مقالات

محددات المشهد التركي بين “أردوغان والديموقراطية والعلمانية وإسطنبول”.





د. وثاب خالد آل جعفر*

ليس من السهل حصر المشهد التركي، وتفاعلاته السياسية في مقال واحد، ولكن حفاظاً على وحدة المشهد وعدم تشتيت الصورة عند المتلقي.. إرتأينا تحقيل المشهد وفق أيقوناته الأساسية ربطاً ببعضها البعض، في انتقالات سياسية تاريخية إيدلوجية نفسية ديموغرافية.. نعبّر من خلالها عن رؤيتنا لهذه التفاعلات وانفعالاتها.

المحور الأول: التأسيس الديموقراطي.

يختلف البعض في توصيف حقيقة الديمقراطية والعلمانية في تركيا المعاصرة بعد سقوط الخلافة العثمانية.. خلافاً جدلياً على شاكلة “البيضة والدجاجة” فيذهب البعض في أنّ الإسلام السياسي إنّما نشأ وترعرع وتمدّد حتى وصل ما هو عليه اليوم   مستفيداً من الجو العلماني الديموقراطي لفلسفة البلاد ونظامها الذي أسسه أتاتورك وحافظ عليه الجنرالات، فيما يذهب الطرف الآخر أنّ الممارسة الديموقراطية الحقيقية إنّما مورست على حقيقتها في ظل سيطرة الإسلام السياسي.. وحتى العلمانية تنفست الديمقراطية في ظلهم أكثر مما كانت عليه في ظل أصحابهم.  ووقفتنا هنا والمرجحة للخيار الثاني منه جاءت وفق الوقفات التالية:

نعم: أردوغان وتجربة الإسلام السياسي هم من أتى بالديموقراطية السياسية الحقيقية التي نقرأ عنها ونسمع بها.. نحن العرب.. وما ذقناها يوماً!!.. ولا ذاقتها تركيا قبلهم .. من خلال استعراض فترتين أساسيتين في تاريخ تركيا المعاصرة.. استعراض تاريخي.. معزز بالشواهد:

* فترة ما قبل أردوغان والإسلام السياسي:

لو تتبعنا المسار الديموقراطي في تركيا منذ إعلانها كدولة مدنية على يد أتاتورك ١٩٢٣ حتى سيطرة الإسلام السياسي ١٩٩٤.. لوجدنا الانتهاكات التالية:

– فرضت العلمانية الغربية الفجة من قبل أتاتورك.. بكل قسرية دكتاتورية.. والتاريخ شاهد.

– تغيير حرف الكتابة القومي والثقافي للبلاد وهو من أهم الصور المعبرة عن هوية البلاد.. وتعطيل أماكن ودور عبادة الأغلبية فيها وتحويلها إلى متاحف ومخازن.. بالقسر الدكتاتوري.. والتاريخ شاهد.

– إعدام الرئيس مندريس والانقلاب على ديمقراطيته علناَ تحت دعوى الحفاظ على العلمانية والمدنية وبكل قسوة عسكرية. 

– اعتقال ومحاربة الإسلامي نجم الدين أربكان وتقويض مشروعه وضرب الفسحة الديمقراطية التي نفذ من خلالها.

– اعتقال الزعيم أردوغان نفسه حين كان مع أربكان.. تكريساً لحكم الجنرالات والعسكر في بوح علني أنّه حماية للعلمانية باعتبارها روح الدولة المقدسة.

* فترة ما بعد أردوغان والإسلام السياسي:

وهنا حدث الانقلاب الاستراتيجي.. وبكل صراحة موضوعية، إنّ الديموقراطية لم تأت بأردوغان قطعا.. والذي حدث أنّ: شخص أردوغان الإسلامي.. وقبل استلامه دفة القيادة المطلقة تصرف بكل (بارغماتية) وبأعلى صور (الميكافيلية).. المرفوضة إسلاميا!!.. فتجده وقد انشقّ عن أبيه الروحي “أربكان”، ثم انفتاحه الواسع على الغرب والمعارضة، وعدم تحرجه من زيارة إسرائيل وقبر هرتزل.. لينتهي عند فراق “الجماعة”.. فراق أغضب كل الإسلاميين.

هذا الجو، وهذه المناورة.. هي التي أتت بالسيد أردوغان كقائد وزعيم عام للبلاد.. فضلاً عن نجاحه الكاسح كإداري وعمدة ورئيس بلدية ومخطط.. لكنّه ووفق ما أسلفنا لم يكن ليشكل خطراً فكرياً إيدلوجياً على العلمانية المفروضة قسراً.. كما لم يقدم نفسه على أنّه صاحب مشروع. 

لكن، ما إن استلم أردوغان دفة القيادة.. محدثاً شرخاً في ستار العلمانية المفروضة.. حتى أدخل أصابع يديه به.. فراح منقلباً على ما تظاهر به.. عائداً إلى فكره وإيديولوجيته.. ليكشف عن مشروع كان يحاول نكرانه.. مسترسلاً في سرد ذلك الشرخ البسيط الذي أحدثه شيئاً فشيئاً حتى دخل قلوب الكثير ولا نقول الجميع.. ليبسط سيطرته على أخطر ما كان يقتل الديمقراطيات السابقة والتي قد تقتله، مؤسسة (الجيش) وجنرالاته.. “ميكافيلية” يبدو أنّها لاقت استحسان الإسلام السياسي خارج تركيا وقد عاد منتقدوه للالتفاف حوله وتأييد اجتهاده.

وهنا بدأت مؤامرات الغرب المنخدع في محاولات الانقلاب.. وضرب الليرة.. والحصار الاقتصادي.. ودعم المعارضة.. الخ. لكن بعد فوات الأوان.. ولا أظنّ الغرب وكل مراكز أبحاثهم المخابراتية والاستشراقية والتحليلية والرصدية وقعت في خطأ وسوء تقدير للموقف في تاريخها كما وقعت في خطأ قراءتها لهذا الرجل “الداهية”.. خطأ قاتل سيكلفها؛ بل كلفها الكثير.. والقادم أكثر.

لنصل إلى حقيقة أنّ الإسلام السياسي على يد أردوغان لم يستفد من الديمقراطية ولم يصل بسببها.. كما يدّعي معارضوه.

أما كيف أنّه أتى بالديمقراطية: فالواقع والشواهد كثيرة.. فمن نسب الفوز القليلة التي كسبها خلال كل الانتخابات السابقة التي لم يتجاوز بها ال ٦٠%.. إلى خسارته إسطنبول اليوم.. وما بينها من ممارسات كالسماح لحرية المثليين ورفع صور أتاتورك وغيرها من الممارسات والتي لم يخضعها لإيديولوجيته.. كلها تؤيد أنّ أردوغان كان أول زعيم لتركيا المعاصرة.. يجلب لها الديمقراطية الحرة غير المقنعة.. وأنّ التيار الإسلامي كان هو المؤسس الحقيقي لها كممارسة حية.

المحور الثاني: إسطنبول، ورهان كسر العظم.

بعد تسليطنا الضوء على المسار الديمقراطي لتركيا ودور الإسلام السياسي فيه.. وتجاوزاً لمرحلة الدور التركي الإقليمي في ظل الإسلام السياسي من خلال دورها في العراق وسوريا والأزمة الإيرانية والعلاقات الروسية والتشنجات الأمريكية.. والتي سنفرد لها مبحثا مستقلا تبعا لأهميته من جهة ولإمكانية اجتزاءه عن المشهد الداخلي الذي نحن بصدده في تقييم حراك الإسلام السياسي.. والذي تجلى بوضوح في نتائج انتخابات البلديات الأخيرة وخسارتهم معقل الحركة إسطنبول.. والتي كانت لنا فيها بعض الوقفات:

١. ابتداءً، نتمنى على القارئ الكريم وعلى أنفسنا كنخب راصدة ناقدة محللة ألّا ننجرّ في التعامل مع الحدث كتعامل الجمهور الإسلامي.. وقد تناولوا الحدث بظاهره العاطفي التبريري في كونه انتصار ديموقراطي ورضا بالواقع وأنّه أمر طبيعي.. في محاولة بائسة مصطنعة لإخفاء حالة الحزن والإحباط.. ودون الوقوف عند علة القضية وأسبابها وتبعاتها.

٢. الانتباه لقضية تسليط الأضواء على شخصية رجل المعارضة الذي فاز (أكرم إمام أوغلو).. وهو رغم أنّه علماني لكنّه سنيّ تركيّ إسطنبوليّ.. !!

فيما حجبت الأضواء تماااااماً ومن قبل جميع وسائل الإعلام عن شخصية زعيم حزب الشعب الفائز وهو السيد (كمال كيليتشدار أوغلو).. وقد يتفاجأ الكثير إذا ما عرفوا أنّه: (علوي) !!.. مؤيد داعم لإيران !!.. وبشار.. والمالكي.. وله علاقات بإسرائيل.. ورافض تدخل تركيا بالقضية السورية.. أي أنّه رافض للإرث الإسلامي العثماني تماما.

منطقة الظل هذه التي وضع بها هذا الرجل وتوجهاته.. والتي انطلت حتى على إعلام العدالة والتنمية.. وعن الرأي العام والشارع التركي والإسلامي.. بها يكن الخطر.. والسر.

٣. وعودة إلى موضوعة أسباب هزيمة مرشح الطيب أردوغان كما اتفقنا في نقطة / ١ أعلاه.. هناك ملاحظة (نفسية) تستوجب أن نقف عندها بلطافة دون تشنج للتشخيص وليس للتمايز العرقي.. تتعلق بشعب إسطنبول التركي.. فقد راجعت سيرة حياة كلا المرشحين بحثاً عن (علة) تميز هذا الشاب شبه النكرة والفائز على ذلك المخضرم المجرب صاحب الإنجازات.. فاستوقفتني نقطة أنّ: (السيد علي بن يلدريم) كوردي القومية!! ومنافسه تركي.. وكلنا يعرف طبيعة الشعب التركي، فضلاً عن الأجواء العامة في الإعلام والتشنج القومي من ال pkk وكردستان و… كلها حفزت لدى المواطن التركي رغم إسلاميته التصويت لمرشح من أصول تركية وليس كوردية !!!.

وهنا يكون الخلل ليس في الوعي الديمقراطي بقدر ما هو في الاختيار الخاطئ لمرشح العدالة والتنمية.

٤. كما نحتاج أن ننور القارئ الإسلامي إلى نقطة الفصل بين البعد التاريخي للمدن الإسلامية وواقعها الديموغرافي اليوم.. ومنها إسطنبول.. فتاريخ إسطنبول نعم إسلامي.. لكن ليس بالضرورة أن يكون غالبية سكانها من ذوي الاتجاه الإسلامي!! .. وإذا حاجج البعض: كيف إذا فاز بها أردوغان سابقاً؟ الجواب: آنذاك لم يكن هناك هذا التشنج وهذه الأجواء التنافسية في الشارع بين الفكر الإسلامي والعلماني.

وما أريد الوصول إليه: ألا تكون قضية إسطنبول سبباً للإحباط.. أو كسر الروح المعنوية لدى أتباع التيار الإسلامي.. والعمل على ضبط لعبة الإعلام بذكاء.. في أنّ المهم تركيا الدولة.. التي فاز بها السيد أردوغان وحزبه وهذا يؤكد نمو وتنامي الوعي الإسلامي الحركي فيها كبلاد.. أما إسطنبول كبلدية فهي جزء تابع للكل.. محكومة بقرارات وفلسفة وإيديولوجية الحزب الحاكم.. وإن كان عمدتها من إيديولوجية مختلفة.. خاصة بعد تحول النظام دستورياً من البرلماني إلى الرئاسي.

٥. نحن لا ندعي أنّ هذه وحدها أسباب الإخفاق، لكنّها من الأسباب التي يكاد يغفلها المراقب لذا أحببنا أن ننوه إليها.. ولا ننكر أن هناك أسبابا رئيسة كثيرة مهمة كتراجع قيمة الليرة التركية.. وأثر ذلك على إسطنبول بصفتها مركز المال الأول.. وانسحاب بعض شركاء الأمس من القادة والزعماء.. وتأثير الملف السوري والعراقي.. وغيرها من المواقف الإقليمية التي انعكس ظلالها على الشارع الداخلي وقد وظفته المعارضة لصالحها.

وختاما:

يطيب لنا أن ننهي المشهد عند نقطة أجدها غائبة عن الكثير من كلا الطرفين الإسلامي والعلماني.. أجد فيها ما قد يعكر صفو المراقب العلماني ويقوض شعوره الزائف بالانتصار.. وهو أنّ المشهد السياسي التركي اليوم انقسم بين تيار إسلامي وتيار علماني نصفه إسلامي أيضاً يخالف جبهة العدالة والتنمية الأردوغانية إذا ما علمنا أنّ هناك جمهوراً عريضاً لحزب السعادة الإخواني الجذور وجماعة غولن الصوفية قد اصطفّت مع المعسكر العلماني اصطفافا انتخابياً لا عقائدياً.. لنصل بالنتيجة أنّ التيار الإسلامي يكاد يكون اللاعب الأساس حاضراً ومستقبلاً.. مع إجراء بعض المراجعات البسيطة.

*دكتوراه فلسفة أصول الدين/فكر إسلامي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سلمت اناملك دكتورنا الغالي وحفظك الرحمن.
    هذا تحليل رائع ومنصف للحقائق التي تجري في تركيا .
    فأعلامنا العربي اخذة قضية اسطنبول الى محامل انتصار ساحق للعلماني وبدئو يتحدثون على مايسمى بداية النهاية للعدالة والتنمية .
    انا على ثقة ان الشعب التركي سيكون اكثر ارتباطا وترابطا باتجاه التمسك بنظام السياسي الحاكم فقد اظهرت اعادة الانتخابات نمط ديموقراطي قل ان تراه حتى في الدول الاوربية المتطورة سياسيا .
    اضافة الى الانجازات السابقة . على العكس سيكون فقد اسطنبول امر جدي للعدالة والتنمية لاعادة ترتيب الاوراق من جديد . والبحث في تصحيح بعض الاخطاء . ان خلق جو تنافسي قوي في تركيا في ظل الديمقراطية امر ايجابي جداللحفاظ على الانشطة المستدامة وترفع حدة الحذر والتحديات.
    تحية اجلال واحترام وحب الى ابن بلدي ومدينتي. استاذنا الدكتور وثاب.

اترك رداً على محمد نادر صالح العاني إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى