تساخفات محمد على عبد الجليل فى مقاله: “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية- قراءة تفكيكية” 3 من 12

لقد انتقد نصارى نجران مثلا ما جاء فى القرآن المجيد من أن مريم هى أخت هارون، كما كان
اليهود فى يثرب يسخرون من الأذان والصلاة واصفين نداء المؤذن
بنهاق الحمير. فكيف يزعم السخيف العقل أن العرب كانوا يخشون دكتاتورية
الدولة المسلمة؟ وقبل أن يمسك هذا السفيه بـ”مريم أخت هارون” هذه ويعمل منها قصة مدعيا هو أيضا أن القرآن قد أخطأ خطأ تاريخيا لأن بين مريم أم عيسى وبين هارون أزمنة طوالا هأنذا أستبق الأحداث وأقول له إن استعمالات الكتاب المقدس للأخوّة فى المعانى المجازية كثيرة. وفى عدد غير قليل من هذه الاستعمالات المجازية للأخوّة فى الكتاب المقدس تدخل
“مريم أخت هارون” بكل سهولة ويسر. وقد قال الرسول عليه
السلام ردا على اعتراض بعض من كبار نصارى نجران على هذه
التسمية إن بنى إسرائيل كانوا يسمون بأسماء صالحيهم،
وهو ما تعضده “دائرة المعارف الكتابية” فى مادتى “أخ”
و”أخت”.
عن المغيرة بن شعبة: “بعثَنى رسولُ اللَّهِ صلَّى
اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إلى نجرانَ،
فقالوا لى: ألستُمْ تقرأونَ: “يَاأُخْتَ هَارُون”، وقد كانَ بينَ موسى وعيسى ما كانَ؟ فلم أدرِ ما أُجِيبُهُم. فرجعتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فأخبرتُه، فقالَ: ألا أخبرتَهُم أنَّهم كانوا يُسمُّونَ بأنبيائِهِم والصَّالحينَ قبلَهُم؟”. فإذا
كان الأمر كذلك فأين الدكتاتورية التى تمنع العرب من
انتقاد القرآن لو كانت فيه أخطاء لغوية؟ ولقد كانت بين
مشركى مكة ومسلمى المدينة نقائض شعرية عنيفة ردد
المشركون خلالها كل ما يمكن تصوره من الاتهامات للنبى ودينه ورجاله، ومع هذا لا نجد فى هذه الأشعار القرشية أى شىء يمس القرآن من الناحية اللغوية. ثم لو كان الأمر قائما على الدكتاتورية كما يزعم هذا الكيذبان فلماذا يا ترى لم يهمل المسلمون تلك الأشعار فكأنها لم تكن، بدلا من روايتها والحفاظ عليها حتى لتصير مادة أدبية وعلمية تدرَّس فى المدارس والجامعات وتؤلَّف فيها الدراسات والكتب؟ على أن القرآن ليس هو الذى سماها:
“أخت هارون” بل اليهود حين جاءتهم تحمل الصغير
عيسى دون أن تكون قد تزوجت. ولقد سمع اليهود
فى المدينة بـ”مريم أخت هارون”، وأن أسلافهم هم الذين أطلقوا عليها تلك التسمية. وكان حريا بهم أن
يعترضوا ويسخروا من هذا الذى يحكيه القرآن فيقولوا إن
أسلافنا لم يقولوا ذلك. لكنهم سكتوا، والسكوت علامة
الرضى، وبخاصة من اليهود ذوى الألسنة الوقحة المغرمة باختراع البهتان وترويجه.
وهذا ما قالته “دائرة المعارف الكتابية” عن
استعمالات “أخ” و”أخت” فى الكتاب المقدس: فـ”الأخت تستخدم كثيرا فى العهد القديم، وهى فى
العبرية “أبوت”، للإشارة إلى:
1- أخت شقيقة من نفس الأبوين.
2- أخت من أحد الأبوين (تك 20: 12 ، لا 18: 9).
3- امرأة من نفس العائلة أو العشيرة (تك 24: 60، أى 42:
11).
4- امرأة من نفس البلد أو الناحية (عدد 25: 28).
5- يقال مجازيا عن مملكتى إسرائيل ويهوذا إنهما أختان
(حز 23: 4).
6- تعتبر المدن المتحالفة أخوات (حز 16: 45).
7- تستخدم نفس الكلمة العبرية لوصف أشياء ذات شقين أو
أشياء مزدوجة، مثل الستائر أو
الشقق التى يقال عنها “بعضها موصــول ببعض” ( وفى العبرية
“موصول بأخته” – خر 26: 3 و6)، كما تطلق أيضا
على أزواج الأجنحة (حز 1: 9، 3: 13).
8- لوصف بعض الفضائل المرتبطة بالشخص مثل “قل
للحكمة: أنت أختى” (أم 7: 4، أى 17: 14).
9- لوصف العلاقة بين محب وعروسه كتعبير عن الإعزاز (نش
4: 9، 5: 1، 8: 8).
وفى العهد الجديد تستخدم الكلمة اليونانية
“أيلف” (أخت) فى المعانى الآتية:
(1) لوصف القرابة بالجسد أو بالدم (مت 12: 5، 13: 56،
19: 29، لو 10: 39، لو 14: 26، يو 11: 1، 19: 25، أع 23: 16).
(2) أخت فى المسيح: “أختنا فيبى” (رو 16: 1،
انظر أيضا 1 كو 7: 15، 1 تى 5: 1، يع 2: 15).
(3) قد تشير إلى كنيسة: “أختك المختارة” (2 يو
13)”.
و”يطلق لفظ الأخ على:
1- الابن فى علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تك 4:
8، 42: 4، مت 10: 2).
2- الابن لنفس الأب فقط دون الأم (تك 20: 12، 42: 3) أو
لنفس الأم فقط دون الأب (قض 8: 19).
3- على قريب من الأسرة الواحدة، كابن الأخ مثلا. فقد قال
أبرام عن لوط ابن أخيه إنه “أخوه” (تك 14: 12 و16).
4- على أفراد السبط الواحد (2 صم 19: 12).
5- أطلق اسم “إخوة” على الأفراد من الشعب
الواحد (خر 2: 11، أع 3: 22، عب 7: 5).
6- على حليف أو أحد أفراد شعب حليف (عدد 20: 14، تث 23:
7، عاموس 1: 9).
7- على شخص يشابه شخصا آخر فى صفة من الصفات (أم 18: 9).
8- على الأصدقاء (أيوب 6: 15).
9- على شخص يماثل شخصا آخر فى المرتبة أو المكانة (1 مل
9: 13).
10- على شخص من نفس العقيدة الواحدة (أع 11: 29، 1 كو 5:
11).
11- تستخدم مجازيا للدلالة على المشابهة كما يقول أيوب:
“صرت أخا للذئاب” (أيوب 30: 29).
12- على زميل فى العمل أو فى الخدمة (عزرا 3: 2).
13- أى إنسان من الجنس البشرى للدلالة على الأخوة
البشرية (مت 7: 3 – 5، أع 17: 26، عب 8: 11، 1 يو 2: 9، 4: 20).
14- للدلالة على القرابة الروحية (مت 12: 50).
15- قال الرب للتلاميذ: “أنتم جميعا إخوة” (مت
23: 8). كما استخدم الرسلُ والتلاميذُ
لفظَ “إخوة” للتعبير عن بنوتهم المشتركة لله وأن كلا منهم أخ للآخر فى المسيح (أع 9: 17، 15: 1 … إلخ)، فالمؤمنون جميعا إخوة لأنهم صاروا “رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أف 2: 9). وقد كان
الربيون اليهود يفرقون بين “أخ” و”قريب”
فيستخدمون لفظة “أخ” لمن يجرى فى عروقهم الدم الإسرائيلى،
أما لفــظ “قريب” فيطلقونه على الدخلاء، ولكنهم لم يكونوا يطلقون أى لفظ من اللفظين على الأمم. أما الرب يسوع والرسل فقد أطلقوا
لفظة “أخ” على كل المؤمنين، ولفظة
“قريب” على كل البشر (1 كو 5: 11، لو 10: 29). وكل المجهودات الكرازية وأعمال الخير إنما هى من منطلق هذا المفهوم المسيحى لعلاقة الإنسان بأخيه
الإنسان.
16- للدلالة على المحبة القوية المتبادلة (2 صم 1: 26،
كو 4: 7 و9 و15 و2 بط 3: 15)”- إبراهيم عوض).
(ثم إنَّ عمليةَ كشْفِ أخطاءِ القرآن فى بداية ظهوره لم
تكنْ ممكنةً لأنه كان محصورًا
فى نطاقٍ ضَيِّـق، ولم يكنْ قد انتشرَ. ولذلك لم يؤبَه به فى بداية
الأمر. وعندما انتصرَ المسلمون وانتشرَ قرآنُهم أصبحَت عمليةُ كشْفِ أخطاء القرآن أصعبَ بكثيرٍ بل غيْرَ ممكنةٍ اجتماعيا ولا سياسيا. فإذا كنا فى عصرِنا الحالى عصرِ حرية التواصل نجد كثيرًا من المسلمين يحاولون بشتى الطرق إغلاق صفحة “أخطاء القرآن اللغوية والإنشائية” التى
أنشأها الأخ الباحثُ والمترجِمُ سامى الذيب على شبكة التواصل
“فيس بوك” فكيف كانت الحالُ فى القرون الوسطى فى
الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام؟ وكيف كان سيُسْمَح
لمنتقدٍ أنْ يبيِّنَ الأخطاءَ اللغوية إذا كان لا يُسْمَح أساسًا إلا لمسلمٍ أو منافقٍ أنْ يعيش فى الجزيرة العربية؟ ولو أنَّ أحدًا تجرَّأَ وأظهرَ خطأً فى القرآن فمن سيروى عنه؟ أين مؤلفات ابن الراوندى النقدية على سبيل المثال؟
إنَّ عدم وجودِ مصادرَ تاريخيةٍ تُشِير إلى كشف معاصرى
القرآن لأخطاء القرآن لا يعنى أبدًا عدمَ
وجودِ أخطاءٍ فيه ولا يعنى أنَّ خصومَ القرآن لم يكتشفوا
أخطاءه، بل يعنى عدمَ وجودِ حُرِّيةٍ كانت تسمح بانتقاد القرآن وكشفِ عيوبِه أو تسمح بالحفاظ على الآثار النقدية للقرآن إنْ وُجِدَت.
فإذا كان عثمانُ نفسُه قد أحرقَ جميعَ المصاحف الأخرى
وأسكَتَ بالعنف جميعَ الأصوات المعارِضة، ووظَّفَ
مؤيدوه أساليبَ بلاغيةً وفقهيةً لتبرير أخطاء القرآن
وتناقضاتِه (مثل أسلوب “الالتفات” [الذى يَندُرُ فى شِعرِ ما قبلَ الإسلام ويكثرُ جدًا فى القرآن] و”التقديم والتأخير”
و”الاعتراض” و”الحذف والتقدير” وأحكام
“الناسخ والمنسوخ” وبعض القراءات وبعض التبريرات النحوية الإعرابية وكثير من الأحاديث وكثير من التفاسير) فكيف بأتباعه الذين تحجَّرَتْ عقولُهم بفعلِ القرآنِ عبْرَ العصورِ أنْ يسمحوا لأحد أنْ يبيِّنَ لهم أخطاءه؟- محمد عبد الجليل).
(كالعادة يقول الكاتب الشىء ونقيضه، فيزعم أن العرب فى
بداية أمر القرآن لم يكونوا
يأبهون به، ولهذا لم يهتموا بتبيين ما فيه من أخطاء، ثم يستدير من الناحية الأخرى فيقول إنهم قد خَطَّأوه لكن المسلمين قد استبدوا بهم واضطروهم للسكوت. فكيف نوفق بين هذا وذاك، وهما نقيضان لا يمكن التوفيق بينهما؟ أما كتب ابن الراوندى فكثير مما كانت تتضمنه موجود فى كتب من ردوا عليه. بل إنها كانت موجودة حتى عصر ابن الجوزى على الأقل، إذ ذكر فى كتابه:
“المنتظم”، الذى نقل خلاله كثيرا من هجومه على
الإسلام والرسول وفَنَّد صبيانياته
فى الاعتراض على القرآن، أنه قد اطلع عليها بنفسه: “كنت أسمع عنه العظائم حتى رأيت في كتبه ما يخطر على قلب أن يقوله عاقل، فمن كتبه:
“كتاب نعت الحكمة”، و”كتاب قضب الذهب”،
و”كتاب الزمرد”…”. ومع هذا لم نسمع أن أحدا لا
من العلماء ولا من العوام ولا من أصحاب السلطة قد تعرض له بسوء.
بل إن ابن خلكان قد أثنى عليه وجعله من فضلاء عصره وترحم
عليه: “أبو الحسين أحمد بن
يحيى بن إسحاق الرواندى العالم المشهور. له مقالة فى علم الكلام، وكان من الفضلاء فى عصره، وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشر كتابا منها كتاب “فضيحة المعتزل وكتاب التاج وكتاب الزمرد وكتاب
القصب” وغير ذلك. وله مجالس ومناظرات مع
جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها أهل الكلام عنه فى كتبهم. توفى سنة خمس وأربعين ومائتين برحبة مالك بن طوق التغلبى، وقيل: ببغداد، وتقدير عمره أربعون سنة، وذكر فى البيتان أنه توفى سنة خمسين، والله أعلم، رحمه الله تعالى”.
وفى”البداية والنهاية” لابن كثير نقرأ ما يلى:
“أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين بن
الراوندى، نسبة إلى قرية راوند ببلاد قاشان ثم نشأ ببغداد، كان بها يصف الكتب فى الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره
ولا ينفعه فى الدنيا ولا فى الآخرة. وقد ذكرنا له ترجمة
مطولة حسبما ذكرها ابن الجوزى فى سنة ثمان وتسعين
ومائتين، وإنما ذكرناه ههنا لأن ابن خلكان ذكر أنه
توفى فى هذه السنة، وقد قلس عليه، ولم يجرحه بل مدحه فقال: هو: أبو الحسين أحمد بن إسحاق الراوندى العالم المشهور، له مقالة فى علم الكلام.
وكان من الفضلاء فى عصره، وله من الكتب المصنفة نحو مائة
وأربعة عشر كتابا منها
“فضيحة المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب” وغير ذلك.
وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد
بمذاهب نقلها عنه أهل الكتاب.
توفى سنة خمس وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبى، وقيل:
ببغداد”.
وفى “الوافى بالوفَيَات” لصلاح الدين الصفدى
ضمن ترجمته لابن الراوندى: “وقال محمد
ابن إسحاق النديم: قال البلخى فى كتاب “محاسن خراسان”: أبو الحسين أحمد ابن الراوندى من أهل مرو الرّوذ من
المتكلمين. ولم يكن فى زمانه فى نظرائه أحذق منه
بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله منه. وكان فى أول أمره
حسن السيرة جميل المذهب كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كلّه لأسباب عرضت له ولأن علمه كان أكثر من عقله… قال: وقد حُكِىَ عن جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه وأظهر الندم واعترف بأنه إنما صار إليه حميّةً وأنفةً من جفاء أصحابه وتنحيتهم إيّاه من مجالسهم…
وقال السيد أبو الحسين محمد بن الحسين بن محمد الآملى:
سمعت والدى يقول قلت لأبى الحسين
ابن الراوندى المتكلّم: أنت أحذق الناس بالكلام، غير أنك تَلْحَن.
فلو اختلفتَ معنا إلى أبى العباس المبرد لكان أحسن. فقال: نِعْمَ ما قلت. نبهتَنى لما أحتاج إليه. قال: فكان مِنْ بَعْدُ يختلف إلى أبى العباس المبرّد. قال: فسمعت المبرّد يقول لنا: أبو الحسين ابن الراوندى يختلف إلىَّ منذ شهر، ولو اختلف سنةً احتجتُ أن أقوم من مجلسى هذا وأُقْعِده فيه”.
ومن بين اعتراضات ابن الراوندى على القرآن تساؤله
التهكمى عن قوله تعالى: “إن كيد
الشيطان كان ضعيفا”: أَىُّ ضعفٍ له، وقد أخرج آدمَ وأَزَلَّ خَلْقًا؟ وقد رد ابن الجوزى قائلا: هذا تغفُّلٌ منه
لأن كيد إبليس تسويلٌ بلا حجة، والحجج تردُّه،
ولهذا كان ضعيفا، فلما مالت الطباع إليه أثر وفعل. هذا ما قاله ابن الجوزى، ويمكن أن نضيف إليه أن الشيطان ضعيف بالنسبة إلى الله تعالى، الذى خلقه، وأقدره على إثارة شهوات
البشر، فيستجيب له الضعفاء الخائرو العزيمة، ويصده
وينتصر عليه المؤمنون ذوو الهمم العالية. وكل المخلوقات
بما فيها الشيطان هم فى الحقيقة لاشىء إلا بما أقدرهم عليه ربهم.
والإنسان قادر على أن يغلب الشيطان بوعيه وإيمانه وخشيته
من ربه وحرصه على كرامته
وسمعته، فيكون الشيطان أمامه ضعيفا عاجزا عن فعل شىء. وهناك حديث يتكلم فيه النبى عن النساء وقدرتهن على الذهاب بلب الحليم مع ما هن عليه
فى الحقيقة من ضعف. كما حذر عليه الصلاة والسلام من
فتنتهن رغم تسميته لهن فى ذات
الوقت بـ”القوارير”، أى الكائنات الهشة. وكم من ضعيف غلب قويا، وكم هزمت المرأة الرجل بدموع عينيها، التى هى عنوان الضعف والانكسار والمذلة!
وكم تغلبت عليه بنظراتها الذابلة الواهنة مما أفاض فيه
الشعراء وفضحوا أنفسهم به
متلذذين بتلك الفضائح مستعذبين لها! وما أكثر ما تخسر فرق الكرة العملاقة أمام فريق ضعيف لا يساويها فى شىء، لكنه أمامها يستبسل ويستقتل، فى الوقت الذى تغتر هى وتستهين به متصورة أنها تستطيع فى أية لحظة من المباراة أن تسحقه كما تريد، إلى أن يمر الوقت ويفلت منها الزمام دون أن تشعر، فيفوز الفريق الضعيف أو يخرج على الأقل متعادلا معها بينما تنهار الفرق القوية أمامها بسهولة شديدة.
كذلك لا يصح أن ننسى أن الله سبحانه يقف مع عباده
المؤمنين يطمئنهم ويبشرهم أنه
غفور رحيم وأنهم مهما اقترفوا من السيئات يمكنهم محوها من صحائف
أعمالهم إذا ما ندموا ورجعوا عن غيهم ولم ييأسوا فيُسْلِموا للشيطان مقادتهم. فهم إذن أقوياء بغفران ربهم لهم. كما أن انتصار الشيطان على العبد ليس ضربة لازب، إذ هو مجرد موسوِس: والعبد هو الذى يقرر أينصاع له أم لا.
وحتى لو تصادف أن كان العبد، عند وسوسة الشيطان له، فى
لحظة سهو أو غفلة أو ضعف فلم
يستطع الصمود أمامه لأن الإغراء كان عنيفا، والحمل باهظا، فإن الله سبحانه برحمته لا يعاقبه لأن الأمر كان فوق استطاعته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وكل هذا يجعل الشيطان ضعيفا إزاء المؤمن. وهذا معنى أن
كيد الشيطان كان ضعيفا. كذلك كان هناك من يعبد الشيطان
متصورا أنه إلهٌ مَثَلُه مَثَلُ الله سبحانه وتعالى سواء بسواء، وأن
الأمر هو أمر صراع بين إلهين. فأراد الله سبحانه أن
يبين أبعاد طبيعة الشيطان، وأنه ضعيف: “وقال الله:
لا تتخِذوا إلهين اثنين. إنما هو إلهٌ واحدٌ. فإياى فارهبون”، وأنه مجرد مخلوق كالإنسان حسبما أقر هو بنفسه إذ قال مخاطبا ربه مقارنا بين
نفسه وبين آدم: “خلقتَنى من نار، وخلقتَه من طين”.
ومن بين ما قاله ابن الراوندى أيضا وردَّ عليه ابن
الجوزى تعليقه على قوله عز شأنه
لآدم عند خلقه وإسكانه الجنة الأولى: “إن لك ألا تجوعَ فيها ولا تَعْرَى”، إذ عقّب على ذلك ساخرا: “وقد جاع وعَرِىَ”، متهما
الله سبحانه بأنه لم يحفظ وعده لآدم، فقال ابن الجوزى: وهذا
المغفل الملعون ما فَهِمَ أن الأمر مشروط بالوفاء بما
عُوهِد عليه من قوله: “ولا تَقْرَبا هذه الشجرةَ
فتكونا من الظالمين”. ويمكن أن نفصِّل الكلام أكثر فنقول إن الله قد وعده ألا يجوع أو يعرى وألا يظمأ أو يَضْحَى ما دام باقيا فى تلك الجنة.
ولم يتخلف هذا الوعد قط، إذ لم يجع آدم وحواء أو
يَعْرَيَا أو يظمآ أو يَضْحَيَا
فيها. إنما حدث كل ذلك لهما بعد خروجهما من الجنة ونزولهما إلى الأرض أُمِّ الأحزان والمتاعب عندما فشلا فى الامتحان واستطاع الشيطان تضليلهما فى غمرة من نسيان أبينا آدم وضياع عزيمته.
ومما غلَّط فيه ابن الراوندى القرآنَ كذلك قولُه سبحانه:
“يا أيها الذين آمنوا، لا
تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تَسُؤْكم”، إذ قال مستنكِرا متهِما: وإنما يكره السؤالَ ردىءُ السلعة لئلا تقع عليها عين التاجر فيفتضح. فكان جواب ابن الجوزى على ذلك: فانظروا إلى عامية هذا الأحمق الملعون وجهله. أتراه قال: لا تسألوا عن الدليل على صحة قولى؟ إنما كانوا يسألون فيقول قائلهم: مَنْ أَبِى؟ فقال: “لا تسألوا عن أشياء”،
يعنى: من هذا الجنس، فربما قيل للرجل: “أبوك
فلان”، وهو غير أبيه الذى يعرف فيفتضح. يقصد ابن الجوزى أن هناك أولادا جاؤوا من الزنا، وبخاصة فى الجاهلية، والناس لا تعرف هذا، والطبق مستور لا داعى لإزاحة
الغطاء عنه وكشف ما فيه. لكن بعضهم أراد
أن يعرف من الرسول عن طريق الوحى: مَنْ أبوه؟ فنهاهم القرآن عن ذلك. ونحن نعرف أن جدران البيوت تخفى وراءها أسرارا كثيرة وخطيرة.
والله أمر بالستر، ولا داعى لإثارة الفضائح. ويجرى هذا
المجرى ما حدث من أحد
المسلمين حين أتى الرسولَ عليه السلام ينبئه بأنه قد رأى فلانا وفلانة وهما يزنيان، وظن أن الرسول سوف يفرح بانكشاف أمر هذين الخاطئين الخارجين على تعاليم العفة والطهارة. فما كان من الرسول الكريم إلا أن قال له على غير ما يتوقع منه: هلا سترتَهما بثوبك؟ لكن ابن الراوندى لم يفهم الكلام، أو قل: إنه فهم، لكنه أراد أن يشغب على القرآن بغير حق، بالضبط كما يفعل محمد على عبد الجليل. فهم ذريةٌ بعضها من بعض، والله سميعٌ عليمٌ.
وبعدما رأينا مستوى ذوق ابن الراوندى المنحط فى فهم
الآيات القرآنية الكريمة كيف
يريدنا محمد على عبد الجليل السائر على دربه والمتبع خطاه أن نأخذ
بكلامه ونترك فطاحل الأدب شعره ونثره، وكبار العلماء اللغويين والنقاد والبلاغيين ومفسرى القرآن؟ ومن ذلك مثلا قول المعرى فى “رسالة
الغفران” يحقر من شأنه ويتهكم به وبكتابه:
“الدامغ”، الذى ألفه فى الحط من مكانة القرآن: “فما أخاله دَمَغَ إلاّ مَنْ ألَّفَه، وبسوء الخلافة خلفه…
إن هذا الكتاب الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتابٌ
بَهَرَ بالإعجاز، ولَقِىَ عدوَّه بالإرجاز، ما حُذِىَ على مثال، ولا أشبه
غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز من
سهلٍ أو حُزُون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكَهَنة ذوى
الأَرَب، وجاء كالشمس اللائحة للمـسرّة والبائحة. لو فهمه
الهضب الرّاكد لتصدَّع، أو الوعول المُعْصِمة لراق الفادرة والصدّع.
وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلهم يتفكرون. وإنّ الآية
منه أو بعض الآية لتعترض فى
أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشَّهاب المتلألئ فى جنح غَسَق، والزّهرة البادية فى جُدُوبٍ ذات نَسَق. فتبارك الله أحسن الخالقين”. ثم أين ذائقتنا نحن الأدبية التى تؤكد تأكيدا تاما أن
أسلوب القرآن أسلوب فحل جليل وليس كأساليب البشر،
بالإضافة إلى الروح السارية فيه من “الفاتحة” إلى
“المعوّذتين”، تلك الروح الجليلة السامقة الشاهقة التى لا تشبه الروح البشرية بأية حال؟
وكيف يزعم محمد على عبد الجليل أن القرآن فى بداية أمره
كان محصورا فى نطاق ضيق؟ أوقد جاء
الرسول بدعوته لزوجته وأصدقائه ليس إلا؟ نعم لقد كان يخص بها
القريبين منه فى البداية الأولى، وتلك طبيعة الأشياء، فكل شىء يبدأ صغيرا ثم يكبر ويتسع. لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا، وصار عليه السلام بعد ذلك يغادى بقرآنه القرشيين ويماسيهم، وكثيرا ما تحداهم أن يأتوا بمثله،
ولم يحدث أن خَطَّأ أحدهم القرآن رغم هذا، وإنما كان
أقصى ما قالوه ردا على هذا التحدى المخزى لهم هو:
“لو نشاء لقلنا مثل هذا”. وإذا كانوا صادقين فلماذا
لم يبدعوا مثل القرآن حتى يُسْكِتوا محمدا فلا يعود إلى إيلامهم بهذا التحدى الفاضح؟
ثم إن الكاتب المتهافت الفكر يشير إلى سامى الديب
النصرانى الفلسطينى السطحى
الفكر وكأنه عالم نحرير لا يشق له غبار. وأنا حين أقول هذا فمن معرفتى به منذ أكثر من عقد من الزمان من خلال منتديات “واتا”.
كما درست ترجمته لسورة “مريم” كمثال لترجمته
التافهة للقرآن كله، وبينت ما فيها من خلل شديد وسطحية مضحكة وأخطاء
تدل على أن صاحبها جاهل فى هذا الميدان. ولغته العربية فوق هذا لغة ركيكة لا تخول لصاحبها الاقتراب من كتاب الله، بله تخطئته والتشنيع عليه، علاوة على لسانه
الذَّفِر فى الحديث عن القرآن والنبى الكريم، ذلك اللسان
الذى يستحق أن يقطع بسكينٍ ذَفِرٍ مثله، فما بالنا
باللغة الفرنسية التى تَرْجَم إليها القرآن؟
وكالعادة يتناقض كاتبنا الأهوج فيقول إن عثمان قد أحرقَ
جميعَ المصاحف الأخرى وأسكَتَ بالعنف جميعَ
الأصوات المعارِضة، ووظَّفَ مؤيدوه أساليبَ بلاغيةً
وفقهيةً لتبرير أخطاء القرآن وتناقضاتِه، مع أنه قد أشار من قبل إلى تكفير طائفة من المسلمين لعثمان وقتلهم إياه ورفضهم دفنه فى مقابر المسلمين؟ فكيف كان عثمان مستبدا مع خصومه، وموقفُهم هذا منه يدل أقوى دلالة على أنه لم يكن هناك استبداد ولا يحزنون؟ كذلك يعد الكاتب المختل أسلوب “الالتفات” و”التقديم والتأخير”
و”الاعتراض” و”الحذف والتقدير” من أعراض
الضعف اللغوى والأسلوبى فى القرآن، مع أن كل آداب العالم تعرف تلك الأساليب البلاغية وتتفنن فيها، وتعد ذلك من سمات الروعة البيانية.
وأخيرا فدعواه بأن المعترضين على أسلوب القرآن ما كان
يمكنهم توصيل أصواتهم إلينا لأن
المسلمين لم يكونوا ليرووا هذه التخطئات التى تمس كتابهم، تبرهن أنه كذاب كبير، إذ المسلمون لا يعرفون طمس الآراء المخالفة لدينهم. وكتب التاريخ والأدب والسيرة والحديث تعج بأقوال المنافقين والملاحدة والشكاك فى القرآن دون أية مبالاة بأى شىء. بل إن القرآن العظيم ليحتوى على كل ما وجه إليه من تهكمات من قِبَل المشركين والمنافقين واليهود. فإذا كان صفحات القرآن ذاته قد اتسعت لتقييد تهجمات أعدائه عليه فكيف يدور فى خَلَدنا أن المسلمين يمكن أن يمحوا ما قاله مخطئو القرآن ولا يأتوا على سيرته أبدا؟ وسوف نرى أن كتب ابن الراوندى قد بقيت بضعة قرون على الأقل، كما بقيت
آراؤه متاحة لنا حتى الآن من خلال من ردوا عليه، إذ كانوا
يوردون نص أقاويله ثم يكرّون عليها تفنيدا وتفتيتا.
ولا أستبعد أن تظهر هذه الكتب كلها أو بعضها فى يوم
من الأيام، فما زالت هناك آثار فكرية إسلامية كثيرة جدا مختفية، ثم تفاجئنا الأيام والليالى بين الحين والحين بطفو بعضها على السطح بعدما كنا يائسين من العثور عليها- إبراهيم عوض).
(إنَّ أهمَّ أهدافِ التفاسير وكتب النحو ليس شرْحَ آياتِ
القرآن فحسْبٌ بل تبريرُ
تناقضاتِه وأخطائه وتغطية عيوبه. فكانت التفاسيرُ تقوم بعملياتِ تجميلٍ لهذا الكِتابِ- الهُوِيّة. وقد أكملَتْ ترجماتُ القرآن ما بدأَتْه التفاسيرُ فصلَّحَت ما أَمْكَنَ تصليحُه من عيوبٍ ورمَّـمَتْ ما أمْكَنَ ترميمُه من فجواتٍ وتفكُّكٍ وتناقضات. ويحاولُ عبثًا مروِّجو سرابِ
الإعجاز العلمى أنْ يَلْوُوا عُنُقَ النص القرآنى ليبدوَ
منسجمًا مع العِلْم ويحاولون بغبار التوفيقية
concordisme أنْ يردموا البحرَ المحيطَ الفاصلَ بين النص الذى يقدِّسونه وبين العِلم.