وظريف أيضا نفيه وجود النبى تاريخيا لمجرد أنه كان هناك فى الجاهلية من اسمه محمد. أرأيتم رقاعة كهذه الرقاعة؟ بسيطة، فهناك من أسماؤهم محمد الآن بعشرات الملايين، ومن أسماؤهم محمد عبد الجليل بالملايين، فهل يصح اتخاذ هذا تكأة لإنكار وجودك، وإن كان وجودك لا قيمة له؟ وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان المستشرقون يلحون على أن سيرة النبى محمد من الوضوح بمكان على عكس حياة السيد المسيح عليهما السلام، وكان قرودنا التابعون للفكر الاستشراقى لا يجرؤون على الشك ولو لحظة واحدة فى صحة وجوده التاريخى. أما من يوم أن ظهر فريق من المستشرقين يشكك فى هذه الحقيقة فقد رأينا عددا من قرودنا يرددون هذا الإنكار لوجوده صلى الله عليه وسلم. وهل يستطيع القرد غير هذا؟ لو استطاع ما كان قردا ولا بقى قردا!
ولعل القارئ قد لاحظ أن محمد عبد الجليل لم يجد فى الأساطير ليشبِّه به النبى عليه السلام إلا ليلى والذئب، وبخاصة الذئب لما يرمز إليه من الذكورة والشهوة الغريزية كما ذكر، فضلا عن تأكيده أنه صلى الله عليه وسلم لا يصلح أن يكون قدوة لنا الآن، إن كان هناك شىء اسمه قدوة حسبما يقول. وهو تشبيه وراءه ما وراءه. إنه أسلوب فى الإساءة والتحقير لُقِّنَه على أيدى خبراء غربيين شياطين بحيث يشوه صورة النبى فى نفوس المسلمين مرة فى إثر مرة، ومع التكرار والتراكم يخرج النبى صلى الله عليه وسلم من عقول المسلمين ويصير شخصا عاديا بل شخصا مقيتا كما نَمْقُتُ الذئب، ويرتبط اسم نبينا العظيم بالشهوة الغريزية كما يرتبط بها الذئب طبقا لكلام قردنا الذى يشبه الخراء.
وعودا إلى كلام هذا المضطرب العقل والفكر عن أخطاء الكتاب المجيد وخلوه من أية حقائق علمية نقول إن القرآن، بعكس ما قال، يذكر فى بساطة تامة معلومات علمية صحيحة غاية فى الأهمية والخطورة لم تكن معروفة إلى وقت قريب. فعلى سبيل التمثيل نقرأ فى الآية الثانية عشرة من سورة “فاطر” قوله تعالى: “وما يستوى البحران: هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابُه، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ. ومِنْ كُلٍّ تأكلون لحما طريا وتستخرجون حِلْيَةً تلبَسونها…”، وهو ما فهمه المفسرون القدامى على غير وجهه، إذ حسبوا أن فى الآية استعمالا مجازيا قُصِد به التغليب على أساس أن الحلىّ إنما تستخرَج من البحر الملح وحده، لكن التعبير القرآنى غلَّب البحرَ الملح على البحر العذب وألحق هذا بذاك وأعطاه حكمه، مع أن تركيب الكلام فى الآية لا يسمح بهذا، إذ يقول: “ومِنْ كُلٍّ… تستخرجون حِلْيَةً تلبَسونها”، ولم يقل مثلا: “ومنهما تستخرجون حلية…”. فـ”مِنْ كُلٍّ” إنما تعنى أن الحلية كما تستخرج من البحر الملح فكذلك تستخرج من البحر الحلو. أى أنها موجودة فى الأنهار مثلما هى موجودة فى البحار.
وهناك أيضا قوله عز شأنه فى سورة “النحل” عن النحل والعسل: “يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانُه…”، الذى قال عنه علماء المسلمين القدامى إن النحل إنما ينقل العسل من الأزهار بفمه إلى خلاياه، ولا يخرج شىء من بطونه لأنه لا شىء يدخل بطنه أصلا حتى يخرج منها، وإنما الكلام على المجاز باعتبار أن ما كان خارجا من الفم فهو خارج من جهة البطن ما دام الفم والبطن فى ناحية واحدة من الجسم. نجد ذلك فى كتاب الشريف المرتضى: “تلخيص البيان فى مجازات القرآن”. والحق أن العسل إنما يخرج من بطون النحل بعد أن ترتشف رحيق الأزهار ويتحول فى بطونها إلى عسل تمجه بعد ذلك من فمها.
ولقد كنت وأنا شاب صغير، كلما قرأت ما جاء فى سورة “الفجر” عن
“إِرَم ذاتِ العماد * التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد”، أَمُرّ عليها وفى نفسى حيرة، لأنى لا أستطيع أن أتصور ما يقوله القرآن عنها وعن عمادها التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد، وأتساءل بينى وبين نفسى: كيف لم يُخْلَق أعمدة مثل أعمدة عادٍ فى البلاد؟ وبأية وسيلة استطاعت قبيلة عربية تعيش فى قلب الصحراء قبل الإسلام بقرون أن يكون لها عِمَاد ليس لها نظير فى البلاد؟ وظل الأمر يرهق عقلى عسرا إلى أن سمعت منذ بضعة عقود فى إحدى الحلقات التلفازية عن الإعجاز فى القرآن الكريم التى كان يقدمها د. زغلول النجار أن هناك كشوفا أثرية تَمَّتْ عن طريق التقاط صور من الفضاء الخارجى من قِبَل علماءَ أمريكانٍ لأبنية تحت الأرض فى الربع الخالى من الجزيرة العربية ذات أعمدة هائلة الضخامة والطول، فارتاح فضولى، لكنى أردت أن أحصل على اسم المجلة الأجنبية التى أوردت هذا الخبر. وظللت أتتبع الموضوع حتى قرأت الفقرات التالية من مقال كبير للدكتور زغلول عنوانه: “الكشف الحديث عن إرم ذات العماد” بجريدة “الأهرام” المصرية بتاريخ 7/ 10/ 2002م:
* فى سنة 1984م زُوِّد احد مكوكات الفضاء بجهاز رادار له القدرة على اختراق التربة الجافة الى عمق عدة أمتار يعرف باسم جهاز رادار اختراق سطح الأرض (Ground Penetrating Radar Or GPR) فكشف عن العديد من المجارى المائية الجافة مدفونة تحت رمال الحزام الصحراوى الممتد من موريتانيا غربا الى أواسط آسيا شرقا. وبمجرد نشر نتائج تحليل الصور المأخوذة بواسطة هذا الجهاز تقدم أحد هواة دراسة الآثار الأمريكان، واسمه نيكولاس كلاب Nicholas Clapp، إلى مؤسسة بحوث الفضاء الأمريكية المعروفة باسم “ناسا: NASA” بطلب للصور التى أُخِذَتْ بتلك الواسطة لجنوب الجزيرة العربية، وبدراستها اتضح وجود آثار مدقات للطرق القديمة المؤدية الى عدد من أبنية مدفونة تحت الرمال السافية التى تملأ حوض الربع الخالى، وعدد من أودية الأنهار القديمة والبحيرات الجافة التى يزيد قطر بعضها عن عدة كيلو مترات. وقد احتار الدارسون فى معرفة حقيقة تلك الآثار، فلجأوا الى الكتابات القديمة الموجودة فى إحدى المكتبات المتخصصة فى ولاية كاليفورنيا، وتعرف باسم “مكتبة هنتنجتون: Huntington Library “، وإلى عدد من المتخصصين فى تاريخ شبه الجزيرة العربية القديم، وفى مقدمتهم الأمريكى جوريس زارينز Zarins Juris والبريطانى رانولف فينيس Ranulph Fiennes. وبعد دراسة مستفيضة أجمعوا على أنها هى آثار عاصمة ملك عاد التى ذكر القرآن الكريم أن اسمها “إِرَم” كما جاء فى سورة “ الفجر “، والتى قُدِّر عمرها بالفترة من 3000 ق. م. إلى أن نزل بها عقاب ربها فطمرتها عاصفة رملية غير عادية. وعلى الفور قام معمل الدفع النفاث بكاليفورنيا “معهد كاليفورنيا للتقنية: The Jet Propulsion Laboratories California Institute of Technology, J. P. L” بإعداد تقرير مطول يضم نتائج الدراسة، ويدعو رجال الأعمال والحكومات العربية الى التبرع بسخاء للكشف عن تلك الآثار التى تملأ فراغا فى تاريخ البشرية، وكان عنوان التقرير هو: “البعثة عبر الجزيرة: The Trans – Arabia Expedition “، وتحت العنوان مباشرة جاءت الآيتان الكريمتان رقما 7- 8 من سورة “الفجر”، وقد أُرْسِل لى التقرير لدراسته. وقد قمت بذلك فعلا وقدمت رأيى فيه كتابة الى المسئولين بالمملكة العربية السعودية. وقد ذكر التقرير أن اثنين من العلماء القدامى قد سبق لهما زيارة مملكة عاد فى أواخر حكمها، وكانت المنطقة لا تزال عامرة بحضارة زاهرة، والأنهار فيها متدفقة بالماء، والبحيرات زاخرة بالحياة، والأرض مكسوة بالخضرة، وقوم عاد مستكبرون فى الأرض، ويشكلون الحضارة السائدة فيها، وذلك قبل أن يهلكهم الله تعالى مباشرة. وكان أحد هؤلاء هو بلينى الكبير من علماء الحضارة الرومانية، والذى عاش فى الفترة من23م إلى 79م، والآخر كان هو الفلكى والجغرافى بطليموس الإسكندرى، الذى كان أمينا لمكتبة الإسكندرية، وعاش فى الفترة من100م إلي170م تقريبا، وقام برسم خريطة للمنطقة بأنهارها المتدفقة وطرقاتها المتشعبة، والتى تلتقى حول منطقة واسعة سماها باسم “سوق عمان”. ووصف بلينى الكبير حضارة عاد الأولى بأنها لم يكن يدانيها فى زمانها حضارة أخرى على وجه الأرض، وذلك فى ثرائها ووفرة خيراتها وقوتها حيث كانت على مفترق طرق التجارة بين كل من الصين والهند من جهة، وبلاد الشام وأوروبا من جهة أخرى، والتى كانت تصدر إليها البَخُور والعُطُور والأخشاب والفواكه المجففة والذهب والحرير وغيرها. وقد علق كثير من المتأخرين على كتابات كل من بلينى الكبير وبطليموس الإسكندرى بأنها ضرب من الخرافات والأساطير، كما يتشكك فيها بعض مدعى العلم فى زماننا ممن لم يستطيعوا تصور الربع الخالى، وهو من أكثر أجزاء الأرض قحولة وجفافا اليوم، مليئا فى يوم من الأيام بالأنهار والبحيرات والعمران. ولكن صور المكوك الفضائى جاءت مطابقة لخريطة بطليموس الإسكندرى، ومؤكدة ما قد كتبه من قبل كل منه ومن بلينى الكبير كما جاء فى تقرير معهد الدفع النفاث”.
كذلك لا ينبغى أن ننسى الإشارات المتكررة فى القرآن الكريم إلى البيوت الفارهة التى كانت ثمود تنحتها من الجبال. وكنت أتصورها مجرد كهوف وغيران يعيشون فيها كما تعيش الوحوش فى مثل تلك المواضع إلى أن رأيت على المشباك (الإنترنت) صورا لقصور رائعة الجمال والتصميم بارعة الهندسة والزخرفة نحتها الثموديون فى واجهات الجبال، فقلت فى نفسى: سبحان الله. وفهمتُ تلك الآيات من يومها الفهم اللائق بها، وعرفت مدى دقة القرآن وابتعاده عن إطلاق القول دون أساس وأن منتقديه ليسوا إلا مجموعة من الأوباش الضالين.
وأمر آخر هو أن الكاتب السطحى الفكر والتفكير ينبئنا أنه سيطبق، على أخطاء القرآن ولغته، النظرية التفكيكية التى أتى بها جاك ديريدا. و”التفكيكية” فى الأدب، كما يقول طارق فايز العجاوى فى مقال له بالعدد 3859 من “الحوار المتمدن” بتاريخ 23 سبتمبر 2012م، “من المذاهب النقدية الجامحة والمتطرفة المعاصرة، وهدفها التشكيك فى أن يكون للنص الادبى معنى ثابت. ولقد أسس هذا المذهب جاك دريدا، الذى حاول أن يبرهن أن هناك عناصر كافية فى النص الادبى تمنع تمركزه او استقراره حول معنى محدد. وبذلك يكون قد تحدى البنيوية المعهودة.
والثابت أن الرأى عند دريدا أن تفسير النص يعرض لما هو مكبوت فيه من احتمالات لامتناهية ومن لعبة المعانى التى تضيع عبر مصادر النص أو ما اصطُلِح على تسميته بـ”التناصية”. على كل الأحوال يرى هذا المذهب أن سيكولوجية الإنسان تعيش تحت رحمة الجزء اللاواعى من شخصيته والذى يصعب ضبطه أو تحديده بشكل دقيق. ومن وجهة أخرى فإن القيم الإنسانية غير ثابتة، وهى عرضة للتغيير حسب الظروف المحيطة بها صغيرها وكبيرها. ومن جهة ثالثة فإن اللغة التى نستخدمها تتطور باستمرار حسب السياق والموقف والنواحى البراغماتية التى تلف النص وتحيط به. وهى اعتباطية كما أكد اللغوى الشهير سوسير، ولا يوجد علاقة حتمية أو منطقية بين المعنى واللفظ. وبناء على ذلك فإن عملية الترميز تتغير لأن اللغة بطبيعتها بلاغية. وهذه المدرسة تذهب إلى أن هناك ذاتية خاصة بين القارىء والكاتب يصعب أيضا تحديدها. وهى من أنصار القراءات المتعددة للنص الواحد”.
ثم يمضى قائلا: “ومن وراء هذه النزعة التفكيكية ليس غريبا باعتقادى تصور مفهوم عبثية الحياة فى كل شىء. وهنا تكمن بعض صور الخطورة. فإذا كانت حياتنا بلا معنى فيصعب تحديد أى هدف ضمنها. وعليه لا يخفى على أحد أن دعاة هذه المدرسة أسسوا مذهبهم كردة فعل ضد البنيويين، الذين يصرون على أن للنص الادبى بنية متراصة ومتكاملة دون الاعتماد على أى عنصر خارجى. وبدورنا نسأل: كيف يتصدى أدبنا العربى لهذه التيارات النقدية الحديثة المستوردة من الحضارة الغربية والتى بلغت حد الترف الفنى بإصرارها على إثارة تساؤلات قد تبدو غريبة علينا وعلى العالم الشرقى بشكل عام؟ والثابت أيها السادة أنه فى أدبنا العربى نوع من الثقة والإيمان بأن الصحيح صحيح، والخطأ خطأ، وأن الدين من عند الله جلت قدرته مصدر القيم الثابتة والمطلقة”.
ومن الواضح أن محمد على عبد الجليل يُجْلِب على قرائه كما تصنع الفرق الموسيقية الشعبية، بضجيجها المزعج للآذان والنفوس جميعا، فى شوارع الأحياء الفقيرة وحاراتها حين يكون هناك عرس، إذ يستخدم مصطلح “التفكيكية” رغم أنه لا يدرك معناه. وهو فى أحسن الأحوال، إذا أحسنا الظن به مخادَعةً لأنفسنا، ربما قصد أنه سيفكك النص القرآنى إلى عناصر صغيرة يتناولها عنصرا عنصرا. وهو إذن يقصد التفكيك بالمعنى العام لا التفكيكية كمصطلح فلسفى ونقدى، وإلا فلم يحاول الوصول إلى معنى فى النص القرآنى يستند إلى المنطق على حين أن التفكيكية ترى أن المعانى اعتباطية وأن كل قارئ يفهم النص بطريقته، فليس هناك معنى للنص إذن هو المعنى الصواب، وما عداه خطأ. إذن فهو رجل فقير الذهن غليظ الفهم، ومع هذا يحاول أن يبدو لنا غنيا فاحش الثراء العلمى. وبالمناسبة فديريدا يهودى الدين، وكان يعانى من الشذوذ الجنسى. ولسوف يُظْهِر الكاتب بعد قليل احتفاءه بسامى الديب النصرانى الفلسطينى المتعصب الفظ البذىء. وبالمثل سوف يرى القراء أنه فى هذا المقال قد تصدى لما لا يملك أدوات التصدى له. إنه حالة بائسة تبعث على الغثيان- إبراهيم عوض).
(فى ما يتعلَّق بالأخطاء الواردة فى القرآن، يقدِّم المسلِمُ المؤدلَج أحكامًا مسبقة لا أساسَ لها من الصحة لا لغويا ولا تاريخيا. ولو أنه قرأَ القرآنَ بحيادية كقراءته لكتاب غير مقدَّس فسوفَ يرى الأخطاءَ بوضوح لأنَّ علاقة القارئ بالنص هى أحد أهم محدِّدات القراءة. ومن بين هذه الأفكار الجاهزة الخاطئة التى يقتنع بها (المسلمون) مِن دُونِ تفكير قولُهم إنَّ “القرآن نزلَ بين قومٍ أَكْفاء، ولو اكتشفوا أخطاءً لما سكتوا عليها” وأنه كان “محفوظًا فى الصدور”… فهُـمْ يتخيَّلون المجتمعَ الذى ظهرَ فيه القرآنُ فى الجزيرة العربية فى القرن السابع الميلادى مجتمعًا ديمقراطيا مثاليا متناسين ما نقلَــتْه المصادرُ التاريخيةُ العربيةُ والإسلاميةُ عن الجدل الكبير الذى أُثيرَ عند جمعِ القرآن (وقد أثار هذه القضية مؤخَّرًا الدكتور محمد عابد الجابرى)، ذلك الجدلِ الذى يشير إلى عدم اتفاق الصحابة على النسخة الذى نشرها عثمانُ. فابنُ مسعود مثلا رفضَ إدراجَ الفاتحة والمعوِّذتين فى القرآن، مما اضطرَّ عثمانُ، من أجل توحيد القرآن، إلى إحراق باقى المصاحف كمصحف ابن مسعود ومصحف ابن عباس ومصحف عائشة، مما جعلَ بعضُ الصحابة، وعلى رأسهم عائشة، يُـكَـفِّرون عثمان ويطالبون بقتله ويرفضون دفنه فى مقابر المسلمين.
كما يتناسون أنَّ عوامَّ العرب آنذاك لم يكونوا أَكْفاءً (جمع: “كُفء”) بل أَكِــفَّاء (جمع: “كفيف”) لا يرون إلا ما تريد السلطةُ الزمنيةُ آنذاكَ أنْ تُرِيَهم إياه وأنَّ عربَ الجزيرة لم يكنْ يهمُّهم لا أخطاءُ القرآن ولا القرآنُ نفسه بل كانت تهمُّهم مصالحهم الاقتصادية ولقمة عيشهم وأنَّ كثيرًا من القبائل ارتدَّت عن الإسلام فورَ وفاة محمد- محمد عبد الجليل).
(يقول المتنطع إن المسلِم المؤدلَج يصدر أحكامًا مسبقة لا أساسَ لها من الصحة لا لغويا ولا تاريخيا، وإنه لو قرأَ القرآنَ بحيادية كقراءته لكتاب غير مقدَّس لرَأَى أخطاءه بوضوح لأنَّ علاقة القارئ بالنص هى أحد أهم محدِّدات القراءة، وإنه من بين هذه الأفكار الجاهزة الخاطئة التى يقتنع بها المسلمون مِن دُونِ تفكير قولُهم إنَّ القرآن نزلَ بين قومٍ أَكْفاء، ولو كانوا قد اكتشفوا أخطاءً لما سكتوا عليها، وإنه كان محفوظًا فى الصدور… هذا ما قاله المتنطع! وبنفس المنطق، وعلى أساس من نفس المبدإ نقول إن الملحد كاره الإسلام والناعق بما يُلْقَى إليه من أفكار وآراء لا يمكنه التفكير بحيادية أبدا. وكيف يمكن أن يفكر بحيادية وتجرد، وهو يعرف أنه لو فعل ذلك لطُرِد طردة الكلاب الجُرْب إلى حيث الزمهرير وصرير الأسنان والضياع والفقر وعدم المقدرة على شراء أم الخبائث؟
ويقول المتنطع أيضا إن المجتمع العربى أوانذاك لم يكن مجتمعا ديمقراطيا بل دكتاتوريا، أى أن الخليفة يتحكم فى كل أمور الرعية، ولا يستطيع أحد أن يخالف عن أمره فى دقيق أو جليل، ليعود فيقول عقب ذلك على الفور إن من المسلمين من اعترضوا أشد الاعتراض على عثمان بسبب جمعه الرعية على مصحف واحد، وكفَّروه ورفضوا دفنه فى مقابر المسلمين. فهل الجو الاستبدادى يسمح بمخالفة الحاكم على هذا النحو المطلق الحرية، فضلا عن تكفيره وتحريض الناس على قتله حتى ليقتلونه فعلا؟ إن لم تكن هذه قمة الديمقراطية، فما الديمقراطية إذن أيها الغبى؟
أما بالنسبة إلى مسألة “المعوذتين” فتعال نحسبها بالعقل: الصحابة جميعا يرون أن المعوذتين قرآن، على حين أن فلانا وفلانا وفلانا وحدهم من الصحابة لا يَرَوْن ذلك، فبأى الرأيين نأخذ؟ من السهل أن نحكم على ثلاثة من بين الأمة كلها بالسهو أو النسيان أو الخطإ، لكن من الصعب جِدّ الصعب أن نتهم بالخطإ الأمة كلها بكبارها وأهل العلم والسياسة فيها. ترى لو كان الجو جو استبداد كما يزعم هذا المُهَلْوِس أكان يجرؤ ثلاثة على تحدى رأى باقى الأمة بما فيهم الخليفة ذاته ومساعدوه وكبار رجال الدولة؟
ثم كيف يزعم الأفاق أن العرب لم تكن تهتم بالقرآن أدنى اهتمام بل كان كل ما يهمهم آنئذ هو مصالحهم الاقتصادية ولقمة عيشهم، وهو نفسه الذى يقول إن المسلمين قد انقسموا فريقين بسبب ما فعله عثمان من جمع المسلمين على مصحف واحد، وإن الأمر قد انتهى جراء ذلك إلى قتل الخليفة ورفض طائفة من الناس دفنه فى مقابر المسلمين؟ أهذا صنيع قوم لا يبالون بالقرآن البتة؟ يا أخا الضلال، ما دمت كذوبا فكن ذكورا حتى لا تفضح نفسك بنفسك! الحق إنك لسخيف بالغ الحمق والسفاهة! لقد حاول الكفار بكل سبيل أن يقللوا من شأن القرآن الكريم، وكانوا يقولون: “لو نشاء لقلنا مثل هذا”، وزعموا أنه ليس شيئا آخر غير أساطير الأولين، واتهموا الرسول بأنه ساحر وكاهن وكذاب ومجنون. فهل هذا موقف ناس لا يهتمون بالقرآن؟ ثم أين كانت الدكتاتورية الإسلامية من القرشيين حين كان النبى لا يزال بمكة، وكان هو الطرف الأضعف الذى ينزل به الأذى والضر وتلاحقه الشتائم والاتهامات وقذائف الأحجار والدعايات المزعجة؟ كذلك أين كانت الدكتاتورية الإسلامية من القرشيين بعد هجرته صلى الله عليه وسلم وحوارييه إلى يثرب؟ إنهم فى الحالتين لم يكونوا يخضعون لسلطانه، بل هم الذين ألجأوه إلى مغادرة بلده وترك الجمل لهم بما حمل. أى أنه لم يكن هناك شىء يجعلهم يخشونه ويمنعهم من انتقاد أخطاء القرآن “لو” كانت به أخطاء. ومع هذا لم يحدث أن خطأوه البتة.
وإذا كان الكاتب التافه يعيب العرب حينذاك بأنهم لم يكونوا ذوى ثقافة واسعة فالرد هو أن الثقافة الواسعة شىء، والمقدرة اللغوية على إدراك ما فى القرآن من أخطاء أسلوبية شىء آخر. ذلك أنهم كانوا يعرفون لغتهم معرفة واسعة عميقة، وفيهم الشعراء والخطباء والكهان والسياسيون، فكيف وسعهم أن يسكتوا على أخطاء القرآن اللغوية لو كانت فيه أخطاء لغوية حسبما يزعم هذا الأفاك؟ وإذا كان العرب المشركون قد وسعهم الصمت رغم ذلك كله، وهو أمر غير متصور بل مستحيل، فكيف وسع الصمت اليهود والنصارى، وقد كان بين كل من الفريقين وبين الرسول خلافات وخصومات من شأنها أن تدفعهم دفعا إلى العمل على تخطئته وتخطئه الكتاب الذى أتى به قائلا إنه وحى من عند رب العالمين؟

بوركت جهودكم الدكتور الفاضل واشكرك على اقتباس شئ من دراستي التفكيكية ومتم سندا للفكر والثقافة
المفكر طارق فايز العجاوي
كل الاجلال والتقدير الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض
طرحكم وارف موفق
عرفاني