حقوق وحريات

مذكّرات.. جرح الماضي ينزف من جديد.





عزيزة جلود*

*الحلقة الرابعة

كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان لحتى كان.

تقول شهرزاد:

بعد فترة وجيزة من اعتقالي استطعت أن أتأقلم مع الوضع الذي أنا فيه ولكن كانت تواجهني مشكلة الأطفال الرضّع فكان إذا نام أحدهم وبكى الآخر يوقظ النائم وهكذا.

فطلبنا من السجّان أن نتوزع على غرف الأخوات المعتقلات الأخريات.

وافق السجّانون جميعهم ليرتاحوا من بكاء الأطفال وهكذا أصبحت أنا وطفلي بغرفة مع عدّة أخوات والأخت مع أطفالها في غرفة أخرى مع بعض الأخوات وهكذا شعرنا ببعض الراحة، كانت كلّ أخت تروي قصتها المأساوية لنمضي بعضاً من الوقت الطويل الممل وكان طفلي الضحكة والفرحة والتسلية لكل الأخوات ومن طرائفه أنّه كلّما نامت أخت زحف نحوها وأدخل إصبعه الصغير في أنفها فكنّ يحرصن على عدم النوم وهو مستيقظ ففي أحد الأيام قال أحد السجّانين لإحدى الأخوات: حرام أن يكون هذا الطفل هذه أمه وذاك أبوه وهل تعطيني إيّاه لأربيه.

عندما سمعت طلبه انتابتني نوبة من الضحك فهل يظنّ هذا المعتوه أنّه يستطيع تربيته أفضل مني، أم أنّه يريد أن يربيه على السجود لحافظ الأسد ومن ثمّ لبشار أو أن يربيه كي يصبح شبّيحاً عدواً للشعب وإرادته.

خاب فأله وظنّه ها قد كبر طفلي وحمل راية الثورة من أبيه وأمه وهو يناضل مع الثوار لتنتصر الثورة بإذن الله.

تمرّ الأيام والليالي بطيئة نملئها بحكايانا أحياناً وخلافاتنا أحياناً أخرى، قد يسأل سائل على أيّ شيء كنتم تختلفون وأنتم لا تملكون شيء من مقومات الحياة، فمثلاً كنّا نختلف بالآراء حول دور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية ودورها في الثورات ضدّ الحكّام الظلمة والمفسدين، فمنهنّ من ترى مكانة المرأة خلف الرجل مستندة لقول أحدهم وراء كل رجل عظيم امرأة، ومنهنّ من ترى المرأة مربية للأطفال فقط مستندة لقول أحد الحكماء المرأة التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها، ومنهنّ من ترى المرأة في الصفوف الأولى مع الرجل وفي كل مجال وذلك حسب القدرات والصفات التي تؤهلها لمثل هذا الدور، وهكذا تعلو أصواتنا ثم تخفت كأننا نرسم دور المرأة في هذه الزنزانة الشبه مظلمة وننهي النقاش إما بطرق أحد السجّانين الباب لارتفاع أصواتنا أو ليدخل لنا الغداء أو العشاء وبذلك نكون قد أنهينا أحد اجتماعاتنا ولكن بدون كتابة محاضر. 

 وفي أحد الأيام قرع أحد السجانين الباب ثم فتحه ووقف وهو ينظر إلينا مبتسماً فعرفنا من تعابير وجهه التي اعتدنا عليها في مثل تلك الحالات أنه يوجد زيارة لإحدانا، جالت نظراته جميع أركان الزنزانة وكأنّه يبحث عن شيء وبعفوية كنّا نلتفت لنعرف عن ما يفتش، وفجأة نادى طفلي (أبو خليف يقصد به الاسم الحركي لوالده) زيارة، عندها عرفت أنّ الزيارة لي فهي المرة الأولى التي سأرى فيها أهلي وأطفالي الصغار فرحت فرحا ممزوجاً بالألم والحزن واستجمعت كلّ رباطة جأش وقوة لأنّي لا أريد أن يراني أهلي مهزوزة منهارة، لعلمي أنهم يستمدون الصبر ورباطة الجأش والمعنويات العالية مني، هكذا تعلموا وهكذا كنت أيام اعتقالي السابق، أنهيت ارتداء ملابسي والأخوات ألبسن طفلي وخرجنا إلى بهو خارج السجن، كنت قد أخبرتكم عنه في أول الحكاية.

ركضت طفلتي فردوس عندما رأتني، احتضنتني وهي تبكي ثم جاء ياسر يمشي بتؤدة وكأنّه يرسم في مخيلته شيء ما للمستقبل فهذه اللحظة بالنسبة له مصيرية وعلى أساسها سيحدد مستقبله من تلك الأحداث، كان ينظر إلي بعينين منكسرتين، ضممتهم إلى صدري وقبلتهم وأنا أحاول بكلّ ما أوتيت من قوة أن أرسم على وجهي ضحكة كاذبة وتعابير فرح أليمة، ومن ثم عانقت أمي لقد كانت تعلم كل منا شعور الأخرى فأنا أم بعيدة عن أطفالها وهي أم ابنتها سجينة تحول بينهما أبواب وأقفال وأحقاد وظلم كبير. وبعد معانقتي لأمي جاء دور أبي نظرت إلى وجهه فرأيت ما لا أراه في أيّ وجه من وجوه رجال العالم. هل تستطيع كلماتي أن تصف تلك الملامح، يكفي أن أقول لكلّ أب صف لي مشاعرك وأنت ترى ابنتك الشابّة سجينة لدى أقذر وأوسخ رجال الأمن في العالم.

عانقته وحاولت أن أظهر بصورة البطلة التي لا تهاب شيء ولا تنكسر لأحد كائن من كان ومن ثم عانقت بعض من أخوتي الذين جاؤوا لزيارتي، كانت تشعّ من عيونهم الثورة والانتقام، وهكذا جلسنا على مقعد خشبي ورويداً رويداً هدأ روعنا وكان محور حديثنا طفلي الصغير الذي كان يتنقل بنظراته من واحد لأخر وكأنه يقول من هؤلاء الغرباء الذين اقتحموا حياتنا ومن هؤلاء الأطفال الذين يشاركونني أمي، كنا نضحك جميعنا على كل حركة يقوم بها ثم يلتفت حوله باحثاً عن السجّان ليرتمي في حضنه ويتركنا فهو لا يعلم إلا تلك الأسرة التي يعيش بينها، وهكذا تمرّ الدقائق سريعة وكأنّ أحداً يسرع عقارب الساعة، وتنتهي الزيارة بعد أن شرحت لي أمي ما جاءت به من مستلزمات لي ولطفلي ويخرج أهلي وهم يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى وهم ينظرون خلفهم، وأنا أرقب كلّ حركة يقومون بها حتى يخرجوا من باب السجن.

وهكذا أعود لزنزانتي مختلطة المشاعر بين الفرحة والحزن، ونام شهريار السجّان، وسكتت شهرزاد عن الكلام.

*ناشطة ثورية.

تنويه: ينفرد موقع رسالة بوست بنشر مذكرات السيدة عزيزة جلود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى