مقالات

الإلحاد حين يحكم

محمد صبرا

كاتب سوري.
عرض مقالات الكاتب

يرى مؤسس الدولة المدنية العلمانية جون لوك وصاحب العقد الاجتماعي أن الملحد خائن، ولا عهد له ولا مكان له في الدولة العلمانية يقول: (لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله (يقصد كمواطنين في الدولة المدنية).. فالوعد والعهد والقَسم من حيث هي روابط المجتمع البشري، ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد، فإنكار الله حتى لو كان بالفِكر فقط يُفكك جميع الأشياء). المصدر: رسالة في التسامح جون لوك ص57.

فلا يوجد رادعٌ يردعه ولا شيء مُقدس في حياته، ولذا أكبر مجرمي البشرية كانوا من الملاحدة ” ماو تسي تونج – ستالين – لينين – بول بوت – هتلر” ويصنف هؤلاء بأكبر المجرمين في تاريخ الجنس البشري!!

ولذا في عام 1987 سأل صحفي الرئيس بوش الأب ” هل يمكن اعتبار الملحد الأمريكي متساويا في الجنسية والمواطنة مع غيره من الأمريكان ” وأصبح رد بوش مشهورا ” لا أعرف إذا كان من الممكن اعتبار أن الملحدين مواطنين، أو حتى اعتبارهم محبين للوطن هذه أمة موحدة تحت راية الله “.

إذن الملحد غير مقبول لأنه بلا خلق – فلا يمكن التدليل مادياً أو جينياً على الأخلاق– لذا فهو منافق وانتهازي كما يقول مؤسس الدولة المدنية جون لوك، فالإلحاد طوفان فاجر في أزمان الكفر، وأرضه ونهايته الحتمية هي تقويض أركان النظام الأخلاقي وانهيار الأمم، ولذا ما زال الملحد في أمريكا هو أكثر فئات المجتمع تعرضاً للاضطهاد والكراهية، ويفوق في ذلك المسلم المتطرف والشاذ جنسياً، لأنه أكثر فئات المجتمع انعداماً للأخلاق وإثارة للفتن وتقويضاً لأركان النظام! وطبقاً للواشنطن بوست في بحث آخر فإن الملحد شخص لا يحظى بالثقة ولا القبول، لأنه شخص حاقد، نزق الأخلاق وفاسد!

فأكثر دول العالم علمانية وتقانة تنظر للملاحدة أنهم حثالة، إن الإلحـاد هو المذهب الوحيد على وجه الأرض الذي يتيح لأتباعه أن يفعلوا كل شيء وهم في حِل من كل شيء، لا يوجد مذهب على وجه الأرض يقول لك افعل كل الفواحش فأنت في حِل من كل شيء إلا الملحد والشيطان. إن الإلحـاد هو دين الشيطـان تم التـأسيس له كمذهب عقلي.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه الرائع رحلتي الفكرية ص 198 ما يلي ” كنت أجلس مرة أمام التليفزيون البريطاني، وشاهدت برنامجًا من برامج الأحاديث وكان يجلس على المنصة رجل وزوجته وأطفالهما، مع إضافة بسيطة للغاية وهي عشيق الرجل الذي يعيش معهم تحت سقف نفس المنزل ولكن بموافقة الزوجة والاطفال، وقد واجه الجمهور إشكالية حقيقية وهي أن جميع أعضاء الاسرة موافقون على هذا الوضع الشاذ، فمن ناحية الموافقة وهي الشرط الأساسي والوحيد لأي علاقة جنسية في العالم الغربي فهي موافقة جنسية تتم باتفاق طرفين ولذا فهي شرعية، لا شأن للمجتمع بها، ولكن من ناحية أُخرى يوجد الشذوذ الذي يسم هذا الوضع، ولكن لا توجد قاعدة متجاوزة ” دينية أو اخلاقية ” يؤمن بها الجميع، ويمكن الوقوف عليها والإهابة بها ويمكن أن تزودهم بمعيارية ما، وكلما كان أحد الحاضرين يحتج على شيء كان الزوج الذي أحضر عشيقه ليعيش معه يرد بكل ثقة بأن زوجته موافقة وسعيدة وأن أولاده أيضًا موافقون وسعداء وأي تدخل في شئونهم سيكون إهدارا لحريتهم وحقهم في الاختيار”.

لهذا قال روجيه جارودي: ” فإن الحضارة الغربية قد خلقت قبرًا يكفي لدفن العالم “، وقال نتشه على لسان زرادشت عن الإنسان الذي أفرزه النموذج الغربي: ” واقعيون نحن بغير إيمان ولا خرافة فابسطوا صدوركم لكن وأسفاه إنها صدور خاوية “، واختصر رئيس التشيك فاكيلاف هافل كل ذلك في عبارته الرائعة حين قال: ” حينما أعلنت العلمانية الإنسانية أنها حاكم العالم الأعلى، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بُعده الإنساني.”

لقد حاول الإلحاد إقامة جنّته المزعومة على الأرض ثم انتهت إلى إقامة أضخم جحيم في تاريخ البشرية، فلقد مات في حملات التطهير الفكري الستالينية الملحدة من عام (1936-39) من 8-10 مليون نسمة … وقتل ستالين الملحد الأكثر إجراما في التاريخ من الشيوعيين البارزين أكثر مما قتلت البرجوازية والرأسمالية على امتداد العالم كله!! وكان الاسم الرسمي للرقابة الحكومية السوفيتية على الأعمال الأدبية والفكرية وكل الأشياء المطبوعة هو هيئة حماية الأسرار الحكومية في الطباعة.!! وكانت طباعة واستيراد الإنجيل ممنوعة في الاتحاد السوفيتي حتى عام 1988.

ويرى ألكسندر سولجنستين الأديب الروسي الحائز على نوبل أن الإرهاب السوفيتي لم يبدأ مع ستالين وإنما مع لينين صاحب عقيدة الكولاج وبموجب شهادة سولجنستين فإن 55 مليون سوفيتي اختفوا أثناء الحكم البلشفي.

ويقول سولجنستين في كتاب (أرخبيل الكولاج) عندما يقف الرفيق ستالين في مؤتمر الحزب يقف الجميع ويبدأ موجة من التصفيق الحاد دقائق طويلة في مرحلة جنون لا يطاق ويظل التصفيق مستمرا بينما يقف رجال المخابرات في كل مكان وهم متنبهون جيدا إلى من سيتوقف أولا ويستمر التصفيق ما يزيد على عشر دقائق متواصلة.. من أين للأجداد هذا الهوس الجماعي الذي لا يوصف ولا يقاوم.”

أنشئ عام 1925 في الاتحاد السوفيتي اتحاد الملحدين المقاتلين وصدرت صحيفة الملحد المقاتل في نفس الوقت تقريبا … واعتبر لينين الدعاية المعادية للشيوعية الإلحادية هي واحدة من أصل ست جرائم جنائية، وتعاقب بالإعدام طبقا للقانون الجنائي الذي قدمه لينين عام 1922 والخلاصة: إنّ الداروينية شرط للستالينية، واختلاف التصفيات البشرية وتطورها لا يمكن إلا في عالم ليس فيه إله وليس بالطبع فيه إنسان ….. إنّه الإلحاد حين تكون له دولة.

فبعيدا عن الملاحدة العرب الناعسين نتحدث عن الإلحاد حين تكون له دولة ورابطة عسكرية، تم تأسيس رابطة الملحدين العسكرية رسميا في الاتحاد السوفيتي، واستمرت في عملها في الفترة من 1925- بعد تأسيس دولة إلحاد ب 8 سنوات فقط – إلى الفترة 1947، كانت تضم قرابة 6 مليون عضو!

قامت رسميا بقتل وذبح وتعذيب أصحاب الأديان فيما لا يمكن حصره وتفجير ونسف أماكن العبادة بما لا يحصى… قامت بطباعة المنشورات والكتب والدوريات لنشر الإلحاد بين البسطاء في الأمة السوفيتية.

وانتقلت في الثلاثينيات من القرن الفائت إلى مدن أسيا الوسطى حيث المسلمين فأعملت فيهم القتل والتشريد والنفي إلى معسرات العمل في سيبيريا فالبشر عندهم كائنات كالحيوانات متطورة بيولوجيا، كانت الفكرة الرئيسية محاربة الدين.. قتل المتدينين.. نشر الإلحاد.. هدم كل صور الحياة الروحية في البلد، قامت الرابطة بهدم 42 ألف مؤسسة دينية ومسجد وكنيسة عبر دول الاتحاد السوفيتي في الفترة من 1930 إلى 1941 حسب الوثائق الرسمية.

قامت الرابطة بقتل مائة أسقف وآلف الرهبان وعشرات الألاف من رجال الدين الأرثوذكسي، وكانت الرابطة تدفع الحكومة السوفيتية دفعا إلى مزيد من البطش بأصحاب الديانات، وقامت الرابطة بطباعة الدوريات بانتظام لنقد الدين والهجوم عليه وذبح من ينتقد الإلحاد، وصل عدد الدوريات الخاصة بالرابطة في العام 1940 إلى 45 ألف دورية تدعو إلى الإلحاد وتنفّر الناس من الدين وإعدام من ينتقد الفكر الإلحادي.

إنه الإلحاد حين تقوم له دولة.. إنه الإلحاد حين ينتقل من التنظير الفارغ إلى التطبيق الواقعي.. إنه الإلحاد بصورته الحقيقية الفجة الوقحة تلك الصورة التي لا يطيقها عاقل ويتأذى منها حتى الفاجر …!!

لا تكاد تخلو بؤرة إلحادية على وجه الأرض من مفهوم عبادة الفرد وتعظيمه ففي الحقبة السوفيتية انتشرت هذه الظاهرة انتشارا واسعا بين أعضاء الحزب الشيوعي الملحد الحاكم وأصبح الملحد (جوزيف ستالين) بين أنصاره ومؤيديه من الملحدين شخصا معصوما من الخطأ وفوق مستوى البشر حقيقة، وكان يوصف رسميا في تلك الحقبة على أنه كلي القدرة وكلي العلم (all powerful , all knowing)، وبدءا من عام 1936 اعتبرت الصحافة السوفيتية الرسمية جوزيف ستالين أبو الأمم the Father of Nations))، وبدأت تعزف الترانيم لحب جوزيف ستالين في كل مكان.

وبينما كانت المنازل في عهد روسيا القيصرية تخصص غرفة أو أكثر للأيقونات، وصور العذراء والشموع والصلوات فقد خصصت المنازل في عهد روسيا الملحدة غرفة تسمى غرفة ستالين تعلق فيها صور القائد جوزيف ستالين ويتم التقرب له فيها وتقديسه حقيقة لا مجازا، وظل تقديس ستالين أحد الأعراف الرسمية في الاتحاد السوفيتي الملحد إلى أن جداء عام 1956 وفي خطاب خروتشوف الشهير في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي بعد وفاة ستالين بثلاث سنوات أعلن خروتشوف غضبه الشديد من عبادة ستالين قائل : ” لا يجوز تقديس ستالين ولا عبادته لأنّ هذا يخالف روح الماركسية اللينينية ويجعل من الشخص شبيها بالله”.

كان الخطاب بمثابة صدمة كبرى للأمة الملحدة التي كانت تعبد ستالين رسميا منذ عقود وأقدم الشباب على الانتحار وتعرض الكثيرون لنوبات قلبية قاتلة وحدثت مظاهرات في كل مكان بالاتحاد السوفيتي واعتبروا أنّ مراجعات خروتشوف خيانة كبرى، وكانت مراجعات خروتشوف سببا مباشرا في انفصال الصين عن الاتحاد السوفيتي، واعتبرت الصين تحت قيادة الملحد ماو تسي تونج أنّ خروتشوف بهذه المراجعات يأخذ الاتحاد السوفيتي بعيدا عن الإلحاد البلشفي.

لقد فهمت الصين وفهمت جماهير الاتحاد السوفيتي حقيقة الإنسان وفهموا أنه يستحيل أن يحيا الإنسان بدون تقديس لذات وبما أنهم فقدوا الإله فحتما سينزلون القداسة على آلهة صغرى (كقادة الإلحاد) إنه وخز الفطرة الذي لا يتوقف وخز البحث عن المقدس الغائب والذي لابد أن يكون موجودا في حياة الإنسان.

وإذا جال المرء بنظره في أرجاء المعمورة هذه الأيام فلن يجد بقعة إلحادية خالية من عبادة الفرد ففي كوريا الشمالية والتي تصنف رسميا أنها الدولة الوحيدة الملحدة على وجه الأرض نجد وعلى وجه التقريب أن معظم الفنون والنحت والموسيقى والآداب مكرسة لتقديس الملحد (كيم إيل سونج) مؤسس كوريا الشمالية الملحدة عام 1953، وفي كوريا تتم رسميا عبادة كيم إيل سونج وكل المعالم الثرية في البلد مكرسة للقائد العظيم ويتصدق الناس في كوريا الشمالية مرتين في العام مرة في عيد ميلاد كيم إيل سونج والثانية في ذكرى وفاته.

بل تصف السلطات الكورية الشمالية [كيم إيل سونج] أنه إله GOG وأن كيم جونج ايل ابن الاله SON OF GOD وتزعم المؤسسة الرسمية في كوريا الشمالية أن كيم جونج إيل الابن والذي توفي في العام 2011 أنه استطاع أن يتكلم ويمشي قبل أن يكمل شهره السادس، ويتم الحديث في كوريا الشمالية عن الزعيم المقدس والرئيس الأبدي وكيم إيل سونج الخالق.

وقد بث التليفزيون الحكومي الكوري الشمالي سجود الجماهير الملحدة لتمثال من البرونز لكيم إيل سونج الملح وبث مشاهد مماثلة في أعقاب وفاة كيم جونغ إيل الرئيس الثاني لكوريا الشمالية وعطلة عيد ميلاد الرئيس الكوري الشمالي هي واحدة من العطلات العامة الأكثر أهمية في البلد.

كان نتيجة إلحاد الدولة أن تتجه الجماهير التي تفتقر إلى القيمة العليا وتبحث عن المغزى الروحي وتعاني وخزا فطريا وتبحث عن الذات الخالقة إلى إسقاط القداسة والعبادة على قادة دول أو عسكريين أشداء أو مفكرين كبار، ولا تكاد تخلو فعليا بؤرة إلحادية من تقديس الفرد أو عبادته.

وهكذا إذا غاب الإيمان امتلأ المكان بالآلهة الصغيرة والوثنيات الغارقة في الجهالة وتصبح عبادة الفرد بمثابة هروب وقتي من الدين إلى بديل آخر أكثر مادية وأيسر استيعابا وأقل تكاليفا، والأهم من ذلك أنه أكثر ربحية ماديا قال الله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا} (مريم: 81)، ونختم بقول الإنكليزية كارين ارمسترونغ في كتابها الأخير: (مسعى البشرية الأزلي الله لماذا):

((أن الإنسان لن يحيا بدون دين فالإنسان ليس حيوانا عاقلا! إنما هو إنسان ديني)).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى