مقالات

بيهاش

عصام العطّار

مفكر إسلامي
عرض مقالات الكاتب

ميليشيّاتُ صِرْبِ البوسنة تزحف على (بيهاش) المدينة المسلمة التي أعلنتْها الأمم المتحدة (منطقة آمنة !!) ، وتحاصرُها ، وتقتحمُ بعضَ ضواحيها وأحيائِها ، وتقصفُها بالطائرات والمدافع والصواريخ والقنابل المحرمة

ميليشيات صِرْب البوسنة تزحف على (بيهاش) ويزحف معها الموت والنار والدمار ، والتطهير العِرقي ، والتطهير الديني ، وتعذيبُ الأسرى وإذلالُهم ، وحرقُ القرى والبيوت ، حتى لا يعودَ إليها سكانُها يوماً من الأيام .. وأوروبا والولايات المتحدة والأمم المتحدة يتفرَّجون على الجرائم والمآسي ، وعلى فَزَع (المنطقة الآمنة) ، ساكنين لا مبالين ، عاجزين فيما يدّعون عن إيقاف العدوان والمعتدين ، معلنينَ استسلامَهم للأمر الواقع ، وانتصارَ الصرب وكل ما يُمَثِّلُه الصرب

من الذي يستطيع أن يصدق ذلك ؟!
من الذي يستطيع أن يصدق أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي .. الذين يملكون من القدرات ما يمكِّنهم من مَحْوِ الحياةِ على الكرة الأرضية كُلِّها في لحظات ، ومن السلاح الذكيّ الفعال ما يجعل الضربات العسكرية -لو أرادوا- كالعمليات الجراحية في دِقَّةِ التصويب وتحديد الأهداف ، وبلوغ المقصود ، في نهار أو ليل ، وصيف أو شتاء ، مهما كان الهدف كبيراً أو صغيراً ، ساكنا أو متحركاً ، دونَ أن يتجاوزوا بضرباتِهم ما حَدَّدوه وأرادوه .. مَنِ الذي يستطيع أن يصدق أن هؤلاء كلَّهُم ، بكلِّ إمكاناتِهم ، عاجزون عن رَدْعِ بضعةِ آلاف من الميليشيات الصربية تتحدَّى الشرائع والمواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن ، وترتكب كل هذه الجرائم الرهيبة المُرَوِّعَة ضِدَّ الإنسانيةِ جمعاء ؟!!

إنّ ادِّعاءَ ذلك كذب على الله والناس
إنّ ادعاءَ ذلك سخرية بالعقل البشري
أمّا تصديقُ ذلك فهو إلغاء للعقل البشري من الأساس ، وللسمع والبصر وسائر الحواس

إنه ليس عجزاً ولكنه كما بدا لكثير من الناس لا مبالاة شائنة ، وتواطؤ آثم ، وشراكة مباشرة أو غير مباشرة في هذه الجرائم التي ترتكب هنا أو هناك أو هنالك في البوسنة والهرسك من نحو سنتين ونصف سنة

البوسنة والهرسك دولة ديمقراطية مستقلة يعترف بها المجتمع الدولي ، وعضو في هيئة الأمم المتحدة.
والمجتمع الدولي وهيئة الأمم يُجْمِعون على أن الصرب هم المعتدون ، وهم الخارجون على الشرعية الدولية ، وعلى أنّهم ارتكبوا -وما زالوا يرتكبون- باستمرار أفظعَ جرائم الحرب ، والجرائم ضد الإنسانية ، كما يجمعون على أن المسلمين في البوسنة والهرسك هُمُ المُعْتدَى عليهم وهم الضحايا .. ومع ذلك فالأمم المتحدة والدول الكبرى لا ينتصرون للشرعية الدولية ، ولا للإنسان وحقوق الإنسان .. لا يدافعون عن المسلمين الضحايا ، ولا يمكنونهم من الدفاع عن أنفسهم ؛ بل يمنعون عنهم السلاح وحربُ الإبادةِ مستمرة ، والدمارُ مستمر ، ومعسكراتُ الأسرى الرهيبة ، والتطهيرُ العرقي ، والاغتصابُ ، والجرائمُ كلُّها مستمرة .. والمؤامرةُ تزداد تكشفاً يوماً بعد يوم .. يجبُ أن يُسحقَ المسلمون مادياً ومعنوياً ، وأن يستسلموا لما يريدُه بهم الصرب ، ومن يساندون الصرب علناً أو سراً ، سافرين أو من وراء قناع خدّاع

وإذا كانت الأمم المتحدة لا تحمي الشرعية الدولية ، ولا عضواً من أعضائها يُعتدى عليه ، ولا شعباً بريئاً يبادُ بأبشع الوسائل ، وتغتصبُ أرضُه وحياتُه وكرامتُه تحت سمع العالم كلِّه وبصره .. فلماذا قامتْ هيئةُ الأمم ؟! وما فائدةُ قيامِها وبقائِها ، إن لم تكن قامت ليسودَ في حياةِ الأمم قانونٌ عادل بَدَلَ قانونِ الغاب ، يردَعُ المعتدين ، وينتصف للمظلومين من الظالمين

إنّ الأمم المتحدة ، ومجلسَ أمنِها ، ودولَها الدائمة العضوية على الخصوص ، لا تنهض بالمهمة الجليلة التي أنشئت من أجلها ولا تفي بالتزامِها وعهدِها ، بل لقد تحولتْ أحياناً إلى مجرد أداة بأيدي بعض القوى الكبيرة المهيمنة ، لإضفاء الشرعية على بعضِ مطامعِها ومظالمِها وعدوانِها الصارخ على الإنسان وحقوق الإنسان

إنّ فجيعةَ العالم أليمة بما يقع في البوسنة والهرسك ، وبما آلتْ إليه الأمور فيها ، وإنّ فجيعةَ العالم لأليمة أيضاً في الشعارات الغالية التي عقد عليها كثيراً من الآمال .. ثم رآها تتساقط فارغة زائفة على مِحَكِّ الحقائق والوقائع على امتداد السنين .. ويراها أكثرَ ما يكون فراغاً وزيْفاً على مِحَكِّ (بيهاش) هذه الأيام
الشرعية الدولية
المجتمع الدولي
العدالة ..
حقوق الإنسان
إنّ الدول الكبرى -وهي المهيمنة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى حد كبير- وإنّ الدول المقاربة الأخرى ، لا تَحْفِلُ الشرعية الدولية والعدالة وحقوق الإنسان إلاّ إذا خَدَمَتْ مصالِحَها ، أو لم تتعارض معها ، أمّا إذا تعارضت مع مصالحها فليس هنالك أيُّ احتفال ، بل ليس هنالك أي وازع عن أن تدوسها بالأقدام ، وإن احتفظتْ بها ألفاظاً فارغة ، وشعارات زائفة لخداع الناس

وعلى كل حال فالدول الكبرى كما ظهر ذلك في مأساة البوسنة والهرسك أوضحَ ما يكونُ للعيان ، ليس عندها أقل استعداد أن تقدم من أجل الشرعيّة الدوليّة والإنسان وحقوق الإنسان -حتى لو لم يتعارض ذلك مع مصالحها- أقل التضحيات

أما آن للعرب والمسلمين يا ترى أن يدركوا هذه الحقيقة ؟
أما آن للجنوب البائس أن يدرك هذه الحقيقة ؟
أما آن لأحرار العالم وإنسانييهِ الصادقين أن يدركوا هذه الحقيقة ؟

وذِكْرُ العرب والمسلمين في هذه المناسبة : مناسبة (بيهاش) ، ينكأ في القلب جراحات وجراحات .. لقد بلغوا من الهوان في أنفسهم وعالمهم وعصرهم أنهم لم يستطيعوا -ولا يستطيعون- أن ينقذوا إخوانهم المظلومين .. إخوانهم المستضعفين .. إخوانهم المسلمين .. إخوانهم البشر في البوسنة والهرسك من الذبح ، ونساءهم من الاغتصاب ، وأطفالهم من الشتات ، ومن أن يُتاجَرَ بهم في العالم ، ويباعوا -أحياناً- بيعَ الرقيق ؛ ومع ذلك فكلُّ حاكم من حكام العرب ، على ألسن المنافقين في بلده ، وطُلاّب رِفْدِهِ في بلدان أخرى .. حامي الحمى ، وبطل الأبطال ، وصاحب المقام الرفيع ، والجاه العريض ، والتأثير البليغ في هذا العالم والعصر ، إن لم يكن صاحبَ القول الفصل فيه !!

إنّ كثيراً من زعماء العرب والمسلمين ينتطحون فيما بينهم حتى تَتَكَسَّرَ القرون والرؤوس ، على الأنانيات والأهواء وسفاسف الأمور ، وهم جميعاً ليسوا -أو لم يعودوا- شيئاً في ميزانِ الدنيا ، ولا يلتفتون إلى المخاطر الكبرى ، والواجبات الكبرى ، التي تفرض عليهم فرضاً أن يرتفعوا فوق الأنانيات والأهواء والسفاسف ، إلى مستوى المرحلة التاريخية المصيرية التي نجتازها ، وأن يتجاوزوا الصراعات والخلافات ، ويوحدوا القلوب والصفوف ، على الأهداف المشتركة ، والعمل الإيجابي المثمر ، فدون توحيد القلوب والصفوف على الأهداف والواجبات ، والارتفاع إلى مستوى التحديات .. لا أمل في النجاة .

وبعد فأنا أؤمن بأنَّ الصدق والصراحة طريق التشخيص الصحيح والإصلاح . يجب أن نضع أيديَنا على الجراح مهما كانت آلامُ الجراح ، وأن نلتمسَ لها العلاج بوعي وشجاعة وإخلاص

ويجب أن يكون واضحاً أيضاً :
أننا لسنا ضد الأمم المتحدة فهي ضرورة لا بد منها ، وأننا إنما ننقد واقعها غَيْرةً على فكرتها وصورتها المثلى ، ودورها الصّحيح الذي يجب أن تقوم به دَرْءاً لِشرٍّ أو تحقيقاً لخيرٍ ، لمصلحة البشر كل البشر

وأننا لسنا ضد دول كبرى أو صغرى ، إنما واجبنا أن نكشف حقائق الأمور ، وأن ننكر الهيمنةَ والغطرسةَ والعدوانَ والخداعَ وتزييف القيم ، والتلاعب بالإنسان وحقوق الإنسان سعياً إلى تعاون دولي وإنساني أصدقَ وأقومَ وأفضل

أمّا الحق والعدالة وحقوق الإنسان فهي قضيتُنا كما هي قضية سائر البشر ، ونحن نَمُدُّ أيديَنا إلى سائر المؤمنين بها ، لنرد إليه مضمونها الصحيح ، ونجعلها حقيقة واقعة في عالمنا لا مجرد شعارات ..

ويجب أن نعرف نحن حقائق عالمنا وعصرنا كما هي ، بكل جمالها وقبحها ، وحلوها ومُرِّها ، وخيرها وشرها ، حتى نكون أقدر على التعامل معها ، وأداء رسالتنا فيها .. وحتى تنجلي عن عيوننا وعقولنا وقلوبنا غشاوات الأوهام ، ونوقن عين اليقين ، أنه لا حياة لنا ولا بقاء ولا فلاح ، إلاّ بالاعتماد على أنفسنا ، وامتلاك أسباب الحياة والقوة المعنوية والمادية على كُلِّ صَعيد

كتب هذا المقال ١٩٩٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى