صحافة

اللهجات في سورية ورأس المال الرمزي

لدراسات التي تتناول اللهجات في سورية نادرة، وسبب ذلك هيمنة توجه لغوي محافظ، يرفض الخوض في دراسة الظاهرة، انطلاقًا من عدم الرغبة في تكريسها؛ لأنها برأي اللغويين (النحاة في حالة بلادنا) انحراف عن المعيار الأصلي الذي تمثله اللغة الأم التي تسعى السياسة المعلنة للمحافظة عليها وحمايتها، ولا سيّما في بلد نشأ على أساس من فكرة العروبة التي واجهت فكرة التتريك. هذا ما يفسر إلى حد بعيد بقاء ساحة الدرس اللغوي في سورية بمنأى عن تأثيرات المدارس اللسانية الحديثة، التي أخذت على عاتقها النزول إلى عالم الحياة في الشارع، وهجرة الأبراج العاجية التي يتحصن بها النحاة واللغويون التقليديون.

لا يعنينا ههنا هذا النوع من الدرس، غير أن الإشارة إليه تبدو واجبة لا لبيان ضعف الاهتمام بدراسة اللهجات عامة فحسب؛ وإنما للإشارة كذلك إلى ضحالة الدراسات التي تتبع هذا النوع من البحث، والمقصود بها تحليل المضمون الرمزي لظاهرة كاللهجة، والكشف عن الأبعاد الكامنة والمسكوت عنها فيها، أي بوصفها جزءًا من رأس المال الرمزي الذي يحوزه الإنسان.

يعود مصطلح رأس المال الرمزي، كما هو معروف، إلى الفيلسوف الفرنسي بورديو، والمقصود به تلك السمات والخصائص التي يمتلكها الفرد، ويدركها أفراد المجتمع ويقوّمونها. رأس المال الرمزي هو شبيه بأي ملكية اقتصادية عينية (متجر، بيت، سيارة… إلخ). ومن يمتلك رأس المال الرمزي يصبح موضع احترام وتقدير، والعكس صحيح.

مثّلت رؤية بورديو تطورًا في الفكر الماركسي، ولا سيّما في دراسة المجتمعات الشرقية، حيث يحظى رأس المال الرمزي بتقدير مميز في العلاقات الاجتماعية، يتجاوز دوره في الحياة اليومية العوامل الاقتصادية نفسها أحيانًا كثيرة.

بناء على ذلك، فإن دراسة اللهجة، بوصفها جزءًا من الحقول والمجالات التي توظف فيها السلطة المنظومات الرمزية لتعزيز حضورها الدكتاتوري، هي محاولة للإمساك بالآليات السلطوية وإماطة اللثام عنها، وإخراجها إلى دائرة الضوء، لفضح أدوات القمع الرمزي، وكشفها أمام الجمهور.

في حالات كثيرة، تكف اللهجة عن كونها أداة تواصل تميز منطقة ما، لأنها في المنظومة الاستبدادية تتحول إلى أداة هيمنة ورأس مال رمزي، تستثمره المنظومة القمعية، ليقوم بوظيفة سياسية تعزز هيمنة الطبقة الحاكمة. ولعل الحالة السورية حالة مثالية لمثل هذا التطبيق، ففئة السلطة ليست هي الطبقة التي تمتلك أدوات الإنتاج، ولكنها فئة تمتاز بروابط عصبوية، تشكل اللهجة جزءًا من خصائصها المميزة.

اللهجة -وفق هذا المنظور- تحدد طريقة النظر إليك أولًا، وأسلوب التعامل معك ثانيًا، فهي تشبه رصيد التاجر المصرفي، فكلما ارتفع رصيده، أصبح بإمكانه التوسع في الأعمال التجارية. وهي كذلك تمحو الفوارق بين الغني والفقير، المثقف والعامي.. بمعنى أن “الأنا” الفردية تغيب لصالح غلبة “الأنا” الجمعية. رأس المال هذا لا يمكن صرفه إلا من خلال سوق، يتقبل آلية العمل، وهذا السوق اللغوي له قوانينه التي يستمدها من الفضاء السياسي العام. فالأمر مشابه لآلية السوق التجاري، بما فيه من علاقات احتكار وقوى متصارعة، لا تتساوى فيها القوى الداخلة في المنافسة.

في المجتمعات ذات الأنظمة الرأسمالية، تبدو اللهجة تعبيرًا عن وضع اجتماعي، وطبقة اجتماعية، فهي ذات إشارة إلى التراتب الاجتماعي؛ لأن كل طبقة اجتماعية لها لهجتها الخاصة، بناء على منطقة سكنها الخاصة. فلهجة الشخص تنبئنا أهو مؤهل للنطق باسم السلطة أم لا. ولكن الأمر مختلف في الأنظمة التي ما تزال تقوم على عصبويات مناطقية، أو دينية، أو قومية.

في قائمة اللهجات السورية، تحتل اللهجة الساحلية المركز الأول في عالم السلطة، إنها لغة فروع الأمن والجيش، الأداة الصلبة في يد النظام، وهي لغة أغلب العاملين في حقل الإعلام الرسمي. لا يعني هذا أن اللهجة الساحلية حكر على الطائفة العلوية وحدها، لا، فهي رأس مال رمزي لكل من يعيش في تلك المنطقة، وإن لم يكن علويًا، مع أن احتمال إتقانها من قبل شخص ينتمي إلى مذهب آخر احتمالٌ بعيد جدًا، غير أن الحدود بين لهجات المناطق المتفرقة في الساحل ستغيب بكل تأكيد عن ابن دير الزور، الذي سينظر إلى حاملي تلك اللهجة جميعهم على أنهم “ممثلو سلطة”.

هكذا تحولت اللهجة الساحلية إلى جزء من الأيديولوجيا المهيمنة، فهي من ناحية تجمع بين كل أفراد الجماعة الحاكمة، ومن ناحية ثانية تميز هؤلاء الأفراد عن سائر المجتمع، بحيث تعزلهم عن بقية المواطنين، لتخلق منهم كتلة “متجانسة لهجيًا”.

غير أن معضلة اللهجة “الساحلية” أنها ليست لهجة حضارة وتمدن ورقي، ولكنها لهجة سلطة وبداوة، بالمعنى الخلدوني، والبداوة كما يقول صاحب المقدمة تسعى إلى التمدن. ولذلك فإن استعمالها يفقد أهميته في موضعين: في عالم البرجوازية الدمشقية التي تنظر بدونية إلى حامل تلك اللهجة، لأنه في نظرها ينتمي إلى فئات اجتماعية ذات منشأ ريفي متواضع، وخلفية مذهبية منبوذة، وكذلك تفقد أهميتها في محيطها الاجتماعي المتماثل لهجيًا، الساعي إلى التمدن بحسب ابن خلدون، فامتياز “العلوي” لهجيًا في بيئته لا يتأتى من استعمال اللهجة الساحلية، ولكن من استعمال اللهجة الدمشقية التي تُعدّ مقياسًا للرقي الحضاري في مخياله الجمعي.

ليست اللهجة الحلبية لهجة محببة في الفضاء العام في سورية، فهي من الناحية الصوتية تمتاز بالقسوة، كذلك فإن خصائصها الصوتية تجعل من السهولة بمكان تمييز الشخص الناطق بها، على خلاف لهجات أخرى تتقارب في نطق الحروف. لكن ميزة حامل اللهجة الحلبية النظر إليه على أنه شخص ثري. هذا تصور نمطي في الحياة الاجتماعية السورية، يجري من خلاله تقييم الأفراد استنادًا إلى التصورات المسبقة عنهم.

بالقياس إلى اللهجات الأخرى، لا يمكن القول هنا إن الفرق كبير بين اللهجة الدمشقية والحموية، فكلتاهما تميلان إلى النعومة في الكلام، ومده، ولعلهما اللهجتان الأكثر ألفة بين اللهجات الأخرى في سورية. إنهما لهجتان مدينيتان بكل معنى الكلمة، فليس فيهما قسوة اللهجة الحلبية، ولا خشونة اللهجة البدوية، ولا السطوة التي تحملها اللهجة الساحلية، وقد أسهمت الدراما في ترسيخ اللهجة الشامية بوصفها اللهجة الرسمية لسورية.

تأتي اللهجة البدوية في مرتبة متدنية، وهي لهجة سكان أرياف حلب الشرقية والرقة ودير الزور والحسكة ودرعا وجزء كبير من أرياف حماة وحمص وإدلب، أي: المناطق التي ما تزال التقاليد القبلية حاضرة فيها بقوة. هذه لهجة لا يمتاز حاملوها بأنهم أصحاب سلطة كاللهجة الساحلية، ولا بالتفوق البرجوازي الذي توحي به اللهجة الدمشقية، ولا المحفظة المالية التي ترافق حامل اللهجة الحلبية. لكنها تقع في مؤخرة الترتيب، لعدم وجود فئة اجتماعية مؤثرة في تراتبية السلطة، تشكل عامل قوة للناطقين بها.

تحتل اللكنة الكردية ذيل اللهجات بلا منازع، ويعامل حاملوها من منطلق أنهم أشخاص مختلفون عرقيًا، بسبب السياسات الشوفينية لحزب البعث، وثمة اعتقاد بأن فهمهم للعربية ضعيف، تطلق حوله النكات التي تسخر من عجز الكرد عن فهم المراد. غير أن احتكاك الكرد المباشر بأصحاب اللهجة التي تسبقهم في ذيل الترتيب خفف كثيرًا من حدة التمييز اللهجي، إلا إذا اضطر الكردي إلى الانتقال إلى حلب أو دمشق أو غيرها من المدن الأخرى، ففي هذه الحالة سيجد نفسه ضمن نسيج اجتماعي، ينظر إليه نظرة أكثر غرابة ودونية.

في السجون الكبيرة التي تدعى أوطانًا، والتي ما تزال تعيش في أنظمة حكم قروسطية، لا بد من فروق بين لهجة “البدوي المنتصر”، ولهجة “المتحضر المهزوم”. وسيمضي زمن طويل، قبل أن يغيب عن أذهان السوريين الفرق الكبير بين: “هاتوا الهواوي”، و”هاتوا الهويات”.

د.سليمان الطعان- جيرون

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بالقياس إلى اللهجات الأخرى، لا يمكن القول هنا إن الفرق كبير بين اللهجة الدمشقية والحموية، فكلتاهما تميلان إلى النعومة في الكلام، ومده، ولعلهما اللهجتان الأكثر ألفة بين اللهجات الأخرى في سورية. إنهما لهجتان مدينيتان بكل معنى الكلمة، فليس فيهما قسوة اللهجة الحلبية، ولا خشونة اللهجة البدوية، ولا السطوة التي تحملها اللهجة الساحلية، 

    اعتقد ان قياس ااتمدن ليس له علاقه بالتمدن واللهجات فيافا لهجتها تختلف عن دمشق وحماة لكن يافت مدينه قديمه للغايه واريحا لهجتها اقرب للاغوار لكن اريحا اقدم من بابل بالاف السنين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى