مقالات

تركيا تلقن العالم درساً جديداً في الديمقراطية

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

فرح من فرح وحزن من حزن بنتائج إعادة انتخابات بلدية اسطنبول وهٰذا طبيعي ومنطقي من الناحية النفسية والترتوية وحَتَّىٰ الأخلاقية. فلا اعتراض من جهة المبدأ ولا النتيجة علىٰ هٰذه الأفراح والأحزان التي تخرج عن السيطرة بطبيعة الحال.

إلىٰ جانب هٰذه الظاهرة الفطرية كانت هناك مشاعر إرادية هي لهيب الحقد الذي تفجر شماتة؛ الفرح فطرة، الحزن فطرة، الحقد قرار، الشماتة قرار… وكان الشامتون هم الأشد خسارة لأنهم احترقت أعصابهم وفرغوها شماتة، الشماتة بحد ذاتها إقرار بانتصار الباطل علىٰ الحق، لأن صاحب الحق لا يشمت علىٰ منهزم حَتَّىٰ ولو كان المهزوم علىٰ باطل…

دعك من الشامتين ومن الفرحانين ومن الحزانين. تعال لننظر إلىٰ الحدث بمنطقية وعلمية. هل خسر أردوغان انتخابات جولة الإعادة في اسطنبول؟

الواقع يقول إن المعارض إكرام إمام أوغلو هو الذي فاز في انتخابات جولة الإعادة في اسطنبول التي كان هو نفسه فائزاً فيها في الجولة التي تم إلغاؤها. فازت المعارضة وخسر حزب العدالة والتنمية الحاكم أو أردوغان كما يحلو للشامتين القول.

ماذا يعني ذٰلكَ؟

يعني ذٰلكَ أنَّ أردوغان والعدالة والتنمية يلقنان العالم كله درسًا جديداً في الديمقراطية. أردوغان وحزبه الحاكم يوجهان صفعة خماسية لوجه كل من يطعن في الديمقراطية التي يقوم الحزب الحاكم وأردوغان علىٰ إدارتها وحمايتها في تركيا.

أين يمكن أن تجد حزباً حاكماً في العالم يعيد الانتخابات وهو قادر علىٰ التزوير والتغيير كما يزعمون ومع ذٰلكَ يخسر جولة الإعادة؟

ومع ذٰلكَ يتقدم الحزب الحاكم لمعارضه بالتهنئة والاعتراف بالهزيمة.

إن خسارة مرشح الحزب الحاكم في جولة الإعادة لرئاسة بلدية اسطنبول هو شهادة فخر لهٰذا الحزب الحاكم وللرئيس أردوغان بالنزاهة والأمانة وأنهم أهل ليحملوا الأمانة لا يخونوها ولا يخونوا من حمَّلهم الأمانة، وهٰذا ما لا تجده ولو بأصغر صوره عند الشامتين، هٰؤلاء الشامتون الذين أحسن وصفهم الدكتور فيصل القاسم بقوله: «الشامتون بأردوغان بعد انتخابات اسطنبول الديمقراطية التاريخية مزيج من العربان والقومجية والبعصية الذين كانت آخر انتخابات لهم إما لاختيار أجمل عنزة في حالة العربان وفاز ت فيها عنزة طويل العمر، أو مسابقة للفوز بتنكة مازوت بالنسبة للقومجية والبعصية وفاز فيها أمين الفرقة الحزبية».

شر البلية ما يضحك فعلاً، وعلىٰ أي حال حَتَّىٰ الشامتين من غير هٰؤلاء الآفاقين من الغربيين لا يختلفون في المبدأ عنهم.

لنعد إلىٰ أصل المشكلة وسبب الإعادة.

قبل شهور قليلة كانت الانتخابات البلدية في تركيا. وخسر حزب العدالة الحاكم في ولايات وخسر في أُخْرَىٰ بمعطيات منطقية تماماً وفق المنطق الديمقراطي، مجمل النتائج كان لصالح الحزب الحاكم بنسبة تزيد عن الخمسين بالمئة قليلاً.

هٰذه النتيجة وحدها طعنة نجلاء لكل الطاعنين في أمانة الحزب الحاكم ونزاهته، من ذا الذي يمكن أن يمنع حزباً حاكماً من تزوير الانتخابات أو ابتزاز الشعب أو غير ذٰلكَ من مماراسات تزويرية مقنَّعة لا يستطيع أحد الطعن فيها؟

ومع ذٰلكَ لم يقم حزب العدالة والتنمية بأي خطوة من هٰذا القبل بل كانت مساحة التعبير أمام المعارضة إن لم تكن أفضل من الحزب الحاكم فهي ليست أقل منها، وهٰذا ما لا يمكن أن تجده في ثلثي دول العالم علىٰ الأقل.

كانت هٰذه درساً في الديمقراطية تجاهله العالم وأبى إلا الطعن والشماتة بأردوغان والحزب الحاكم علىٰ الرَّغْمِ من فوزه المجمل بالانتخابات وإن كان ضئيلاً.

الدرس الأكبر في الديمقراطية الذي تجاهله العالم علىٰ الرَّغْمِ من أنَّهُ أكبر من أن ينسى أو يجوز تجاهله هو خسارة الحزب الحاكم في اسطنبول بطريقة تراجيكوميدية عجيبة.

في كل الدنيا الحزب الحاكم يفوز بالانتخابات بالتزوير أو من دون تزوير والمعارضة تعترض، وفي كثير من بلدان العالم لا تجرؤ المعارضة أن تعترض، وإن اعترضت تذهب الاعتراضات أدراج الرياح. إلا في تركيا فإن المعارضة هي التي زورت الانتخابات وفازت بطرق غير قانونية والحزب الحاكم هو الذي اعترض، وتبينت حقائق التزوير والتجاوز بما لا يقبل الشك ولا يقبل الطعن الأمر الذي ألزم الهيئة العليا للانتخابات بإلغاء الانتخابات وإعادتها من جديد.

الدنيا هاجت وماجت ضد أردوغان وضد الحزب الحاكم علىٰ هٰذه الخطوة الجريئة الخطيرة بإعادة الانتخابات، وكان من الهائجين علىٰ هٰذه الخطوة رجال جعلهم أردوغان كبار رجال الدولة: عبد غول رئيساً للدولة، وأحمد داوود أوغلو رئيساً للوزراء… وفجأة سكت الجميع.

لماذا سكتوا؟

لولا الدلائل الفاضحة التي تجر إلىٰ المحاكم هل كان لأوروبا أن تسكت فجأة؟

لولا الدلائل الفاضحة والبراهين القاطعة هل كانت المعارضة لتسكت؟

تخيل الآن: أردوغان وحزبه الحاكم اللذان يتهمان بالاستبداد وعدم الديمقراطية يخسران الانتخابات والسلطة في يدهم، ولا يزورون الانتخابات والقلم بيدهم، والمعارضة البعيدة عن السلطة هي التي تقوم بالتزوير… وتنجح بالتزوير… وبعد ذٰلكَ كله ما زال أهل الوقاحة يشككان في نزاهة أردوغان وحزبه الحكم!!!

هٰذا وحده صفعة بل طعنة نجلاء لكل من يشكل في الديمراطية التي يقوم عليها أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولكل من يشكك في أمانة أردوغان وحزبه الحاكم.

وعلىٰ أي حال، ولنكن واقعيين أكثر، هٰذه الديمقراطية التركية ليس من ابتكار أردغان ولا من إنشاء حزب العدالة والتنمية، لقد جاء أردوغان وحزبه إلىٰ السلطة بهٰذه الديمقراطية.

إذا أعدنا النظر في تاريخ الانتخابات التركية وجدنا أنَّها ديمقراطية منذ وصول عدنان مندريس إلىٰ السلطة. نعم كان الجيش هو صاحب السلطة النهائية تحت شعار حماية الديمقراطية، وكلما فاز المؤمنون بالله، ولا أقول الإسلاميين، انقلب عليهم العسكر كما فعلوا مع أول من وصل منهم إلىٰ السلطة وهو عدنا مندريس.

ومنذ ذٰلكَ الحين لم يكن أمام سلطة العسكر إلا حل الأحزاب الإسلامية التوجُّه قبل الوصول إلىٰ الانتخابات أو الانقلاب عليها بعد الوصول إلىٰ السلطة.

وهٰذا الإرث مستمر ولٰكن التغير الوحيد هو تحييد سلطة العسكر رويداً رويداً، وقد لاحظنا قبل سنتين كيف أراد العسكر الانقلاب مثل العادة وإن كان بشعار إسلامي فيما بدا، ولۤكنَّهُم لو نجحوا في انقلابهم لما كانوا إلا نسخة من العسكر السابقين «حماة الديمقراطية» من وصول الإسلام إلىٰ السلطة.

ومن ثمَّ فإن تركيا علىٰ مدار سبعين سنة هي مدرسة في الديمقراطية في الانتخابات، أما في حقوق الممارسة فأشهد أنَّها فقط مع العدالة والتنمية من أهم المدارس الديمقراطية، مع أبرز الدول التي تحترم الإنسان والمواطن واختلاف الرأي والمخالفين في الرأي. بل أزعم أن مساحة الحريات الشخصية ومساحة المخالفين في الرأي بالكاد تجد مثلها في دولة تزعم العراقة في الديمقراطية. تابع ما يدور ويحدث وقارن واحكم… احكم بالمنطق والواقع لا بالهوى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى