بحوث ودراسات

منهج الإمام عبد الحميد بن باديس في شرح الحديث النبوي الشريف

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

اتبع الشيخ عبد الحميد بن باديس في عرض الأحاديث النبوية الشريفة طريقة ناجحة، اتسمت بالوضوح، وقوة الإقناع، تقود في النهاية إلى إقناع العقل وإشباع الوجدان ذلك أنه اتبع جملة من الخطوات، كل خطوة منها يبنى عليها اللاحق وتوضح السابق، بعناوين فرعية تساعد القارئ على حسن الاتباع وسلامة الاستنتاج، فلا يسعه في خاتمة القراءة إلا أن يكوِّن فكرة صحيحة عن الموضوع المراد بحثه.

فكان ـ رحمه الله ـ يذكر نص الحديث الشريف ومصدره وراويه، ثم يشرح الألفاظ ويحلل التراكيب ويبين المعاني، ثم يجتهد رحمه الله في استخلاص دروس حية ومفيدة وعظات بالغة وحكم وأحكام يوجهها توجيهاً اجتماعياً لصالح أفراد المسلمين وجماعاتهم.

1. الألفاظ والتراكيب:

لقد كان منهج الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ في شرح الحديث النبوي الشريف، أنه بعد الدراسة الإسنادية، يشرع في شرح ألفاظ الحديث شرحاً لغوياً بسيطاً، يبرز معانيها من الأذهان، واستقرارها في الوجدان وكأنه كان يراعي أنه يكتب مقالات علمية في افتتاحيات لجريدته «الشهاب»، فلم يكن ينقل عن دواوين اللغة، وقلما يتعرض إلى المباحث الاشتقاقية والصرفية، بل وقلما يستشهد لذلك بالشواهد.

وبعد شرحه للألفاظ وتبسيطها، كان يتعدى ذلك إلى التراكيب، فيتعرض إلى قواعد اللغة ومباحث الإعراب ويتوقف مع نكات البلاغة العربية، ودقائق البيان يستعين بهما على توضيح المعاني وبسط الأفكار، لكن لا يتوسع في ذلك ولا يغرق في تلك المباحث، وإنما بقدر ما يتوضح المعنى وتبرز جماليات النص.

2. المعنى الإجمالي للحديث:

بعد كل الخطوات التي تقدم ذكرها، تأتي مرحلة تحديد المعنى الإجمالي للنص النبوي الشريف، فكان رحمه الله، يعمد إلى تبسيط أفكاره وشرح معانيه بجمل بسيطة، وأسلوب واضح مركز بحيث يجعل القارئ يستوعب أهم المعاني والأفكار التي تضمنها النص.

3. الأحكام والفوائد والاستنباط:

إن ابن باديس لم يوجه عنايته ويقصر اهتمامه على الجوانب الفقهية والتشريعية، بل تجاوز ذلك إلى القضايا النفسية الاجتماعية، بل والسياسية والحضارية . ذلك أن الهدف من وراء شرح السنة عنده هو علاج مشكلات الأمة على جميع المستويات من خلال رصد مواطن الخلل، ومظاهر القصور، ووصف الحلول الناجعة لذلك كله من السنة النبوية الشريفة.

فخلال شرحه لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، أشار إلى أن الحديث يتضمن معنى عظيماً وهو ارتباط كل فرد بأمته ارتباط الجزء بالكل، وعليه فالفرد ينظر إليه في النظر الاجتماعي العام من خلال ما ينظر به إلى أمته، سواء أساواها في المستوى الذي هو فيه من رقي أو انحطاط أم كان أسمى منها أو أدنى، فقيمته في النظر الاجتماعي العام هي قيمتها.

4. بعض الضوابط لفهم سليم للحديث النبوي الشريف:

أ- فهم السنة النبوية لفهم القرآن:

إن الشيخ ابن باديس ـ رحمه الله ـ كان من العلماء الذين يرون بأن السنة كلها شرح وبيان للقرآن الكريم، وعليه فلا يمكن أن يفهم شيء منها إلا في ضوء القرآن الكريم، ولذا قال: كان (ص) يذكر بقوله وعمله وهديه وسمته وكان ذلك كله منه على وفق هداية القرآن وحكمه.

قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ *} [المائدة : 15].

عاود التذكير بهذه القاعدة الجليلة، وأن السنة تفهم في دائرة القرآن الكريم وفي ضوء توجيهاته، فقال: محمد (ص) والقرآن نور وبيان: في هذه الآية وُصف محمد (ص) أنه نور. ووُصف القرآن بأنه مبين، وفي آيات أخرى وُصف القرآن بأنه نور، بقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [التغابن : 8].

ووُصف الرسول بأنه مبين: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44].

وهذا ليبين لنا الله تعالى أن إظهار النبي (ص) وبيانه وإظهار القرآن وبيانه واحد، ولقد صدقت عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي (ص)، فقالت: كان خلقه القرآن. ونستفيد من هذا:

  • أولاً: أن السنة النبوية والقرآن الكريم لا يتعارضان ولهذا يردّ خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن.
  • ثانياً: إن فقه القرآن يتوقف على فقه حياة النبي (ص)، وفقه حياته (ص) يتوقف على فقه القرآن وفقه الإسلام يتوقف على فقههما.

ب- التتناول الموضوعي للأحاديث والابتعاد عن القراءة الجزئية للنص:

من أهم القواعد التي كان ابن باديس يراعيها في التعامل مع السنة النبوية الشريفة ويدعو كل قارئ للسنة إلى الأخذ بها، هو التناول الموضوعي للأحاديث أي جمع كل الأحاديث التي وردت في موضوع ما، والاجتهاد في فهم ذلك الموضوع على ضوئها جميعاً، وفهم الحديث الجزئي على ضوء الكليات الواردة وإلا يقع في مطبة القراءة الجزئية للنصوص، الأمر الذي جرَّ الكثير من الويلات والمصائب على الفكر الإسلامي، وشوه الثقافة الإسلامية.

ج- مراعاة الملابسات الزمانية والمكانية:

ومن القواعد الأساسية في الفهم السليم للسنة النبوية الشريفة، التي أولاها عناية فائقة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله: مراعاة الملابسات الزمانية والمكانية فبمعزل عن معرفة سبب ورود الحديث، وبعيداً عن الأعراف القولية ؛ لا يمكن أن نفهم السنة فهماً سليماً. فأيّ تنزيل للسنة على واقع معين دون الأخذ بعين الاعتبار لهذا الأمر ؛ فإنه يؤدي إلى الوقوع في الحرج ومثال ذلك: بعض الألفاظ التي اكتسبت من خلال التطور معنَّى جديداً، فإن تنزيل تلك الألفاظ على المعاني الجديدة المكتسبة، أو فهم الأحاديث الواردة فيها تلك الألفاظ على ضوء المعاني المستجدة، فإنه مسلك معيب يحول دون الوصول إلى الفهم الصحيح للسنة.

وكمثال على هذا الذي نقول لفظ «المكس» الوارد في بعض الأحاديث كحديث أبي داود وغيره: لا يدخل الجنة صاحب مكس. فإنه في أصل الوضع اللغوي هو النقص، ثم أطلق على ما يؤخذ من بائع السلعة ظلماً، والماكس هو اخذ ذلك حتى قال صاحب المصباح المنير: وقد غلب استعمال المكس على ما يأخذه السلطان ظلماً عند البيع والشراء. ولكن هذا مع تطور الزمن أصبح هذا اللفظ يفيد معنى جديداً ، وهو ما يأخذه صاحب السوق من أجرة من رواد السوق الذين يعرضون بضائعهم للبيع، وهذا عقد إجارة تتوفر فيه كل عناصر الإجارة الجائزة، وهذا لا علاقة له بالمكس المنهي عنه شرعاً.

وفي هذا يقول الشيخ ابن باديس ـ: من هذا البيان يعلم أننا لا نريد تحليل المكس «عياذاً بالله» وإنما نريد أنه غير منطبق على كراء الأسواق واكتراء الانتفاع بالوقوف فيها يوم السوق، وأن العقد الأول بين صاحب السوق ونواب العامَّة، والثاني بين صاحب السوق ومريد الوقوف فيه بسلعة ؛ من عقود الإجارة الصحيحة الجائزة.

لقد كان ابن باديس يغوص في أعماق النص النبوي، ليستنبط منه جملة من الأحكام التشريعية، والسنن الكونية التي تحكم سير الحضارات، وقيام المدنيات، ثم يعرض واقع الأمة الإسلامية على ذلك كله، ليحدد مدى قرب أو بعد واقع الأمة من النموذج الذي حدده لها القرآن والسنة. ذلك أن الهدف الأسمى من وراء دراسة السنة عند ابن باديس هو بناء الأمة الإسلامية وبذل الجهود للعودة بها إلى المكانة التي حددتها لها السنة.

مراجــع البحث:

  1. د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت ، ط 1، 2016م، ص (334 : 340).
  2. البخاري، صحيح البخاري، دار ابن كثير ، دمشق ، بيروت، ط1، 1423 – 2002، ك الأدب، باب رحمة الناس والبهائم ، رقم (5665).
  3. محمد الدراجي، الشيخ عبد الحميد السلفية والتجديد، دار الهدى للطباعة، الجزائر, 2012م، ص 123 – 137 – 142.
  4. عبد الحميد بن باديس، تفسير ابن باديس (مجالس التذكير في كلام الحكيم الخبير)، دار الرشيد، الجزائر، ص 54.
  5. د. عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره، الشركة الجزائرية للنشر، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1417ه – 1997م، (2 / 103).
  6. مجلة الشهاب ج 1 مجلد 5 سنة 1929م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى