مقالات

سفر الحوالي.. من المرابع للسجون

سلطان العبدلي

مؤرخ حجازي
عرض مقالات الكاتب

في قمم السراة؛ وفي أوديتها الجميلة وهوائها العليل؛ هناك حيث الجبال تعانق السحب؛ وبلدة طيبة ورب غفور وقوم طيبون وأذكياء بالفطرة؛ هم طليعة اليمن المبارك، وكل حديث في اليمن وفضائله يندرجون تحته قبل اليمن السياسي الحديث، إشراقة وجوههم تنبيك عن ضمائرهم؛ ونقاء سريرتهم ذائع في التأريخ وضارب بجرانه في الزمن ، هناك وفي قبيلة ظلَّت محل إشكال كما هو نفسه أشغل الناس وملأت أخبارُه الدنيا وطبقتْ جرأتُه الأفاق، رغم زهده وتباعده عن الأضواء ففي عام 1372هـــ الموافق1952م ولد سفر بن عبدالرحمن بن أحمد آل غانم الحوالي في قرية حوالة الأزدية فسفر أزدي زكي وهو من قال في ملحمته:

                إمِّا سألتَ فإنا معشرٌ نُجُبٌ

                                       الأزدُ نسبتُنا والماءُ غَسَّانُ

والأزد قصتهم طويلة مديدة، وحوالة من القرى الكبيرة وهي شطران سنان و

والشَّرَف وقرى غيرها متناثرة في سفح جبل “أُثْرب” الشهير في التأريخ، والحواليُّ في اللغة كما ذكر أبو حنيفةَ الدَّيْنَوَرِيُّ هو الرجل جيدُ الرأي واسع الحيلة، وحوالة حصونها كثيرة وفيها حصن باذخ قَمِنٌ أنْ يشرخ نظاما متفرعناً، وحوالة ليست من قبيلة غامد والبعض من حبه للشيخ يقول إنه غامدي وهو لا شك يصح فيه ما قاله ابن دريد:

        والناسُ ألفٌ منهمُ كواحدٍ

                                  وواحدٌ كالألف إنْ أمرٌ عنا

وبعض أبناء القبيلة يكتب الغامدي وبعضهم يكتب الشمراني وبعض منهم يكتب كالشيخ الحوالي وهذا إحدى معابث آل سعود في أنساب فهو لأنه ضيع نسبه يريد العبث بأنساب العرب وقبائلها.

 هناك حيث الوداعة ولد هناك في حوالة في ظلِّ والدين صالحين يكفيهما حسنةً بعد الإسلام أنهما قدَّما للعالم هذا الفذَّ الأُمة ومن الطريف أنْ نعرف أن الرجل الصالح عبد الرحمن والد سفر مات بعدما وضأ رجله اليمنى – رحمه الله.

درس المرحلة الابتدائية في قريته وأما المرحلة المتوسطة والثانوية فقد درسهما في المعهد العلمي مدينة بلجرشي معقل قبيلة غامد وهي من المدن التي عارضتْ حكم عبد العزيز بن سعود وقاتلت قتالا شرساً هذا الطاغوت ولاتزال تحتفظ بلجرشي وأهلها بذكريات عريقة وبهذه المظالم التي ملأتْ بيوتات بلجرشي وإلى يوم الناس هذا لايزال أهل بلجرشي يلقنون أولادهم تلك الذكريات وقد سمعت كثيراً منها وسفر نفسه يقول في ملحمته:

والناسُ تخدعُ مَنْ بالزيفِ يخدعُها

                                   تطيعُهُ صورةً والسِّرُّ عصيانُ

والناسُ ينسون إلا من يجرعُهم

                               مرارةَ الظلمِ ما للظلم نسيانُ

يدُّسُّهُ الجدُّ للأحفاد مستعراً

                           والأم ترضعُه والثديُ لقَّانُ

درس سفر هناك وقد كان فلتةً من فلتات زمانه حفظاً وزكاءً وذكاءً وقد أخبرني شيخنا العلامة الفقيه أ.د. علي بن سعيد الحجاج الغامدي عن صديق دراسته سفر غرائب وهو متقدم عن سفر أربع سنوات في دراسة المعهد لأن المعهد آنذاك خمس سنين المتوسطة والثانوي فكان الشيخ علي في السنة الخامسة وسفر في السنة الأولى ومن المقرر الفقهي في المعهد متن زاد (زاد المستقنع) في فقه السادة الحنابلة فيقول الشيخ علي كان كل يوم يقرر الأستاذ قطعةً من المتن فأحفظها من أول مرة ومع هذا فيقول عن سفر كان أصغرنا سِنِّاً وجسداً ولكن كان يتقدم علينا في المساجلات وكثير مما يقام من مسابقات وقد أخبرني الشيخ سفر عن حارس المعهد الذي لفته ذكاؤه ونجابته ولكن ربما نفَّس عن ذلك بطريقة حقودة وهو من منطقة أخرى.

 تخرج سفر من المعهد متميزاً بازَّاً كل زملائه تقدما وفهما

وكان من مجايليه في المعهد غير الشيخ علي الحجاج الشيخ الدكتور علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام المسجد النبوي.

بعد تخرجه من المعهد العلمي ببلجرشي وكان ذا توجه إسلامي ويقظة قديمة جداً يمم وجه تلقاء مدينة رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث الجامعة الإسلامية ورئيسها الشيخ بن باز وجهبذ التفسير العلامة محمد الأمين الجكني الشنقيطي والمحدث المؤرخ الشيخ محمد المختار بن مزيد الجكني والد الفقيه عضو الهيئة المدرس د. محمد بن محمد المختار وعدد غير قليل من العلماء الراسخين وعند دخوله الجامعة اختار كلية الشريعة وقد كان شاباً صالحا مذ تلك الحقبة البعيدة وكان ممن لا صبوة له وأخبرني بشيء من سيرته أنداك وتقدمه  شيخنا الحافظ أ.د. محمد بن مطر الزهراني يرحمه الله حيث ذكر لي أن أحد زملائهم أصيب بصداع غاية في الألم وكانوا أزمعوا الذهاب بباص الجامعة إلى مكة لأداء العمرة فقد كان الشيخ سفر ابتدأ رقية عجيبةً  ماسكاً برأس رفيقه الذي كان يعالج السرطان وهم لا يدرون ذلك فظلَّ يرقيه ويقرأ عليه حتى وصلوا مكة المكرمة البلد الحرام ،ولما زار الشيخ المدينة المنورة على منورها وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام 2004 وشرفني ببيتي  وذهبت به يمنة ويسرة زيارات لاتزال عالقة بذاكرتي وأتذكر أنا صلينا العشاء بمسجد الزاحم في الدائري الثاني قبيل زيارة لشخص ما، وصلينا المغرب في مسجد الملحس وكان إمامنا في تلك الصلاة من أصبح صديق السجن فيما بعد،  فعرَّجتُ به على الجامعة الإسلامية ودخلنا حمى الجامعة فهاجت أشجانه فقال لي: كنت سجلت للذهاب مع فتح للجهاد بفلسطين ولكنهم حذروني منهم الشاهد أن شجاعة الرجل ووعيه قديم جداً وذكاؤه ونجابته متفردة في وقت مبكر ، ومن ذلك الشيخ محمد بن مطر الزهراني أخبرني أن الشيخ سفر كان يعرض عليهم الصحف اللبنانية وهم طلاب وهم لا يعرفون ما هذه الأوراق ويشرح لهم مسهباً عما فيها من معلومات وأخبار وتحليلات ومن عجائب الزمن أنْ دار الزمان بي دورته  فلقيت أحد علماء الشمال اللبناني وهو مشهور معروف فذكرت له وعي الشيخ ومتابعته للصحف اللبنانية مرحلة السبعينات  فكان من الطريف أنه قال لي: كان هو من يأتي بها في سيارته من لبنان وكان مما ذكر لي الشيخ الحافظ محمد بن مطر الزهراني أنه مرة من المرات وكان في كلية الشريعة في السنة الأولى وكان قدم من السراة فسأله إذْ ذاك مدرس النحو وهو عالم أزهري  من أين أنت؟ فقال من الباحة من السراة. فقال له هذا العالم النحوي الأزهري: ألا تعلم أن عالما نحوياً يقبع في جبال السراة؟ فيقول الشيخ تعجبتُ، فقال الشيخ الأزهري: اذهب إليه في السنة الثالثة في كلية الشريعة واسمه سفر الحوالي، فالرجل نجابته شهيرة من تلك الحقب وكانت المنطقة فيها من الأحداث ما لا يخفي فمصر ملتهبة ولبنان حرب أهلية طاحنة وانقلاب في سوريا في ثورة تصحيحية! والرجل يدرك كل هذه التقلبات وأقرانه ومجايلوه كما نقول بالعامية (الله بالخير) لا يعون إلا دراستهم، وفي الحلقة القادمة بحول الله مزيد من القصص والأخبار عن هذا العلم الفذ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى