مقالات

ترامب يواصل زلات اللسان

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

بالأمس القريب وليس بالبعيد أبداً إنه قبل أقل من شهر، في ظاهر الحدث، أهانت إيران العنجهية الأمريكية ومرغتها بالتراب إذ أسقطت إحدى الطائرات الأمريكية المسيرة وفي الوقت ذاته أجبرت أخرى عسكرية على متنها طاقمها أن تستجيب للتهديدات الإيرانية وتتراجع.

في مثل هذا الظرف عبر ما مضى من ظهور الولايات المتحدة على الساحة العالمية منذ الحرب العالمية الأولى كان رد العفل الأمريكي عنيفًا وسريعًا وساحقًا ماحقًا بتهديد ومن دون تهديد… بل إنَّ أكثر من تسعين بالمئة من الحروب الأمريكية على الآخرين كانت مبنية على شبهات وظنون وأيضًا تلفيقات تزعم وجود تهديد للأمن الأمريكي… وعلى هذا الأساس هاج الأمريكان وماجوا وأطلقوا سيول التهديدات، التي أدرك من أدرك منذ البداية أنها بعبعة وجعجعة لا أكثر، وتهيأ العالم للحرب الأمريكية على إيران، وفجأة أعلن ترامب وقف الحرب على إيران.

لماذا يا سيد ترامب؟

لقد قال بنفسه تغريدًا تويتريًّا من جهة وفي لقاء تصريح رسمي من جهة ثانية، قال بالحرف:

ـ سألت المستشارين كم سيكون هناك من الضحايا الإيرانيين؟ قالوا لي: سيموت نحو مئة وخمسين شخصًا نتيجة قيامنا بالقصف!!! يتابع: فقلت لهم على الفور: إذن أوقفوا العملية.

هكذا بالضبط برر ترامب عدم الثأر للكرامة الأمريكية التي مُرِّغت بالتراب.

أيضًا صعق هذا التبرير من يدرون ويعرفون. فقبل أسبوعين من ذلك بالضبط بساعة واحدة قتل الطيران الأمريكي ثلاثة آلاف وخمسمئة شخص في دير الزور كلهم من المدنيين بزعم الحرب على الإرهاب المحتمل أن قد يمكن أن يهدد الأمريكان… فيما إيران تجاوزت الاحتمالات واعتدت فعلًا على الأمن الأمريكي وتفاخرت بذلك علنًا!!!

لا أريد أن أعود إلى ماضي القرن العشرين إلى الآن فتلك حكاية طويلة. يكفي أن نتذكر قول اليهودي الفرنسي آلان غيرش الذي قال قبل نحو ربع قرن: لو جلست الولايات المتحدة على كرسي الاعتراف لتحاسب على جرائمها لربما احتاجت إلى قرن كامل من تسجيل الاعترافات.

إذن من أين أتت هذه الإنسانية والرحمة والشفقة على مئة وخمسين شخص من الأعداء حسب التصريحات؟

وهل هذه ا لمشاعر صادقة فعلًا أم أنها يشوبها ما يشوبها؟

يشوبها ما يشوبها بات أمرًا في حكم البداهات وقد كتبت وكتب الكثيرون في ذلك الكثير الكثير مما يفقأ عين الجاحد، ولكن للأسف كنت أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي.

المهم في الأمر هو تصريح اليوم مقتبل ذلك التصريح. ففي حين أن الشفقة على مئة وخمسين إيراني ألهبت قلب ترامب والساسة الأمريكان وعلى هامش المفاوضات مع طالبان في أفغانستان وبعد التفاخر بما تحقق بالمفاوضات قال بالحرف:

ـ نحن موجودون منذ تسعة عشر سنة في أفغانستان مثل الشرطة… بإمكان أن نحسن الوضع في يوم أو يومين ولكني لست على استعداد لقتل عشرة ملايين شخص.

عشرة ملايين شخص في أفغانستان… الرقم كبير.

انظر كيف تنطق الأرقام بما في الجنان.

الأمر ليس مصادفة، ولا زلة لسان، الأمر تعبير عن حقيقة الاعتقاد وطبيعته وأهدافه!!!

لم يقبل أن يؤنبه ضميره على قتل مئة وخمسين شخصًا في إيران. وفي الوقت ذاته ليس على استعداد لقتل عشرة ملايين في أفغانستان!!!

لماذا هذا التفاوت في الأرقام من القائل ذاته وليس من شخص غيره؟

وفي الوقت ذاته علينا أن نتذكر أن أمريكا قتلت مئات الألوف الأفغان منذ بداية الحرب عليها قبل عشرين سنة تقريبًا، وشردت الملايين، ودمرت البنية التحتية كلها، وجربت فيها كل أنواع الأسلحة وآخرها قبل سنتين أضخم قنبلة غير نووية في العالم تعادل قوتها قوة القنبلة النووية تم تجريبها في أفغانستان. ويأتيك ترامب ويقول لك لست على استعداد لقتل عشرة ملايين… لقد سبقه من قتلهم في أفغانستان ذاتها.

هذا أيضًا على الرغم من أن أفغانستان متهمة زورًا من قبل أمريكا بجريمة لم ترتكبها، وإيران ارتكبت جريمة ضد أمريكا فعلًا.

هل فهمت سر تباين الأرقام؟

انتبه جيدًا من جديد:

أفغانستان متهمة زورًا بجريمة ضد أمريكا فقتلت منها أمريكا مئات الألوف وشردت الملايين ودمرت بنيتها التحتية وترامب يختم بأنه إذا حاربها سيقتل عشرة ملايين بيومٍ واحد.

أما إيران فاعتدت فعلًا على الكرامة الأمريكية باعترافها في كل وسائل إعلامها وترامب يرفض الثأر للكرامة الأمريكية لأنه من المتوقع أن يموت نحو مئة وخمسين شخصًا بالقصف الأمريكي.

السؤال الذي سيخطر في البال: وما الذي ستقصفه أمريكا في إيران حتى يسقط هذا العدد من الضحايا؟ وما هذا الرقم المرعب لكم في حين أنكم في ظرف ساعة قتلتم ثلاثة آلاف وخمسمئة شخص في دير الزور ولم ترمش عينكم؟!

ما أشبه اليوم بالأمس، وما أكثر المتشابهات، وما أقل من يريد أن يفهم أو يقتنع. لهجة حادة معتادة وليست بالجديدة بحال من الأحوال من شدة الألم من انفضاح الباطل انفضاحًا فاق الحدود، لحد أنه يفهمه العقل البليد قبل الرشيد ومع ذلك ترى ذوي الفهم السديد ليس أبعد منهم من الحق بعيد.

هو ذلك طبع الإنسان من الزمن الموغل البعيد، وليس في ذلك من جديد. ومع ذلك ننصدم كل يوم بهذا السلوك وكأننا نراه أول مرة، وما ذلك إلا لأن الفطرة بعد كل ما يقرأ الإنسان ويفهم تظل على وضعها الأصيل، وعند أول مخالفة للفطرة تحسبها الفطرة خرقًا جديدًا.

الدروس كثيرة وأكثر من كثيرة. وقفنا عندها مشاهد مشاهد، ولمحات لمحات، ومنها مشهد اليوم. أثارت زلة لسان جورج يوش ضجة كبرى عندما أعلن بلسانه الطويل قائلًا: إنها الحرب الصليبية… أطلق اسم الحرب الصليبية على الحرب التي بدأها ضد أفغانستان المسلمة.

على الفور خرج المبررون من الغربيين وأكثر منهم من أبواق حكام العرب والمسلمين ليقولوا إنها زلة لسان… لا يجوز أن نحملها محمل الجد. ومرت عادية وكأن شيئًا لم يكن على الرغم من أنها في ساعتها لم تكن عادية، ولا بعد ذلك عندما تبين أن الغرب يشن حرب صليبية على الدول المسلمة وليس على أفغانستان وحسب، وقد تنبأت بتفاصيل المشروع في الساعات الأولى من أحداث الحادي عشر من أيلول ونشرتها في كتاب موسع صدر بدمشق عام 2003م، ولا أطيل في ذلك حسبي أن أشير إلى أنه قد انفضح ذلك قبل سنة عندما نشرت تواصلات بوش وفرانسوا ميتران التي يقنعه فيها بالمشاركة في تدمير العراق بأنها حرب صليبية دينية للقضاء على آخر أوطار يأجوج ومأجوج مع الانتباه إلى طبيعة عقيدتهم في يأجوج ومأجوج.

المهم الذي أود أن أشير إليه فقط هو أنه قد تم تكريم جورج بوش في السعودية والعراق والكويت والإمارات ومصر على حربه الصليبية هذه ورقص الجميع معه بالسيوف رقصة النصر!!! كل ذلك على أساس أنها زلة لسان وأن جورج بوش هو إمام من أئمة التجديد الإسلامي، وقائد من قواد الدفاع عن سمعة الإسلام ومكانته وقيمته…

ترامب خشي أن يفوته التكريم والرقص بالسيف العربي ومنسف الكبسة فقرر أن يأخذ حصته سلفًا في بداية استلامه السلطة فهو يعرف ماذا سيفعل، ولذلك ربما خشي أن يغضب عليه من لا يعرفون الغضب لكرامتهم ولا لدينهم، خشي وخشيته في غير مكانها، لأنه بعد كل ما فعل وأساء سيدعونه للتكريم قريبًا وربما في أماكن لا تخطر في البال.

لم تنتهي زلات الغربيين هنا بحال من الأحوال، تصريحات وأقوال تصدع الرأس بل تشقه نصفين من شدة هولها وكلها تمر مرور سحابة صيف لا يأبه لها المسلمون ولا يعيرونها أي انتباه ولا تحليل ولا تدقيق فلا تسأل عن المحاسبة والملاحقة إذن، ولا تسأل بعد ذاك عن عدم اتخاذ أي تدابير احترازية أو احتياطية… ولا تحسبوا أن الشعوب أكثر حمية من القواد الذين مهمتهم أصلًا محاربة الإسلام والمسلمين… عامة المسلمين وخاصتهم أسوأ من الحكام والسلاطين ما عدا الاستثناء العاجز لأكثر من سبب. فلا يقولن أحد إننا مكبلون بسبب الحكام!! هذا كلام لا قيمة له ولا يغفر الذنب. انظر ماذا كان بإمكانك أن تفعل وأبيت متخذًا من سخف الذرائع سببًا للهروب… بل انظر ماذا فعلت في نصرة هؤلاء الذين يعتدون على دينك وعرضك ومالك وأنت تحسب أنك تفعل الصواب، وتصر بعد النصح على أنك على صواب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى