مقالات

الإسلاميون وانهيار الربيع العربي

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

منذ سنوات قليلة، مع تراجع الربيع العربي وانهيار الثورة السورية تحديدًا، كثر الهرج والمرج، والشد والمد، والخبط واللبط، والخبص واللبص، والعص والمص. وكل ما يسير في ركاب هذه الثنائيات في مسألة واحدة هي تحميل الإسلاميين مسؤولية انهيار الربيع العربي.

الجميع من دون استثناء بمن فيهم المتأسلمين وأدعياء الإسلام والحاسبين أنفسهم مسلمين لم يجدوا أبدًا سببًا لانهيار الربيع العربي سوى الإسلاميين، وهذا من أعجب عجائب التفكير، بالكاد تجد تفكيرًا ولو أعورًا ينعدم لديه التمييز إلى هذا الحد، ويتهافت مثل هذا التهافت، ويخبط هذا الخبط.

على افتراض وقوع المسؤولية بعضها أو كلها على الإسلاميين في انهيار الربيع العربي أفيعقل أن تلقى أسباب الهزيمة كلها عليهم من دون أدنى تفكير في أيِّ عوامل أُخْرَى موضوعية أو نفسية أو عسكرية أو شيزوفرنية أو غيرها وغيرها من العوامل والأسباب وتلقى مسؤولية الهزيمة على الإسلاميين وحدهم؟

ألا يوجد أيُّ أسباب أُخْرَى؟

هل يعقل ذلكَ؟

لن أتحدث على مفهوم (الإسلاميين) فهذا موضوع يستحقُّ العودة إليه منفصلًا مستقلًا. سأسير مع المفهوم كما هو شائع على عواهنه وما يعانيه من سقام. وسأنطلق من تصريح مسؤول سوري قبل بضعة أيام يختصر المشهد العربي والإسلامي في تحميل الإسلاميين مسؤولية هزيمة الربيع العربي وتبرير محاربة الثورات، قال هذا المسؤول بعدما تنفس النظام السوري الصعداء فيما يبدو إثر القضاء على الثورة فيما يبدو وانتشائه بهذا النصر:

ـ «الآن نستطيع أن نشكر الدول التي أرسلت لنا الإسلاميين، لولا دخولهم إليهم سوريا لما استطعنا أن نقضي على الثورة بذريعة محاربة الإرهاب».

الكلام منقول عن الدكتور فيصل القاسم، ولم أتحقق منه ولكنَّ المعروف أن الدكتور فيصل على تواصل مع مختلف المسؤولين وموثوق فيما ينقله من أخبار وتصريحات من هذا القبيل.

وعلى افتراض عدم وجود مثل هذا المسؤول فإنَّ ذلكَ لا يغير من الحقيقة شيئًا لأنَّ هذا الكلام هو لسان حال الجميع، لا أقول من دون استثناء فلا بُدَّ من الاستثناء، والاستثناء بالحدِّ يعني القليل النادر. تابعوا صفحات التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، والكاتبين على اختلاف مستويات وعيهم وقدراتهم، ووسائل الإعلام الرسمية ذاتها أيضًا، والمفكرون والمحللون. يكاد الجميع يكون منشدًا مكررًا في جوقة واحدة تنشد النشيد ذاته: الإسلاميون سبب خراب الربيع العربي. الإسلاميون أعطوا الفرصة للحكام والسلاطين أن يذبحوا الثورات من الوريد إلى الوريد. الإسلاميون جعلوا الغرب يتعاطف مع الأنظمة في قمع شعوبها. وهلمَّ في هذه العبارات جرًّا من بؤبؤ الأرض إلى آخر المجرة؛ فكرة واحدة وإن تعددت أساليب التعبير وأنواع العبارات.

بطبيعة الحال الداري وغير الداري يلوكون الذرائع ذاتها التي يحاولون بها الدفاع عن أطروحتهم في تحميل الإسلاميين مسؤولية انهيار الربيع العربي. وما لم يتضح دحضه من هذه الذرائع هنا، وهي كلها متهاوية متهافتة أمام أي نقاش جدي، أفردنا لمن شاء لما أراد من الذرائع النقاش. وليس مقصدنا دحض هذه الذرائع وإنما بضرورة المناقشة سيكون بعض ذلكَ.

قبل أيَّ شيءٍ أخرج من رأسك أنك إسلامي أو غير إسلامي، أو أني إسلامي أو غير إسلامي. أخرج من رأسك عقدة إثبات الرأي وفكر في الأمر بموضوعية ومنطقية وأمانة.

أعود إلى المسؤول السوري الذي أوجز لسان حال الجميع في الموقف من الإسلاميين والربيع العربي:

ـ هل حقًّا كانت الثورة السورية ستنتصر لولا دخول الإسلاميين على الخط؟

ـ هل حقًّا كان النظام ينتظر ظهور الإسلاميين للحصول على تفويض دولي وصمت دولي لقمع الثورة؟

هذا من كلِّ النواحي محض هراء من عقل يعاني الاهتراء، لا من ناحية ومن ناحيتين، بل من النواحي كلها؛ التي تخطر بالك والتي لا تخطر.

لا أريد أن أتحدث عن مفاصل ومراحل الثورة السورية فكلها يعرفها القاصي والداني ويعترف بها حَتَّى رجالات النِّظام السُّوري أنفسهم من أشهرها اعتراف الرَّئيس السُّوري ذاته واعتراف فاروق الشرَّع نائب الرَّئيس أيضًا وقول ضابط كبير قبل خمس سنوات من الآن: «كنا نتمنَّى أن نرى سلاحًا واحدًا بَيْنَ أيدي الناس». لا أريد خوض غمار هذه التفاصيل والأدلة فهي كثيرة جدًّا، ولا كيف تعامل النظام مع الثورة وهي من دون سلاح.

لم يكن ظهور (الإسلاميين) هو المسوغ الذي اعتمده النظام لمواجهة الثورة بكل هذا العنف بل بأنواع العنف كلها. لقد لجأ إلى أنواع العنف والترويع كلها منذ الساعات الأولى عندما كان يرفع الجميع شعارات الوحدة الوطنية بأشكالها وألوانها كلها، وكانت في الوقت ذاته ملامح الثورة كلها علمانية محض. بل وأزيدكم في الشعر بيتًا حَتَّى النظام ذاتها في وسائل إعلامه والرئيس في خطاباته لم يشيروا أي إشارة إلى أنَّ الثَّورة إسلاميَّة أو إسلامويَّة أو ما شابه ذلكَ، كان الثوار مدسوسين، عملاء لإسرائيل، جراثيم. ولم ترد كلمة إسلاميين في أي خطاب. حَتَّى عندما استخدم اصطلاح إرهابيين لم يكن يقصد بهم الإسلاميين في البداية.

إذن من محض الهراء الزعم بأنه لولا دخول الإسلاميين على خط الثورة لما حاربها النظام، أو لما انتصر عليها النظام. ليس وجود الإسلاميين هو الذي جعل الثورة تنهزم بحال من الأحوال، راجعوا تفاصيل سيرة الثورة واللصوص والخونة والعملاء والانتهازيين لتدركوا ذلكَ على حقيقته إن كنتم تريدون إدراك الحقيقة.

قد يقول قائل بأن وجود الإسلاميين هو الذي منح الغطاء للنظام. وهذا أيضًا هراء لا أساس له من الصحة. فالغطاء موجود منذ البداية أيضًا وبالطريقة ذاتها وقبل ظهور الإسلاميين. وأزيدكم في الشعر بيتًا أيضًا.

في نيسان 2011م، قبل انتهاء الشهر الأول من الثورة طلبت صحيفة أمريكية من الفنان السوري فارس الحلو تغطية الأحداث فكتب مقالًا عن خروج دوما في ذلكَ الحين وقيام النظام بقتل ثلاثة أشخاص في المظاهرة حينها. في اليوم التالي نشر الصحيفة المقال تحت عنوان: مقتل ثلاثة متمردين إسلاميين في المواجهات مع النظام. علق الفنان فارس الحلو قائلًا والخبر منقول عنه: «حينها أدركت أن العالم سليب بنا وبثورتنا».

هذا وضع الإعلام الأمريكي، وفي الوقت ذاته كانت هذه هي سياسة الدول الأمريكية تجاه الثورة، اعتبرتها إسلاميَّة وإرهاب إسلامي منذ انطلاقتها ولذلك شاهدنا في التسريبات الأخيرة تواصلات بوتين وأوباما السِّرية وتوافقهما منذ بداية الثورة لحماية النظام السوري. ومنذ بدايات تأسيس الجيش الحر كانت شروط الأمريكيين السِّريَّة لتسليح الجيش الحر هي محاربة الإسلاميين ولم يكن ثَمَّة أي تشكيل إسلامي. كان ذلكَ في أوائل عام 2012م، وتذكروا أنَّ الطلب ذاته في تكرر علنًا منذ أواخر عام 2014م وكان في الحالين مقترنًا بعدم السماح لهم بمواجهة النظام. المتابعون يعرفون.

إذن كيف وبأي صيغة كان دخول الإسلاميين على الخط سببًا في هزيمة الثورة السورية أو الربيع العربي؟

بعد هذا الوضوح الشديد غير القابل للشك أو الطعن ستجد الكثيرين بل الأكثرين كل منهم يشد في الذرائع ويمد، ويخبط وإن ما استطاع أن يرفس سيلبط، وبالجدال يعص ويشد ويمص. ليجد مدخلًا في تحميل الإسلاميين المسؤولية بطريقة أو بأخرى. سيقول، وهذه الذريعة كثيرة التكرار، كان الثوار يسيطرون على أكثر من نصف سوريا ولولا دخول الإسلاميين على الخط لانتصرت الثورة.

لا أريد الإطالة في التفاصيل. دعوني أسأل وماذا كان يفعل الثوار عندما سيطروا على ثلثي سوريا قبل ظهور الإسلاميين على الخط؟

حسنًا، وماذا فعلوا بعد ظهور الإسلاميين على الخط؟

الإجابة مؤلمة أكثر من القدرة الاحتمال.

راجعوا تاريخية الأحداث وخرائطها بأمانة ونزاهة وموضوعية وستجدون كيف أن الجميع انشغلوا في أحسن الأحوال ببعضهم وفتتوا بعضهم وشتتوا بعضهم وهزموا بعضهم وعادوا في النهاية إلى حضن الوطن، وأكثر القواد حملوا حقائب الدولارات وفتحوا شركات في الخارج.

أنا لا أقول إن الإسلاميين منزهون ولا معصومون، ولا أقول إنهم بلا أخطاء بل لا أقول إنهم لم يخطئوا. ولكن من العار على العقل وعلى المنطق أن نحملهم مسؤولية هزيمة ربيعنا. هذا بالدرجة الأولى. ومن العار علينا إنسانيًّا وديمقراطيًّا وأخلاقيًّا وسياسيًّا ووطنيًّا أن نعتبرهم من طينة غير طينتنا، وأنهم ليسوا من أبنائنا وأهلنا.

ولا تحدثني على بعض آلاف جاؤوا من هنا أو هناك وتلقي عليهم تبعات كل الانهيار، فالغريب ضعيف مهما بلغ من القوة.

ولا تحدثني عن أنهم مخترقون فإن كانوا مخترقين فالآخرون أكثرهم مخروقون للنخاع.

أنا أدافع عن الإسلاميين ولا أخجل أن أقول إني أدافع عنهم. ولكنَّ الحقيقة التي يجب أن تضعها في ذهنها أني أدافع عن الحق والحقيقة. والحق والحقيقة فوق كل اعتبار عندي. أنا لا أدافع عن أخطاء أحد فردًا أو جماعة مهما كان.

وأنا لا أهاجم غير الإسلاميين وإنما أهاجم الأخطاء أيًّا كان صاحبها. وإذا كنت أدافع عن الإسلاميين فإني لا أدافع عن أي من أخطائهم، بل أهاجمها. الحقُّ أحق أن يتبع.

ومن هذا الباب كان همي هنا الكشف عن حقيقة يفتري عليها الأكثرون ما بَيْنَ قصد وتعمد، وما بَيْنَ بلاهة الاتباع والتقليد، ورعاعية حب الظهور بحشو السطور بما يثار ويثير من غير ما تحقق ولا تدبر ولا تدبير.

لم يكن الإسلاميون أبدًا سبب هزيمة الثورة السورية ولا الربيع العربي بحال من الأحوال، قد يكونون جزءًا من الأسباب ولكنهم الأقل تأثيرًا منها على الإطلاق. فقط في حالة واحدة يمكن القول إنهم السبب الأول والأخير في هزيمة الربيع العربي ومنه الثورة السورية وهو الخوف من وصولهم إلى السلطة ومنعهم من الوصول إلى السلطة. بهذا المعنى فقط يمكن اعتبارهم سبب هزيمة الربيع العربي. وإذ ذاك يجب أن تسأل لماذا لا يريدون ولا تريدون وصول الإسلاميين إلى السلطة!

لقد وصلوا ديمقراطيًّا إلى السلطة في مصر بعد الثورة وكان وصولهم إلى السلطة سببًا في الثورة المضادة. نعم هذا صحيح. ولكنَّ السؤال: ما الفرق بينهم وبين من قبلهم وبينهم وبين من بعدهم؟

ومع وضوح الحقيقة وضوح الشمس في رابعة نهار صاف صيفي: قال إعلامي سيسي قبل يومين على تلفزيون الجزيرة ردًا على سؤال المذيعة التي قالت: خرجتم في مظاهرات ضد مرسي لأن أسطوانة الغاز زادت من خمس جنيهات إلى ست جنيهات، الآن صار ثمنها مئة خمسين جنيهًا. فقال: سيتحمل المواطن ثمنها ولو صار مئتي، وألفي جنيه ولا يتحمَّل عودة الإخوان إلى السلطة.

لا أعرف إن كان هذا الكلام صحيحًا. ولكنَّهُ يختصر الطَّريق كثيرًا. فإذا ما قارنا بَيْنَ سياسيات مرسي وسياسات السيسي على مختلف المجالات والأصعدة الداخلية والخارجية لوجدناه يقول بوضوح:

لا نقبل الإسلاميين

ولو قدموا لنا كل شيءٍ على طبق من ذهب.

ولو كانوا في الذود عنا مثل كرة اللهب.

ولو حولوا أعداءنا بَيْنَ أيدينا إلى لعب.

ونقبل المستبدين

ولو ذبحونا من الوريد إلى الوريد.

ولو منعونا الماء وسقونا الصديد.

ولو استباحوا كرامتنا وأعراضنا.

ولو حولونا إلى عبيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى