سوشال ميديا

اللاجئون السوريون ضحية للعقلية اللبنانية

سهيل المصطفى

صحفي وكاتب سوري.
عرض مقالات الكاتب

سلطت حادثة اعتداء الكازاخيين على العمال العرب (اللبنانيين و الأردنيين)، و التي انتشرت في السوشيال ميديا عبر مقطع فيديو قاسٍ و غير إنساني، الضوء على عنصرية بعض اللبنانيين اتجاه السوريين، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا بالعموم، بردود الأفعال الغاضبة والمُقارنة مع ما يحدث في اللبنان، والشامتة أحياناً!

حالة الإعتداء المُستنكرة و المرفوضة إنسانياً و قانونياً، و حصلت كردّ فعل على اعتبره الكازاخيون إساءة للمرأة الكازاخية من قبل أحد العمال اللبنانيين.

تعددت و اختلفت ردود الأفعال في السوشيال ميديا على تلك الحالة، و ربما أجدُ ردود بعض المُغردين العرب مؤلماً حينما غرّد أحدهم مُخاطباً اللبنانيين:

’’هذا ما تفعلونه بالسوريين في اللبنان، فذوقوا من ذات الكأس’’

و غرّد آخر:

’’و على الباغي تدور الدوائر’’!

ليس للشماتة موضع في حديث العقلاء، و إنما طرح المشاكل و اقتراح حلولها إن أمكن، مقصد و مأرب الحكماء و المُصلحين.

ولا بُدّ من التوطئة لهذا الحديث عبر تشريح العقلية اللبنانية، و التي تكاد أن تكون مُتفرّدة بكل إيجابياتها وسلبياتها منذ وُلد اللبنان الحديث!

العقلية اللبنانية، تلك العقلية المُستفزة والمتعالية و العنصرية في أحيان كثيرة، حيّرت كلّ من ألِفَها وتعامل معها، ذلك البلد الصغير والذي يعيش فيه 18 طائفة دينية، وعشرات بل مئات الأحزاب السياسية، ولا يكاد يخلو شارع أو زقاق لبناني من الرايات الحزبية أو الطائفية.

ناهيكم عن عوائله السياسية التي تحكُمُ مزارعها أبّاً عن جد، في جدلية غريبة للديمقراطية والتوريث!

لا ولن يفهم اللبنان إلا أبناؤه وجواره، ومن صنعه في غفلة من الزمن!

من الطرائف الغريبة في اللبنان، أن اللبنانيين يتفقون على الفنانة ’’فيروز’’ بمختلف شرائحهم و انتماءاتهم الفكرية و العقدية، و يختلفون فيما عدا ذلك على و في كل شيء!!

لن يُصلح الحال أن ينتخبوا أو (يُنصبّوا) السيدة ’’فيروز’’ رئيسة للوزراء أو الجمهورية، لأنهم حينها سيختلفون عليها دون شك!

ويضيع ما كانوا اتفقوا عليه سابقاً!

يدرك بعض اللبنانيون تلك الحقيقة التي يرفضها الكثيرون أنفةً و غروراً، و يطبقونها عملياً على أرض الواقع انسياقاً و قبولاً!

و توجس منها الشاعر اللبناني ’’جبران خليل جبران’’  في عام 1923 حين كتب ’’لكم لبنانكم و لي لبناني’’ في كتابه ’’البدائع و الطرائف’’ حتى قبل أن ينشأ اللبنان الحديث!

حين كتب:

’’لكم لبنانكم و لي لبناني

لكم لبنانكم و معضلاته ، و لي لبناني وجماله

لبنانكم عقدة سياسية تحاول حلها الأيام ، أما لبناني فتلول تتعالى بهيبة و جلال نحو ازرقاق السماء.

لبنانكم مشكلة دولية تتقاذفها الليالي ، أما لبناني فأودية هادئة سحرية تتموج في جنباتها رنات الأجراس و أغاني السواقي.

لبنانكم حكومات ذات رؤوس لا عداد لها ، أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر و السهول جلوس شاعر بين الأبدية و الأبدية .

لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي الضبع و الضبع حينما يجتمع بالذئب ، أما لبناني فتذكارات تعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المقمرة و أغاني الصبايا بين البيادر و المعاصر’’.

من يقرأ كلمات ’’جبران خليل جبران’’ يُدرك أن تلك المعضلات التي يجترها اللبنانيون اليوم، ليست بنات يومها، بل معضلات أزلية!

و العجيب أيضاً أن اللبنانيين يتفقون على ’’جبران خليل جبران’’ و يحفظون قصائده و كلماته، و يُطبقون عكسها، و كأنهم…. بل لأنهم غرقوا في وحول السياسة و قذاراتها، و الطائفية و تبعاتها، و العنصرية و نتاناتها!

و من يفهم العقلية اللبنانية، يُدرك أن ’’الحالة الباسيلية’’ نسبة لـلوزير اللبناني ’’جبران باسيل’’ ابنة نجيبة لما وصفه و تحدث عنه الشاعر و الأديب ’’جبران خليل جبران’’ قبل مئة عام!

و من يفهم العقلية اللبنانية، يُدرك مدى توغل و تغوّل تلك الأمراض و المعضلات التي ذكرناها في أول الحديث، في الحالة الشعبوية و النخبوية اللبنانية على حدٍّ سواء!

و يُسهبُ الأديب الأريب اللبناني ’’جبران خليل جبران’’ في توصيف حال اللبنان و يقول:

’’لبنانكم مربعات شطرنج بين رئيس دين و قائد جيش.

لبنانكم رجلان : رجل يؤدي المكوس و رجل يقبضها.

لبنانكم موظفون و عمال و مديرون.

لبنانكم طوائف و أحزاب.

لبنانكم خطب و محاضرات و مناقشات.

لبنانكم كذب يحتجب وراء نقاب من الذكاء المستعار’’.

أمام هذا التوصيف، و الإيغال في جروح اللبنانيين، تخرس الألسن عن الكلام، و يخجل العنصريون عن التغوّل و التبجح، لأن واصفهم محبوبهم، و عليه اتفقوا و اجتمعوا، و يكفيهم أنه حُجّة عليهم!

العقلية اللبنانية المريضة (إن صحّت التسمية) يعيها حتى المُصابون بها، و لا تخلُ صحيفة يومية أو نشرة إخبارية أو منشور أو تغريدة هنا و هناك عن التطرق لأمراض تلك العقلية!

و حتى الفن و الفنانين لم يكونوا بمعزل عن طرح تلك المشكلة في أعمالهم الفنية الدرامية و المسرحية، و تحضرني مسرحية قرأت عنها و لم أشاهدها، للمسرحي الشهير ’’ريمون جبارة’’ بعنوان ’’مقتل إنّ و أخواتها’’ و التي تناول في نصها الدرامي الكوميدي، أوجاع العقلية اللبنانية وعقدها، هموم اللبناني ومأساته، ونجاحاته واخفاقاته، وثقافته وجهله، والحياة والموت.

و على الرغم من كل الطروحات التوعوية السياسية و الثقافية و الفنية و الاجتماعية، و على كافة الصُعد و لكل الشرائح، إلّا أننا نتفاجأ بأن لا تغيير يحصل في تلك العقلية العجيبة، و يصبح الطبيب الحليم حيراناً، فهل يُعالج الفالج، أم يقتل المريض؟

و هل يُقتلُ القناص أم يُنسفُ المبنى؟

و في خِضَمّ تلك المعضلات و الأوجاع التي تعتري العقلية اللبنانية، نسمع كل يوم عن تعديّات و ممارسات عنصرية من اللبنانيين اتجاه (اللاجئين السوريين) في اللبنان، و أصبحنا نتمنى أن يَمُرّ أسبوعٌ دون أن نقرأ عن تفشي و تغوّل العنصرية اللبنانية، و تجليها في طريقة التعامل مع المنكوبين السوريين، بل و تجازوت ردود أفعالنا حدود الدهشة و الاستغراب، لتصل لمرحلة العجز عن توصيف تلك العنصرية، و أصبحنا نتعاطف مع مفردة (العنصرية) لأننا نظلمها حين ننسب أفعال الكثير(وليس كل) اللبنانيين اتجاه السوريين، و هنيئاً للعنصرية فقد وجدت من يتعاطف معها، و لو كان لها لساناً لصرخت بصوتٍ عالٍ:

أيها الظالمون، أسأتم لسُمعتي!

و تتبرأ الإنسانيةُ من مخلوق يُنسبُ زوراً إلى الرجال، يظهر في مقطع فيديو و هو يُعذّب طفلاً سورياً (وتكرر هذا المشهد كثيراً)!

و حين يظهر طفلٌ سوريٌ مُقيّد، و من حوله مجموعة من الأطفال اللبنانيين الأبرياء، و الذين لا يعون ما يفعلون، حينما يأمرهم مخلوق آخر لا يظهر في الفيديو، بأن يضربوا الطفل السوري المُقيد!

و عندما نقرأ يافطات كُتب عليها:

(ممنوع دخول السوريين) على أبواب بعض الأحياء أو الشواطئ أو الأماكن اللبنانية!

و تحتار الإنسانية حين ترى اللبنانيين أنفسهم، يرفضون أن يسكن لبنانيون مثلهم بالقرب منهم، لمجرّد أنهم (مسلمون) أو من غير دين!

و تُكمّمُ أفواه القانونيين و القضاة عندما يتهجّم لبنانيون منفلتون على المحال التجارية العائدة لسوريين، يعملون و يأكلون من كدّ أيمانهم، و يحركون العجلة الاقتصادية المُزرية في اللبنان، و يُشغلون الأيدي العاملة اللبنانية، و يستأجرون البيوت و المحال و الفلل الخالية أصلاً من أهلها، و الواقعة في ركود إقتصادي كبير!

و يَعمى الإقتصاديون عن كل ما ذُكر، و يتجاهلون الفوائد الجّمة العائدة من الأموال الدولية التي تُحوّل إلى المصارف اللبنانية كمساعدة للسوريين، و يتجاهلون تحويلات السوريين المُغتربين في الخليج و أوروبا، لمساعدة ذويهم اللاجئين في اللبنان، في بلد يُعتبر فيه القطاع المصرفي الداعم الأول للاقتصاد!

و في ظلّ تلك العنصرية و استعلاء العقلية اللبنانية، تظهر بعض الأقلام الحُرّة، و التي تُفرغ حبرها الزكي لمناصرة اللاجئين المُستضعفين في اللبنان، كقلم الأستاذ اللبناني الجامعي ’’أسعد أبي خليل’’، و الذي غَرّد في حسابه على تويتر يقول:

’’ أنا لبناني أباً عن جد لكن نصفي بات سوريّاً والنصف الآخر فلسطيني نكايةً بانعزاليّي لبنان العنصريّين’’

ليتلقى ردوداً أكثرها مُكابرة مُحتجّة على التغريدة، و بعضها متواضعة مُدركة للمعاني التي بين سطورها.

و كان قبلها بساعات قد غّرّد تغريدة أثارت غضب معظم متابعيه، حين كتب:

’’ لو أنّ شابا ًسوريّاً في لبنان فعلَ مع امرأة لبنانيّة ما فعله الأزعر اللبناني في كازاخستان مع امرأة كازخستانيّة لكان اللبنانيون قد شنقوا عددا من السوريين’’

و بإمكانكم متابعة رابط التغريدة، و مُطالعة الردود العجيبة و الغريبة، و التّهجم على صوتٍ حُـر صدع بما هو واجب، و قوبل بما هو في المجتمع اللبناني غالب!

و على النقيض نجد ’’الحالة الباسيلية’’ المُتمثلة بالوزير اللبناني ’’جبران باسيل’’ و التيار الوطني اللبناني الحُر الذي يُمثله، والتي أشرت لها سابقاً، هذه الحالة تدفع اللبنانيين عواماً و نُخبة إلى مستنقع العنصرية البغيض، و إلى خطاب مُفعم بالكراهية ضد اللاجئين السوريين، من خلال تصريحاته الإعلامية و تغريداته التويترية، وقال باسيل في تغريدة على موقعه في “تويتر”:

“لقد كرّسنا مفهوما لانتمائنا اللبناني هو فوق أي انتماء آخر، وقلنا إنه جينيّ وهو التفسير الوحيد لتشابهنا وتمايزنا معا، لتحملنا وتأقلمنا معا، لمرونتنا وصلابتنا معا، ولقدرتنا على الدمج والاندماج معا من جهة وعلى رفض النزوح واللجوء معا من جهة أخرى”.

ليتلقى ردوداً قاسية من أغلب المُغردين متنوعي الجنسيات العربية، لنقع في حيرة مما يُكتب من ردود و مما يُمارس على الأرض!

و لنحمد الله أن الردود إيجابية رافضة، ثم تمغصُنا أفعالٌ عنصرية يفضحها الإعلام اللبناني بين تارة و أخرى، و نُخفّضُ من سقف تفاؤلاتنا و نكبح جماح حماسنا مُكرهين!

و في تغريدة أخرى يُتحفنا بها ’’الباسيل’’ و يهاجم بها بعض اللبنانيين الذي يأخذون عليه عنصريته، و لم يسلموا من نرجسيته، يقول:

’’البعض يتهمني إني عنصري وأنا أفهم لأن الانتماء اللبناني لدى هؤلاء ليس قوياً كفاية ليشعروا بما نشعر به ولأنهم يعتبرون أن هناك انتماء ثانيا قد يكون أهم بالنسبة لهم.’’

و يتساءل الحليم العاقل: كيف لنظام سياسي، يتفاخر بديمقراطيته و سقف الحرية العالي لديه، أن يُصعِدَ مثل هذه الشخصيات، إلى مواقع سياسية بارزة، تُصبح فيها قائدة لحالة شعبوية و نخبوية عنصرية؟

هل العيب في الديمقراطية، أم في ثقافة الطبقات التي أوصلت تلك الشخصية لذلك الموقع الحساس؟

ربما هكذا أُريد له أن يكون (أي لبنان)، وهذا ما يُراد له أن يبقى عليه!

يذرُّ البعض الرماد في العيون ويقولون: تمثّلوا بالتعايش الطائفي اللبناني، لكي يُحرّفوا الحقيقة بأن الحياة في اللبنان، حياة تفاهمات و توافقات، و ليست تعايُشاً بالمعنى الحرفي للكلمة.

و أفضل ما أختم به مقالي هذا، ما قاله الكاتب اللبناني ’’بيار عقيقي’’ في مقال له في ’’العربي الجديد’’ بعنوان ’’العقل اللبناني التائه’’ بتاريخ 22 أكتوبر 2016:

’’مشكلة العقل اللبناني، عدم إدراكه، أو إدراكه، لكنه لا يريد التصديق أو التراجع، أن من هم في السلطة لا ينظرون إلى الأمور كنظرته. يظنّ العقل اللبناني أن فلاناً “يحميه” طائفياً ومناطقياً، لكن هذا “الفلان” لا يفكّر بهذه الطريقة، بل ما يفكّر به هو كيفية تثبيت وجوده في السلطة، مادياً ومعنوياً. يبدو لبنان كأنه شركة يستميت فيها الموظفون وصغار الكسبة في الدفاع عن أصحاب الشركة، في مواجهة موظفين وصغار كسبة تابعين لشركة أخرى. وذلك في وقتٍ يجلس فيه أصحاب الشركات كمن يتابع “صراع ديوك”. الفارق أن “الموظفين وصغار الكسبة” في الحالة اللبنانية هم “مموّلو” الصراع وضحيته. ’’

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى