دين ودنيا

التيسير في وقت الرمي

د. سلمان العودة

عرض مقالات الكاتب

للحاج أن يرمي ليلًا. وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ومذهب الحنفية، ورواية عند المالكية، وأحد القولين عند الشافعية، وبه أفتى المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي برئاسة الشيخ عبد العزيز
ابن باز رحمه الله، حينما اشتد الزحام على الجمرات.

والدليل على ذلك ما رواه البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي ﷺ، فقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: «لا حرج». قال: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: «لا حرج».

وله أن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول طاووس، وعطاء- في إحدى الروايتين عنه- ومحمد الباقر، وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، والرافعي من الشافعية، وإليه ذهب ابن الزاغوني، وابن الجوزي من الحنابلة، ومن المعاصرين: الشيخ عبد الله آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقاء، وشيخنا الشيخ صالح البليهي، وطائفة من أهل العلم، وقواه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهم الله، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الله المطلق حفظهم الله.

واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ رخَّص للرعاء أن يرموا بالليل، وأي ساعة من النهار شاءوا.

قال ابن قدامة في «الكافي»: «وكل ذي عذر من مرضٍ أو خوفٍ على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم».

كما استدلوا بما رواه البخاري ومسلم، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ وقف في حجة الوداع بمنًى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أَشْعُر، فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: «اذبح ولا حرج». فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمى؟ قال: «ارم ولا حرج». فما سُئِل النبي ﷺ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج».

ومن أدلتهم: عدم وجود دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، ولا من القياس.

وأما رمي الرسول ﷺ بعد الزوال، فهو بمثابة وقوفه بعرفة بعد الزوال إلى الغروب، ومن المعلوم أن الوقوف لا ينتهي بذلك الحدِّ، بل الليل كله وقت وقوف أيضًا.

ولو كان الرمي قبل الزوال منهيًّا عنه، لبيَّنه النبي ﷺ بيانًا شافيًا صريحًا حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

ومن الأدلة: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]. والرمي من الذكر، كما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما جُعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله». فجعل اليوم كله محلًا للذكر، ومنه الرمي.

وهذا يشبه أن يكون كالنصِّ في المسألة عند التأمل، وبه استدل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وغيره.

وكذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما في رواية البخاري وغيره لمن سأله عن وقت الرمي: «إذا رَمى إمامُكَ فَارْمِ».

ولو كان المتعيِّن عنده الرمي بعد الزوال، لبيّنه للسائل.

وله أن يؤخِّر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير؛ لحديث عاصم بن عدي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ أرخص لرِعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منىً، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر.

فيجوز لمن كان في معنى الرُّعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيدًا عن الجمرات، ويشقُّ عليه التردد عليها؛ أن يُؤخِّر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق). والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء، وأيام التشريق كاليوم الواحد.

وهذا قول الشافعية والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي رحمهم الله.

وهكذا التأخير لتجنب الزحام والمشقة والاقتتال، فهو من أعظم المقاصد الفاضلة المعتبرة.

وحياة الناس أولى بالرعاية من حياة الحيوان، كما في حال الرعاة.

وحفظ الأرواح من المقاصد الخمسةالمجمع على اعتبارها في الشريعة.

ومن التيسير في الرمي: أنه لو جمعه بحيث أخّر رمي يوم الحادي عشر إلى يوم الثاني عشر، ثم رماه في اليوم الثاني عشر، أو أخره إلى يوم الثالث عشر، بحيث رماه كله في اليوم الثالث عشر؛ فإنه يرمي عند كل جمرة جمار الأيام الثلاثة، فيرمي كل جمرة بأربعة عشر إذا كان متعجِّلًا، أو بإحدى وعشرين إذا كان متأخِّرًا، ولا يلزمه أن يرمي كل جمرة سبعًا، ثم يعود مرة أخرى، كما ذكر ذلك الجويني في «نهاية المطلب» قائلا: «وهذا الأظهر». وكذلك العمراني في «البيان في مذهب الشافعي».

ولو نسي واحدة من الجمرات، كأن رمى الوسطى ثم الكبرى، فإنه يعيد ما نسيه أو تركه جهلًا، ولا يلزمه إعادة ما بعدها، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقول الحسن وعطاء، فقد سُئل عطاء عن من رمي الجمرة الوسطى قبل الأولى، فقال: «يرمي التي ترك وأجزأه».

3- التيسير في الإنابة في الرمي:

للضَعَفَة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي، ولا حرج، ففي الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: «حججنا مع رسول الله ﷺ، ومعنا النساء والصبيان، فلبَّينا عن الصبيان ورمينا عنهم».

قال ابن المنذر رحمه الله: «كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي، كان ابن عمر يفعل ذلك، وبه قال عطاء، والزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق».

وأعجب من إخوة غيورين لا يسمحون لنسائهم بالخروج إلى السوق لحاجة، أو الخروج لزيارة، ثم يصرّون على ذهاب النساء إلى المرمى، حيث تلتصق الأجساد، وتطير الأغطية، وتتخطف العباءات، وتتهاوى الأجساد تحت الأقدام، والله المستعان.

وبعض الفضلاء ينحي باللائمة على الضحايا؛ لأنهم سُذَّج، ولا يعرفون الطرقات، ولا يحسنون اختيار الوقت الملائم للرمي، أي: وقت غفلة الناس. وكأن من شروط الحاج أن يكون خِرّيتًا دليلًا عارفًا بالطريق مُجرِّبًا مدركًا مخطَّط الآخرين متى يُزْمِعون الرمي، ومتى يكثرون، ومتى يَقِلُّون!

من كتاب “افعل ولا حرج” للدكتور الشيخ “سلمان عبدالله العودة” ص 18- 19

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى