” [الكهف، 9]) بحسب السيوطى فكيف بالمتأخرين؟ (راجع “الألفاظ الأعجمية فى القرآن ودلالتها والتحدِّى ومعناه”، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=342785)- محمد عبد الجليل).
(من يقرأ هذا الكلام ولا يعرف القرآن سوف يظن أن كتب التفسير مملوءة بالمحاولات العابثة لتغطية عيوب القرآن وأغاليطه اللغوية والأسلوبية. وهو تصور مضحك. ولو كان فى القرآن تلك الأغاليط التى يبدئ ذلك السخيف فيها ويعيد لما سكت المشركون ولا اليهود ولا النصارى ولا المنافقون. وإذا كان المنافقون قد وصفوا النبى عليه السلام بأنه “أُذُن”، أى ساذج غُفْل ينضحك عليه بسهولة ويُصَدِّق كل ما يقال له دون تحقيق أو تمييز ثم لم يفعل الرسول لهم شيئا أىّ شىء، بل سجل القرآن تلك الشتيمة فى صفحاته بحيث صارت قراءتها مع سائر النص الكريم عبادة يؤجر صاحبها عليها، إذا كان الأمر كذلك فكيف نصدق أن أحدا لم يكن يجرؤ على الإشارة إلى أغلاط القرآن اللغوية؟ لقد قال المشركون فى مكة ما هو أدهى من ذلك، إذ قالوا إن بعض البشر هم الذين علموا محمدا القرآن. فما الذى فى الكلام عن أخطاء اللغة فى القرآن من خطورة تخيف القائلين بها وتمنعهم من إعلانها؟ وعلى كل فإن المفسرين إنما يتعلمون من القرآن لسد النقص والثغرات فى لغتهم وعلمهم لا العكس كما يقول هذا التافه. وفى القرآن كنوز لغوية لا توجد فى أى نص آخر شعرى أو نثرى، وتقوم كتب التفسير باستخراج الجواهر النفيسة من تلك الكنوز العظيمة. ونحن جميعا مدينون بغنى لغتنا للقرآن الكريم، الذى دلتنا على جواهره كتب التفسير. وقد حللت أسلوب طه حسين، فألفيته متأثرا تأثرا واسعا وعميقا بأسلوب القرآن المجيد رغم ما اشتهر به الدكتور طه من تمرد على كتاب الله فى أوليات حياته التأليفية. يجد القارئ هذا فى كتابى: “دراسات فى النثر العربى الحديث” فى الفصل الخاص بمجموعة “المعذبون فى الأرض”. وإذا كان القرآن قد غلب د. طه رغم تمرده عليه فما بالنا بغير د.طه؟
أما كلام سخيفنا السورى عن ترجمات القرآن الكريم ودورها فى التغطية على عيوبه وطمسها فهو كلام فى الهجايص. ذلك أن ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى لا يقوم بها المسلمون وحدهم بل يَشْرَكهم فيها بل سبقهم إليها المستشرقون وأعداء الإسلام كما هو معروف. كذلك فكلام هذا المدلس يوهم الجهلاء بأن القرآن قد تغير كثيرا بسبب ترجماته. ومعنى هذا أن القرآن يتغير كل يوم مبتعدا عن أصله الأول. فكيف هذا يا ترى؟ ولماذا لم يتقدم مدلسنا أو أى مدلس آخر فيشير إلى ما صححته الترجمات القرآنية من أغلاط لغوية فيه؟ قالوا: الجمل صعد النخلة. قلنا: هذا الجمل، وهذه النخلة، فأَرُونا كيف صعدها.
وبعكس ما يزعم الكاتب المتساخف نرى المترجمين المستشرقين للقرآن يقعون فى أخطاء رهيبة تدل على جهل مبين. وأضرب على هذا بعض الشواهد السريعة من ترجمة المستشرق الفرنسى المعروف سافارى التى صدرت طبعتها الأولى سنة 1782م بباريس، إذ نجده مثلا يترجم قوله تعالى فى الآية 282 من سورة “البقرة”: “فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا” بما معناه: “مريضا أو جاهلا”، ويترجم قوله عز شأنه عن عيسى عليه السلام فى الآية 45 من “آل عمران” إنه “من المقربين” بـ”le confident du Très- Haut”، وكأن الله ملك من ملوك البشر الذين يُفْضُون إلى بعض وزرائهم بما عندهم من الأسرار، ويجعلونهم موضع ثقتهم، فضلا عما تشير إليه العبارة الفرنسية من أن عيسى عليه السلام هو وحده الذى يتمتع بهذا الامتياز مع أن الآية الكريمة تقول: “من المقربين” بما يدل على أنه سيكون واحدا منهم وليس المقرب الوحيد. وعند أمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم يترجم سافارى الكلام إلى ما معناه: “اعبدوا آدم”، أستغفر الله. ولدن قوله تعالى فى آخر سورة “التوبة”: “لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم…” نراه يترجمه بما يفيد أنه عليه السلام يحمل عنهم أوزارهم: “chargé de vos fautes”، وهو ما يصادم العقيدة الإسلامية مصادمة شديدة. أما عبارة “وغرابيب سود” من قوله جل شأنه فى الآية 27 من سورة “فاطر”: “ومن الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيبُ سُودٌ” فيترجمها بـ”le corbeau est noir”، أى أن “الغراب أسود”. يا للعبقرية!
بل إنه لا يستطيع نطق الكلمات العربية أصلا: ومن ذلك أن كلمة “الفاتحة”، وهى اسم السورة الأولى فى المصحف، تتحول على يديه المباركتين إلى “Fatahat”. أما “اللات والعزى ومناة” فهى عنده: “Lat, Aza, Menat”، و”الزمخشرى” يصبح “زَمْسَشْكَر”، و”ذو الكِفْل” يصير “ذو الكَفِل”، و”العِشَاء” تتحول إلى “Aché”، و”أبو بكر” إلى “أبو بِكْر”، أى أبو العذراء… إى والله! وهذه مجرد عينة من أخطاء واحد فقط من المستشرقين ليس إلا. ومع هذا فلا تسأل عن دعاوى سافارى العريضة بشأن القرآن والجرأة الجاهلة الحمقاء عنده على المسارعة إلى تخطئته ومهاجمة عقائده التوحيدية الكريمة.
أما عدم معرفة بعض الصحابة المعنى الدقيق لهذه اللفظة أو تلك فما المشكلة فى هذا إذا صحت الرواية؟ إننا جميعا نجهل أشياء غزيرة فى لغتنا، وما من إنسان يمكنه الزعم بأنه قد أحاط باللغة مهما يكن علمه وتدقيقه وحفظه. بل إنه سيكون أسعد السعداء وأحظّ المحظوظين لو كان ما يعرفه من لغة قومه عشرة على الألف منها. وقد أدخل القرآن الكريم صيغا وألفاظا وعبارات وصورا وتراكيب جديدة فى لغة العرب. فمن الطبيعى أن يجهل بعض الصحابة بعض هذه الألفاظ. وعلى كل حال إذا كان هذا الصحابى أو ذاك يجهل لفظة هنا أو لفظة هناك، إذا صحت الرواية، فغيره من الصحابة يعرفونهما. وقلما يوجد نص يخلو من ألفاظ لا يعرفها فلان أو علان. وهذا أمر طبيعى تماما. وفى كثير من القصائد الشعرية نرى النقاد والعلماء يقفون أمام بعض ألفاظها أو تراكيبها أو عباراتها أو صورها ويتجادلون ويتخاصمون بل قد يتعاركون حول المعنى الصحيح أو الأصح لها. هذا أمر معروف لكل من درس الأدب شعرا أو نثرا. وأذكر أننى، وأنا طالب بالتوجيهية، قد سألت أستاذى الكبير سيد أحمد أبو رية عن معنى قول نزار قبانى فى قصيدته التى كانت نجاة تغنيها له تلك الأيام:
ماذا أقول إذا راحت أصابعه * تلملم الليل عن شَعْرِى وترعاه؟
فأجاب: “تلملم شعرى الذى هو كالليل”، ومع هذا ظللت حائرا أمام هذا البيت. وأحيانا ما أقول لنفسى: “ألا يمكن أن يكون معنى الكلام أن يد حبيبها تنشر النور فى حياتها وتضىء شعرها الأسود كالليل؟”. ومع هذا فلست مطمئنا حتى الآن رغم كل تلك السنين إلى ذلك التفسير مع أن شعر نزار شعر عصرى بلغ الغاية فى السهولة والسلاسة. وقد ظللت أعواما طوالا من حياتى أتصور أن “القيثارة” هى الصفارة مع أننى من القارئين المكثرين والمستعملين للمعاجم منذ وقت مبكر. كما لاحظت أن طه حسين مثلا يستعمل كلمتى “النَّحْل والانتحال” بمعنى واحد فى كتابه: “فى الشعر الجاهلى”. وبالمثل وجدته يستخدم كثيرا فى كتبه صيغة “آوَى” فى محل “أَوَى”. ولا أدرى حتى الآن السر فى هذين الخطأين الأبلقين.
ورغم كل ما سبق فمن يرجع إلى السيوطى فى”الإتقان” سوف يجده قد أورد عن ابن عباس مثلا قائمة طويلة عريضة بهذه الكلمات كلها تقريبا ضمن عشرات الكلمات القرآنية مع تفسير ابن عباس لكل كلمة منها تحت العنوان التالى: “النوع السادس والثلاثون في معرفة غريبه”. وعلى أية حال من يا ترى فسر لنا غريب القرآن؟ أليسوا هم الصحابة؟ لقد فسروها ونقلها عنهم التابعون لينقلها عن التابعين تابعو التابعين… وهلم جرا حتى وصلت إلينا. فلا يصح إذن أن يأتى متنطع جهول ليعمل من تلك الحبة قبة. الأمر أهون من ذلك، لكن هذا القرد يظن أنه، بتنطعه الممقوت، قادر على الإساءة إلى كتاب الله الكريم. وهيات، فرؤيته حلمة أذنه أسهل عليه وأهون.
ويتبقى كلام صاحبنا النزق عن رعب الناس من تخطئة القرآن مع أن هناك كتبا تعالج الشبهات الخاصة بتخطئة القرآن وترد عليها ككتاب ابن قتيبة مثلا: “تأويل مشكل القرآن”، وهو ما يعنى أنه لم يكن هناك هذا الرعب الذى يبدئ فيه ويعيد. ثم منذ متى منع الاستبداد أن يكون هناك أشخاص وجماعات تضحى براحة بالها ومالها وحريتها بل بحياتها متحدية الطغاة ومؤثرة القتل على الحياة الساكنة الذليلة؟ والتراث الإسلامى مملوء بالكتابات المتمردة على كل شىء شعرا ونثرا، ولم يتعرض لأصحابها أحد إلا فى الندرة.
وحتى لو غلب عليهم الخوف فإنهم فى هذه الحالة يكتبون ما يدور فى نفوسهم ويكتمونه فلا يخرجونه عن الدائرة التى يتحركون فيها معتمدين على أن المستقبل كفيل بإخراج ما كتبوه إلى النور يوما ما. كما أن بلاد الله مفتوحة لمن يشاء، فيستطيع من يخطئون القرآن أن يهربوا من بلاد الإسلام ويلتحقوا بأعدائه ويعلنوا هناك ما يريدون. ولسوف يجدون هناك الصدر الواسع الرحيب والملجأ الدافئ الحنون كما هو حال محمد على عبد الجليل وغيره، وإن كان المهاجمون للقرآن والإسلام فى بلاد الإسلام ذاتها أكثر من الهم على القلب. وكثيرا ما يُصْدِر المستشرقون ومقلدوهم من المسلمين تقليد القردة خارج بلاد الإسلام كتبا تهاجم القرآن وتخطئه، ونقرأ نحن تلك الكتب حين تصل إلينا ونرد عليها. أى أن هناك مندوحة واسعة جدا لمن يريد تخطئة القرآن ولا يستطيع أن ينشر كلامه داخل المجتمعات المسلمة. ومنذ بضع عشرة سنة وقع فى يدى كتاب بعنوان “هل القرآن معصوم” ألفه شخص يسمى نفسه على الغلاف: عبد الفادى، وهو مطبوع وصادر فى النمسا، ومملوء بالتخطئات اللغوية والتاريخية والعلمية للقرآن المجيد، وكثير منه موجود فى كتبنا القديمة ورَدَّ عليه العلماء. وقد كنت من الذين ردوا على كتاب عبد الفادى هذا ردا مفصلا فى كتابى: “عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين”.
أما بالنسبة لما قاله متساخفنا عن التفسير العلمى للقرآن الكريم فهو كلام سطحى وتافه وليس وراءه شىء من العلم، إذ العلماء والمفسرون عندنا مثلا لا يتفقون فى هذه القضية على عكس ما زعم من أنهم جميعا ينهجون هذا النهج لإنقاذ القرآن: فبعضهم يحبّذه ويرحّب به، وبعضهم يضيق به صدرًا ويدعو إلى الابتعاد عنه خشية توريط القرآن فيما لا تحمد عقباه حين يعمل المفسر العلمى على إنطاق النص القرآنى عَنْوَةً وكَرْهًا بما يعضّد نظرية من النظريات ثم يثبت بطلانها فيما بعد، مما ينسحب على القرآن ذاته ويوقع فى رُوع القراء أن الخطأ إنما يكمن فى النص نفسه لا فى المفسر. ومن الذين وافقوا من علمائنا القدامى على هذا اللون من التفسير الإمام الغزالى والإمام السيوطى. أما المعارضون فمنهم الشاطبى، الذى كان يعارض بمنتهى القوة أى اتجاه لتفسير القرآن فى ضوء المعارف العلمية التى لم يكن العرب، وهم الذين نزل عليهم القرآن واتجه بخطابه إليهم، يعرفون عنها شيئا كما جاء فى كتاب “الموافقات”.
نعم إن القرآن كتاب هداية كما يقول المعترضون على الربط بين القرآن والعلوم الطبيعية والرياضية، لكن لم ينبغى أن نقصر هذه الهداية على هداية العقيدة والخلق والسلوك فحسب، والهداية أوسع من ذلك وأعم وأشمل: فهناك هداية فكرية، وهداية سياسية، وهداية اجتماعية، وهداية اقتصادية، وهداية ذوقية، وهداية صحية، وهداية إدارية… وهلم جرا؟ ومن هداية الفكر ما يلفتنا إليه القرآن من ظواهر الكون وحقائق العلم. والقرآن مفعم بالآيات التى تدعو إلى تشغيل العقول والنظر فى الآفاق والاستزادة من المعرفة واتباع المنهج العلمى الصحيح فى التفكير والاستدلال، فليس كل كتاب الله إذن مخصصا للهداية العقيدية والأخلاقية والسلوكية دون غيرها من الهدايات. ثم إن فى القرآن آيات كثيرة تتعلق بالمعارف العلمية الطبيعية والرياضية والإنسانية، فماذا نصنع إزاءها؟ وكيف يستطيع المفسر التقليدى الذى ليس له من بضاعة إلا بضاعة اللغة والفقه والبلاغة وما إلى ذلك أن يتناولها تناولا يشفى ويريح العقل المعاصر؟ وما معنى التخصص إذن؟ أم ترى القرآن كتابا ساذجا لا يستحق أن نستعين فى فهمه بألوان العلوم والفنون المختلفة؟ أفلا نخصص إذن لهذا الجانب العلمى فى القرآن بعض جهدنا فى الفهم والتفسير؟ ثم هل يمكن أن تتم هداية المسلم، وهو ضعيف علميا؟ فماذا نصنع بقوله تعالى: “قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون”؟
ونفس الشىء يقال عن العصر الحديث، إذ هناك من يوافق على التفسير العلمى لآيات القرآن، وهناك من يرفض ذلك. وممن رحب بهذا وتحمس له من المصريين فقط عبد الله (باشا) فكرى وزير المعارف فى القرن التاسع عشر، ومصطفى صادق الرافعى وعبد العزيز (باشا) إسماعيل ود. توفيق صدقى ود. محمد أحمد الغمراوى والأستاذ حنفى أحمد والأستاذ عبد الرازق نوفل والأستاذ عبد العزيز سيد الأهل والأستاذ على عبد العظيم ود. السيد الجميلى ود. مصطفى محمود ود. محمد أحمد الشهاوى ود. منصور حسب النبى ود. زغلول النجار. ولكل واحد من هؤلاء تقريبا مساهمة فى هذا المجال. وهناك مواقع متعددة خاصة بتفسير الآيات التى تتصل بالعلوم الطبيعية والرياضية والنفسية وما إلى هذا منشورة على المِشْبَاك، وفيها بحوث ودراسات يعمل أصحابها على أن يتناولوا كل شىء من ذلك فى كتاب الله بالبحث والدرس.
ومن المعارضين الشيخ محمود شلتوت رحمه الله، الذي أنكر في مقدمة تفسيره على طائفة من المثقفين أخذوا بطرف من العلم الحديث وانتقَوْا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية وغيرها، وأخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويفسرون آيات القرآن على مقتضاها. ورأيه أن الله لم يُنْزِل القرآن ليكون كتابًا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف، فالعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العالم ما يصبح غدًا من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرّضناه للتقلب معها وتَحَمّل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفا حرجا في الدفاع عنه. أما ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة فإنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس إيمانا مع إيمانهم. وحسبنا أن القرآن لم يصادم الفطرة، ولم يصادم ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول… إلى آخر ما قال.
ومن المعارضين أيضا الشيخ أمين الخولى في بحثه: “التفسير: معالم حياته، منهجه اليوم”، الذى نقل فيه رأي الشاطبي واعتراضه على الذين أرادوا أن يخرجوا بالقرآن عن نهجه في مخاطبة العرب بما يفهمون وفي إطار ما يعهدون من علوم ومعارف، وردّ على الذين زعموا أن في القرآن علوم الأولين والآخرين: دينية ودنيوية، شرعية وعقلية. وهو رأي الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأسبق أيضا، قاله في تقديمه لكتاب عبد العزيز (باشا) إسماعيل: “الإسلام والطب الحديث”. ومثله د.عبد الحليم محمود والشيخ عبد الله المشد والشيخ أبو بكر ذكري، وقد أعلنوه في مقدمة تفسيرهم الموجز للقرآن، الذي كان ينشر في مجلة “نور الإسلام”.
أما كاتب هذه السطور فليس مع الرافضين للتفسير العلمى مع شدة احترامه لهم وإكباره لما كتبوه. وما دام التفسير العلمى لا يصادم الآية فى لغتها ولا يلويها عن سياقها أو عن معناها الذى يحكم به العقل السليم فأهلا به وسهلا ومرحبا. أما القول بأن القرآن إنما نزل يخاطب العرب المعاصرين للرسول وحدهم فهذا غير صحيح، إذ هو يخاطب من خلالهم البشرية كلها منذ عصرهم إلى أبد الآبدين. وما دام العلم يتقدم كل يوم ويقفز بخطاه الجبارة فلا بد أن نستعين به فى فهم هذا النص الإلهى المعجز. والله سبحانه وتعالى ليس عربيا ولا هو ينتمى إلى عصر المبعث، بل هو سبحانه فوق الزمان والمكان والأجناس والأعراق والثقافات، وكلامه أزلى أبدى. والذى أومن به أن النص القرآنى قد صيغ صياغة تسمح بفهمه فهما متجددا وسليما فى كل عصر. ونحن نعرف أن للحقيقة وجوها مختلفة، وإذا لم يكن فى كلام الله تلك الشمولية ففى أى كلام يا ترى تكون؟ ولقد سبق أن ضربت أمثلة على ضرورة الاستعانة بالعلوم الطبيعية والفلسفية والرياضية فى فهم نصوص قرآنية لا يمكن فهمها من قِبَل العقل الحديث بدونها. كما أن الـمُحْدَثين والمعاصرين قد استحدثوا من الدراسات القرآنية ما لم يكن يخطر على بال أحد. وبالنسبة لى لن يحجزنى أنى مؤلف كتاب “القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية” عن التنبيه إلى ما فيه من لون جديد من الدراسات القرآنية فأسكت عن القول بأن هذه أول مرة يفصَّل القول أسلوبيا وإحصائيا وتحليليا فى المقارنة بين لغة القرآن ولغة الرسول عليه السلام. ولا ريب فى أن هذا الإنجاز ما كان ليتم فى العصور السابقة لأنه ابن عصره. كما استطعت أيضا فى كتبى عن سور “المائدة” و”يوسف” و”الرعد” و”طه” و”النجم” و”الرحمن” رَصْد عشرات الفروق الأسلوبية بين النصوص المكية والمدنية فى كتاب الله مما يعد جديدا تمام الجدة، إذ لم يتوصل القدماء طوال الأربعة عشر قرنا الماضية إلا إلى بضعة فروق قليلة من هذا اللون يجدها القارئ مكررة فى كتب علوم القرآن هنا وهناك دون زيادة أو نقصان. ومن المؤكد أن هناك دراسات أخرى ظهرت فى عصرنا هذا، فكيف يهوَّن من شأن هذا العصر والجهود التى تُبْذَل فيه لخدمة كتاب الله بحجة أن القدماء كانوا أفصح منا وأبلغ، وأقدر على فهم القرآن من كل نواحيه فهما لا يمكننا نحن الـمُحْدَثين بلوغ شىء منه؟
والمهم، كما سبق القول، ألا يفتئت المفسر العلمى على كتاب الله فيلويه عن وجهه، أو يقوّله ما لم يقل، أو يهجم على ما ليس واضحا له ولا عقله مطمئن إليه، أو يعجل بشرحه على ما لم يتأكد بعد من أقوال العلماء واجتهاداتهم التى لا تزال فى طور التحقق والتمحيص رغبة منه فى الإتيان بشىء جديد لإبهار الناس وطلبا للشهرة وحسن السمعة. وأيا ما يكن الأمر فما زال هذان الموقفان المتعارضان قائمين حتى الآن. وقد كتب الدكتور زغلول النجار مقالا فى هذا الموضوع (فى “أهرام” الاثنين 18/ 9/ 2006م) بعنوان “ضوابط التفسير العلمى للقرآن الكريم” نبه فيه إلى عدة احتياطات ينبغى أن يلتزم بها من يتصدى لتفسير القرآن تفسيرا علميا، إذ لا بد له أن يتعمق فى اللغة والبلاغة وعلوم القرآن، وألا يجرى وراء النظريات العلمية التى لم تتحول إلى حقائق بعد. كما ينبغى أن يبتعد بوجه عام عن التفاصيل العلمية الدقيقة التى لا تخدم غرض التفسير العلمى كالمعادلات الرياضية المعقدة والرموز الكيميائية الدقيقة مثلا. كذلك لا يصحّ له القول بأن هذا الذى توصل له هو معنى الآية، بل عليه التأكيد بأن هذا ليس سوى فهمه هو الذى يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يصيب. وبالمثل عليه الابتعاد تماما عن الغيبيات التى لا تدخل فى إطار العلم البشرى كذات الله والروح والملائكة والجن والبرزخ وما إلى ذلك.
وهذا كلام معقول جد معقول، وكل جهد بشرى عرضة لمغامسة الخطإ مهما اتخذ صاحبه من الاحتياطات ووجوه الحذر، فلا يصح اتخاذ احتمال وقوع المفسر العلمى فى الخطإ تكأة لإغلاق بابه تماما، وإلا فلن تتقدم البشرية خطوة، لأنها معرضة فى كل خطوة تخطوها إلى السقوط فى الغلط كما قلنا، بل لا بد من التقدم والمغامرة ما دام السائر قد اتخذ كل ما يستطيع من احتياطات. وعلى الله قصد السبيل. أقول هذا رغم ما لاحظته من أن الدكتور النجار أحيانا ما يغلو ويحمّل النص القرآنى فوق طاقته ويسبغ عليه من المعنى ما لا تتقبله اللغة التى صِيغَ بها ولا السياق الذى ورد فيه. والمعروف أن كلّ متخصص فى علم أو فن أو صنعة فإنه يتحمس لها تحمسا شديدا ويكاد يراها فى كل شىء. وهذا أمر يوشك أن يكون فطريا يجرى فى العروق، ولولاه لهمدت القرائح وتبلدت، فإن التمركز حول الذات وما يتصل بها هو أحد الدوافع التى تبعث البشر على النشاط والعمل والإبداع، والمهم ألا تتجاوز تلك الحماسة حدودها المقبولة، وأن يقيم الإنسان من نفسه رقيبا على تجاوزاته، وإلا فهناك عين المجتمع التى لا تكف عن المراقبة والمراجعة والانتقاد شئنا أم أبينا. كذلك فكل بنى آدم خطاء كما يقول الرسول، فلا خوف إذن من العمل والتقدم إلى الأمام، فلن يكون ذلك نهاية العالم. وعلينا التحرك والعمل والإبداع، أما الوسوسة الزائدة قبل الإقدام على عمل أى شىء والانتهاء إلى ألا يتخذ الإنسان أية خطوة فى اتجاه الهدف خشية الخيبة والفشل فهو الشلل القاتل، والعياذ بالله”- إبراهيم عوض).
(لِيتخيَّلِ المسلمون أنَّ حاكمًا عربيًّا طاغيةً نشرَ كِتابًا يتضمَّنُ أقوالَه، وكان هذا الكِتابُ يحتوى على أخطاءٍ مطبعيةٍ errata وأخطاءٍ أسلوبيةٍ ولغويةٍ سببُها ضَعْفُ جامعى الكِتاب ومؤلِّفى هذه الأقوال، فهل سيجرؤ أحدٌ داخلَ مملكة الطاغية أنْ يخرجَ على الملأ ويُعلِنَ عن أخطاءِ كِتاب الطاغية؟ وإنْ حدثَ مثلُ هذا، وقد يحدُث، فهل سيُـبْقِى حاشيةُ الطاغية وزبانيتُه ومؤيِّدوه أى أثرٍ لذلك المنتقِد ولأفكاره؟ وإنْ نجَتْ بعضُ الأفكار النقدية القليلة وبَقِيَتْ بعدَ زوالِ حُكْم الطاغية فسيقول أتباعُه فيما بعدُ إنَّ هذه الآثارَ النقدية لا يُـعْتَدُّ بها لقلَّتِـها ولن يعترِفوا بأنَّ السببَ فى قلَّتها هو عدمُ قبولِهم للنقد وعنفُهم فى مكافحته وضعفُهم أمام الردِّ العقلانى عليه. إنَّ العصور الإسلامية (الراشدى والأموى والعباسى) كانت أكثرَ دكتاتوريةً من العصر الحديث بما لا يقارَن. كان العنفُ هو ما يميِّز عصورَ الإسلام حيثُ بلغَ بين المسلمين الــ”رُحَماء فيما بينهم” (بحسب وصف القرآن لهم فى سورة الفتح، 29) حدًّا أدَّى إلى اقتتالهم فيما بينَهم اقتتالا شديدًا ما زلنا نرى آثارَه إلى الآن بين سُنَّةٍ وشيعةٍ أو بين التيارات الإسلامية الرسمية (الأرثوذكسية: سُنَّة وشيعة) والتيارات المخالفة [غير الرسمية] (من دُرْزية ونُصَيْرية وإسماعيلية وأحمدية وبهائية وغيرها)- محمد عبد الجليل).
(نعم لن تخلو الساحة فى بلد الطاغية من ناس ينتقدونه شفويا سرا، ويتناقل الباقون هذه الانتقادات فيما بينهم، وقد يطبعونها كتابة ويتداولونها فى الخفاء، بالإضافة إلى تسريبها خارج الحدود. ثم إن الطاغية لن يعيش إلى الأبد بل لا بد أن يموت يوما، فينتهى الرعب منه وتنطلق الألسن والأيدى التى لا يوافقه أصحابها على ما يقول. ثم إن فى البلاد الأخرى من يستطيعون أن ينتقدوه ويخسفوا به الأرض فى حياته وعز سلطانه دون خوف أو محاسبة، وبخاصة إذا كان بين حكام تلك الدول وبينه تنافسات وصراعات، وهو أمر طبيعى جدا فى مثل تلك الأحوال. وهذا كله ينطبق على كتاب “الميثاق”، الذى يقال زورا إن مؤلفه هو عبد الناصر، فقد كان الميثاق يملأ أرجاء مصر بدويّه وسلطانه، ولكن ما إن انهزم عبد الناصر فى 1967م حتى نسى الناس الميثاق. ثم ما إن مات حتى هبت الأقلام التى كانت ترتعب منه فانتقدته وانتقدت كتابه بل انتقدت حكمه كله. وما “عودة الوعى” لتوفيق الحكيم وحكايته بالتى يجهلها أحد. والحكيم مجرد مثال.
كذلك رأينا القذافى يفاخر بـ”الكتاب الأخضر”، وفَرَضَه على الليبيين فرضا وامتلأت وسائل الإعلام التى يغرقها بأمواله خارج ليبيا بالطنطنة حول الكتاب وعبقرية صاحبه إن كان القذافى فعلا هو مؤلفه. لكن من ناحية ثانية كانت التهكمات والتحقيرات من شأن الكتاب جارية على قدم وساق فى البلاد العربية الأخرى. وما أكثر ما نشرته الصحف المصرية مثلا من رسوم كاريكاتيرية ومقالات تهزأ بالرجل وكتابه الأخضر وتسخر منه سخرية رهيبة وتجعل منهما مسخة ومضغة فى الأفواه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى