مقالات

بلعم بن باعوراء، والبلاعمة الجدد

جهاد الأسمر

كاتب ومحامٍ سوري.
عرض مقالات الكاتب

كان غزو العراق واحتلاله أمريكيًا مفصلًا ومنعطفًا خطيرًا في تاريخ العرب الحديث، منعطفّا كان كفيلًا ليظهر الفجوة الكبيرة والهوة العميقة بين ما كنا نسمعه من خطاب الزعامات العربية المزدوجة قبل وأثناء وبعد الغزو!

الازدواجية في مواقف الزعامات ليست خارج الأمور الطبيعية بل ربما هي الأصل في مهمتهم  ،ولكن الغريب أو المستغرب وقوف قسم كبير من علماء الدين ودعاته و شيوخه الذين كنا نحسبهم علماء وفقهاء فإذ بهم يختزلون الدين بالحيض والنفاس  أما القضايا المصيرية فهم إما غائب أو مغيّب، ومن يظهر فيهم يظهرُ ليقف إلى جانب سلاطينهم بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان تؤيد وتدعم ما ذهب إليه سلاطينهم من تأييد المحتل لا بل وصل بهم الأمر بهؤلاء أن جعلوا أراضيهم منطلقًا لاحتلال العراق ، ولم نسمع عن هؤلاء العلماء أنهم لم ينبسوا ببنت شفة عن هذا ! ما كان ينقصنا الحدث فقط، لنكتشف هؤلاء فكان الحدث بكل أسف قضية مصيرية هي غزو العراق واحتلاله، حدث واختبار كان كفيلًا ليُظهر عورات وسوءات هؤلاء وكفرهم ،كما ظهرت عورة آدم عندما كفر وعصى أمر ربه تتطابق سيرة هؤلاء المنسلخين عن دينهم مع سيرة بلعم بن باعوراء الوارد ذكرها في القرآن الكريم ففيهما قواسم مشتركة كثيرة ربما تصل للتطابق بين السيرتين، فتاريخ النفاق والانسلاخ عن الدين وتأييد الطغاة لا انفصال فيها مهما بَعُد الزمن بين السيرتين، فقد ذكر الله جل وعلا في محكم آياته (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ)

فبلعم بن باعوراء كان عالمًا من مشاهير علماء بني إسرائيل عاصر موسى، لدرجة أن نبي اللهّ موسى كان يعوِّل عليه أنه داعية مقتدِرٌ ومستجاب الدعاء لكنه مال إلى فرعون ومغرياته فانحرف عن الصواب وفقد كل شيٍء بانحرافه وأصبح من أعداء الله وأعداء موسى.

فعلم باعوراء ومعرفته بآيات الله وحججه وبراهينه وعلمه بشيٍء من الاسم الأعظم الذي كان يدعو به فيُستجاب له، علمه هذا انحرف به عن خط الله وهداه وجحد بآياته وأنكرها بعد أن جاءته بينات واضحات، فكذلك شأن العالم الجاحد المنحرف عن خط الله تعالى، فحين كان جاهلًا جحد وأنكر آيات الله وحين عَلِم بآيات الله جحد بها أيضًا. بلعم بن باعوراء إنما ضُرب مثلًا لكل من كان عالمًا ومع هذا لم ينتفعُ بعلمه في الثبات على الهدى وقول كلمة الحق التي أنعم الله عليه بعلمها والتي كان يجب أن تنعكس سلوكًا في المعتقد والسلوك. ولعل بلعم بن باعوراء وأمثاله موجودون في كل زماٍن وكل مكان فقد نُقلَ في “تفسير المنار” عن النبي صلى أنه قال: (إنَّ مثَل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل، كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة)

فإذا كان مَثَل بلعم في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت عند العرب بالأمس، فمن هو بلعم باعوراء عند العرب اليوم؟ الحقيقة الساطعة أن ليس هناك بلعمٌ واحدٌ كما كان أمية بن أبي الصلت وحيدّا في زمن النبي فبلاعمة العرب اليوم جدًا كثيرون ما من داع لذكر أسماٍئهم فالجميع يعرفهم من سيماهم ومن ميلهم وانحيازهم لسلطان وطاغوت جائر فهؤلاء البلاعمة نسوا أن يقفوا إلى جانب شعوبهم ، فقد مال هؤلاء وانحازوا كميل جدهم بلعم الأول وانحيازه إلى الطاغوت فرعون، فقد بلعمٌ هذا من هو نبي الله موسى وكليمه، فانسلخ وانحاز عنه إلى كليم الشيطان فرعون، و ما عليكم إن أردتم أن تعرفوا بلاعمة العرب الجدد إلا أن تنظروا لأيمانكم وشمائلكم، ومن تحتكم ومن فوقكم، ومن بين أيديكم لتعرفوهم بسيمائهم فهم أكثر من كثير ولعل مفتي السلاطين ومفتي البلاط أمثلة بينة !

ما فعله بلعم بن باعوراء والذي أنزل فيه الله آية، ربما لا يقارن ولا يقاس بالذي فعله ويفعله بلاعمة العرب من الذين أوتوا علمًا وفقهًا، ولكنهم انسلخوا عنها وتنكروا لها ربما أكثر من انسلاخ وتنكُّر بلعم، فإذا كانت قد أنزلت في بلعم آية، فبلاعمة العرب باتت أفعالهم تفسّر واقع حالهم كم من آية ذُكرت تنطبق عليهم؟

ما من خطر أشد خطرًا على المجتمعات كخطر بلعم الأول الذي أوتي علمًا والبلاعمة الجدد الذين جاؤوا من بعده والذين هم أيضًا أوتوا علمًا ولكنهم لم يتعظوا بمصيره ومازالوا على نهجه سائرين ،فهؤلاء أتاهم الله علمًا ومعرفة وثقافة ولكنهم انسلخوا عنها وسخّروها لخدمة فراعنٍة وجبارين ولم يسخّروها بالاتجاه الذي أراد الله لهم في خدمة وتحقيق آمال شعوبهم ، ولرفع آلامهم من وجود أمثال هؤلاء الطغاة فبات البلاعمة الجدد ليسوا كجدهم بلعم بل تفوقوا بأن زادوا عليهم صفة أخرى لم تكن موجودة فيه وهي أنهم أصبحوا كالشعراء فهم مثلهم في كل وادٍ يهيمون لقاء مغريات الدنيا الزائلة فهؤلاء استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ألا ساء ما عملوا وألا ساء ما يعملون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى