أخبار عاجلة

المكان الوحيد لممارسة السياسة في العالم العربي

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

كلما دق الكوز بالجرة خرج علينا أحد العهرة الفجرة من صيصان الأنظمة وصياصيها ليتقيء على الشعب بالتصريحات والفتاوي التي لا تقل عن القرارات في سطوتها إلا من جهة أنَّها لا يكتب فوقها (قرار)، لأنها لم تصدر عن السلطة التشريعية، ولكنَّهَا تعبر عن رأي هذه السلطة أو النظام الحاكم وتمثل سياسته لأنَّ هؤلاء الصيصان لا يمكن أن يبيضوا ما لم توضع البيضة في أفواههم، ولا تعجب فهم ليسوا دجاجًا ليبيضوا من مؤخراتهم.

الرياضة من الظواهر الاجتماعية الأكثر جماهيرية في الدنيا لأسباب كثيرة ليس هذا موضعها، ومن أكثرها أهميَّةً كرة القدم لأسباب ليس هذا موضعها أيضًا، وما من نشاط رياضي رسميٍّ في أرجاء الدنيا إلا ويجد الناس فيه متنفسًا سياسيًّا أو سببًا أو ميدانًا للتعبير السياسي، والأنظمة العربية وغيرها تستخدم الرياضة للتعبيرات السياسية تبعًا للظرف والوقت والحاجة فيما تجعلها الأنظمة العربية منصة محورية للسياسة لتمرير كل ما تريد من خلالها بطريقة تتناسب مع الظرف والحال والموضوع. ولكن ما إن يكون التعبير السياسي من أي مستوى أو درجة أو نوع نابعًا من الشعب أو ناطقًا بلسان الشعب فاضحًا أو ناقدًا للسلطة أو أحلاف السلطة العلنيين أو السريين مثل إسرائيل وأمريكا تثور ثائرة هذا النظام العربي وتفور، وتغلي أنفاسها لتحسبها وهج التنور، ويخرج صيصان الأنظمة من الجحور ويبدؤون بالتهويل في مخاطر جعل الرياضة منصات سياسية، وعدم جواز استخدام الرياضة منصات سياسية.

ـ ولكنَّ الجمهور يرفع شعارات ضد أعداء الوطن ومحتلي الوطن!

ـ القيادة الحكيمة هي التي تعرف كيف تواجه أعداء الوطن، فلتبق الرياضة بريئة.

صارت براءة الرياضة مقدسة عند الأنظمة.

سبحان الله العظيم، طوال ما مضى من عمر النظام وهو يستغل الرياضة في السياسة وعندما يريد الشعب أن يعبر عن رأيه من خلال الرياضة يحكم عليه بالإعدام. بل الأعجب من ذلكَ والأكثر عهرًا هو أنَّ الرياضي الفرد يحكم عليه بالإعدام سياسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا ويعتقل ويودع السجن إن خالف النظام، بذريعة أنَّهُ رياضي ولا يجوز للرياضي أن يتخذ موقفًا سياسيًّا. إِنَّهُ يستخدم الرياضة منصة للسياسة وهذا مخالف للديمقراطية!

هذا ليس افتراءً ولا ابتداعًا اليوم الذي نعيشه يوجد في الكثير من مشاهير الرياضة العرب محكوم عليهم بالإعدام من قبل القضاء لأنهم لم يقفوا مع أنظمتهم الفاسدة المستبدة. والأشخاص معرفون مشهورون وغير مشهورين ومنهم من قتلته الأنظمة بهذه الطريقة أو تلك، والحديث في ذلكَ طويل.

لا يختلف الحال عن ذلكَ أبدًا في الفنون والتظاهرات الفنية بحال من الأحوال نسخة طبق الأصل. يظل صيصان الأنظمة يتفلسفون وينظرون في العلاقة بَيْنَ الفن والسياسة ولا تتوانى الأنظمة عن استغلال الفن والفنانين والتظاهرات الفنية لأغراض سياسية داخلية بالدرجة الأولى وخارجية حسب الحاجة وإن كانت حتى الأغراض الخارجية لتلميع صورتها داخلية، ولا يخفى على كثيرين كيف أن الأنظمة حولت من ضباط مخابراتها ومخبريها إلى فنانين ودستهم بَيْنَ الفنانين وحولتهم إلى ظواهر فنية تمرر من خلالهم رسائلها، ومن هذا الباب كان تشويه الفنون لتسويغ وجود دخلاء وحمقى بَيْنَ الفنانين لا علاقة لهم بالفن، فما العمل إذن؟ كان لا بُدَّ من تشوه الفن ذاتها لتقبل أن ما يقوم به المخبرون وضباط المخابرات هو من الفن. وبعد ذلكَ كله ما ينشد الجمهور في مسرحية أو عرض فني أي شعار سياسي لا يتوافق مع سياسة النظام، أو يعارض النظام، أو يفضحه في شيء ما حتى تنتفخ أوداج النظام ويلهث مثل الكلب ويرغي ويزبد في محاربة استخدام الفن منصة للسياسة، وتخرج الصيصان وتبيض الاجتهادات والفتاوى في عدم جواز استخدام الفن منصات سياسيَّة. وكذلك الأمر في الفنان الذي يكون له موقف خارج السلطة فإِنَّهُ يصبح دخيلًا على الفن وتحاربه السلطة ويفصل من نقابة الفنانين أو الأدباء، ويصبح كله فنه خروجًا عن الفن ولا علاقة له بالفن ورُبَّما تجد السلطة تحارب من يتعاطف معه أو يطلع على فنه.

وفي حين أن هذه الأنظمة العربيَّة تستخدم الدين كل أنواع الاستخدام لتمرير سياساتها وخياناتها وتخريفاتها وفسادها ولصوصيتها تجدها فجأة يهتز بدنا وترتجف أوصالها إذا لجأ الشعب إلى الدين لفضح أي خلل في ممارسات السلطة أو النظام بمعنى أكثر دقة وعلى الفور يخرج علينا الصيصان من كل الأشكال والألوان ويهولون في مخاطر جعل الدين منصة للسياسة، ومخاطر استخدام الدين لأغراض سياسية، وخيانة وكفر ومروق وعمالة من يستخدم الدين لأغراض سياسية. وتجد بَيْنَهم مشايخ يفتون بهدر دم من يتخذ الدين منصة للسياسة.

وفي حين أنَّ هذه الأنظمة تستخدم المساجد متى شاءت وكيف شاءت لتمرير ما تريد مما يتنافى مع مصلحة الوطن ومع الأخلاق ومع المنطق من سياساتها وترى ذلكَ من باب درء المفاسد وتحصين الجماعة وحماية الوطن، فإنها ما إن ينطق إمام في مسجد كلمة تفضح خللا في السلطة أي النظام الحاكم فإنَّ قيامة النظام تقوم وحول رقاب العباد تحوم. وإذا خرجت من المسجد مظاهرة أو تجمهر الناس على أمر يمس خللًا في ممارسة السلطة فإن حمم الجحيم تنصب على الناس بتهمة الكفر والتكفير والتطرف والخروج على سنة الإسلام وفرائض القرآن. ويخرج الصياصي من كل مكان ليهوِّلوا في مخاطر جعل المساجد منصات للسياسة. ويحرمون ذلكَ، ويكيلون الاتهامات أشكالًا وألوانًا لمن يستخدم المساجد منصات للسياسة.

ناهيك عن ترهيب الشعب من الدخول إلى المساجد والعبادة الأمر الذي يعيشه ويدركه المواطنون العرب من المحيط إلى الخليج ولا أستطيع أن أستثني دولة من هذا الترهيب. نعم يوجد أناس تدخل المساجد ولكنَّ أكثرهم من المغامرين أو الكبار في السن وقليل منهم مخبرين لتفقد المصلين وتسجيل أسمائهم كبارًا وصغارًا.

والأطرف من ذلكَ أنَّ هذه الأنظمة العربية أكثرها تتفاخر أمام شعوبها ببناء مساجد في دول أخرى مسلمة أو غير مسلمة وتمنع شعوبها من الصلاة والعبادة.

حسنًا، إذن أين يحق للشعب العربي أن يعبر عن رأيه في السياسة؟

ما المكان الذي يحق للمواطن العربي أن يتخذه منصة للسياسة؟

أين يستطيع المواطن العربي أن يمارس السياسة؟

لم يبق إلا الشارع.

أعوذ بالله من هذا الاقتراح!

إذا كان اتخاذ الفن أو المسجد أو الدين منصة للسياسة محرمًا أو ممنوعًا فإن استخدام الشارع منصة للسياسة ليس محرمًا فقط بل يعرض صاحبه فردًا أو جماعة للاعتقال الفوري إن لم يكن القتل بسلاح الطرف الثالث.

كل الأنظمة العربية تعاملت وتتعامل مع المظاهرات ومع استخدام الشارع منصة للسياسة على انه مؤامرة خارجية والمشاركون في المظاهرات خونة وعملاء لإسرائيل، العجيب أن الأنظمة العربيَّة كلها تحميها إسرائيل وخدمتها لإسرائيل أكثر وأكبر وأشد من خدمتها لشعوبها، وحرصها على أمن إسرائيل أكبر وأشد وأقدس من حرصها على أمن بلادها وشعوبها. ومع ذلكَ يتهمون شعوبهم بأنها عميلة لإسرائيل. معادلة عز أنَّ تجد نظيرًا لها أو مثيلًا في التاريخ: الذين يريدون محاربة العدو المحتل يوصفون بأنهم عملاء له، والذين يريدون حماية المحتل وضمان أمنه يسمون أنفسهم بالوطنيين! حتى قوم لوط ما وصلوا إلى هذه المعادلة.

وفي النتيجة: ماذا يفعل المواطن؟

السياسة تسري في دم الإنسان شاء أم أبى، وخاصة في عالمنا العربي لكثرة ما فيه من مآسي وتداخلات مع السياسة غير قابلة للانفصال عنها.

فماذا يفعل المواطن؟

أين يمكن أن يمارس السياسة؟

ما المكان الذي يمكن أن يتخذه منصة للسياسة؟

بعد قوائم هذه المحرمات ما بقي غير الحمَّامات والتواليتات يمكن أن يخلد إليها المواطن ليمارس السياسة، ويعبر عن رأيه، على اعتبار أنَّ أيَّ واحدٍ من الأسرة يمكن أن يكون مخبرًا في مثل هذا الوطن. ولا تعجب فقد أوصلتنا الأنظمة العربية إلى الشك في كل شيء والتخوف من أن يكون مخبرًا. راجعوا أدبياتنا الاجتماعية من المحيط إلى الخليج تجدون العلة ذاتها: في كل مجتمع عربي الكل مرشح لتهمة أن يكون مخبرًا عند السلطة، وفي كثير من مجتمعاتنا العربية يخاف المرء أن يتكلم على النظام أمام أخيه. بل أمام زوجته أحيانًا. ولا تخاف الزوجة أن تتكلم أمام زوجها إلا قليلًا.

وكي تصاب بالصَّدمة الحقيقية فاعلم أنَّ قوَّاد العرب رؤساء وسلاطينًا وملوكًا وأمراء ليس لهم من متنفس سياسي غير هذه التواليتات ذاتها للتعبير عن مواقفهم بحرية لأنهم يعلمون أنهم مراقبون من أسيادهم في كل كلمة وحركة وهمسة ولمسة، فإذا تحرك وجدان أحدهم عن غير قصد بعد وجبة دسمة أو صدمة بباب البراد (الثلاجة) وأراد أن يعبر عن رأيه المخالف لسياسته هرع إلى التواليت وتنفس بعمق وعبر عن رأيه، حتى لا يفصل من عمله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً

شهادتي عن “السودان الجريح”.. شهادة نائب من مصر

محمد جمال حشمت نائب برلماني مصري سابق فى النصف الأول من العشرية الأولى …