بحوث ودراسات

إطلاق لفظ “القرامطة” على المسلمين ذنب عظيم

د. علي محمّد الصلابيّ

عرض مقالات الكاتب

23/ 6/ 2019

في الصراع الدائر بين الليبيين، والذي غابت فيه لغة العقل والمنطق والمصلحة العليا للشعب ومبادئه وقيمه الراسخة، تنابز الناس بالألقاب فيما بينهم “الجرذان – الطحالب – الأزلام – الخوارج”، ودخل في قاموس المصطلحات الهابطة والألفاظ الشنيعة لفظ “القرامطة”، وتناسوا قول الله تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الحجرات: 11. ومن باب التحذير والتنبيه على خطورة تداول هذه المصطلحات الظالمة وإطلاقها بين المسلمين في صراعهم السياسي والعسكري، فإن هذا المقال هو لتبيان من هم القرامطة؛ جذورهم وتاريخهم ومعتقداتهم، كما سيلحقه مقال ثانٍ في التحذير من الافتراء في إطلاق الطرف الآخر على خصومهم ب”الخوارج”، وجميعهم رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وتمسكوا بالقرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتوارثوا هذا الدين من أئمة عظام وفقهاء راسخين عرفوا بعلمهم الغزير وتربية الشعوب على مر السنين على كتاب الله وسنة رسوله الكريم.

  1. نشأة القرامطة ونسبهم:
    تشير أكثر المصادر إلى أنّ مؤسّس مذهب القرامطة هو حمدان بن الأشعث الملقّب بقرمط، وينتسب القرامطة إليه، ويعود في أصله إلى خوزستان، وقد عرف في سواد الكوفة حوالي عام 258هـ، وكان يظهر الزهد والتقشف في أول عهده، فاستمال إليه بعض الناس، وقد لقب بـ(قرمط) لقصر كان فيه، إذ كان قصير القامة ورجلاه قصيرتان بشكل يلفت الانتباه، فكان خطوه قصيرا، الأمر الذي جعله ناقما على المجتمع يبدي التأفف والتضجر ويحقد على الناس جميعا ويظهر التذمر من كل المجتمعات التي تحيط به أو التي ينتقل إليها ويضمر البغض على كل وضع… وقد التقى مرة بأحد دعاة التشيع وهو (حسين الأهوازي) الذي كان يتجول في سبيل دعوته، فاجتمع به وهو في طريقه من السلمية في بلاد الشام إلى سواد الكوفة، وذلك حوالي عام 265هـ، ولم يلبث أن أصبح (قرمط) من أتباع (حسين)، إذ كان حسين بدعوته ينتقد العباسيين ويتذمر من وضعهم، فلقي هذا مكانا في قلب (حمدان)، وعندما مات (حسين) أصبح (حمدان) القائم بالأمر مكانه، بناء على عهد منه، حيث ترقى (قرمط) في درجات الدعوة الإسماعيلية بسرعة فائقة نتيجة جده ونشاطه.
  2. أبرز الشخصيات القرامطية:
    يتضح لنا تطور الحركة من خلال دراسة شخصياتها الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون المجوسية وتركوا أثراً كبيراً على سيرهم وتشكلها عبر مسيرة طويلة من الزمن:
  • بدأ عبد الله بن ميمون القداح رأس الأفعى القرامطية بنشر المبادئ الإسماعيلية في جنوب فارس سنة 260ه.
  • ومن ثم كان له داعية في العراق اسمه الفرج بن عثمان القاشاني المعروف بذكرويه الذي أخذ يبث الدعوة سراً.
  • وفي سنة 278 هـ نهض حمدان قرمط بن الأشعث يبث الدعوة جهراً قرب الكوفة ثم بنى داراً سماها دار الهجرة وقد جعل الصلاة خمسين صلاة في اليوم.
  • هرب ذكرويه واختفى عشرين عاماً، وبعث أولاده متفرقين في البلاد يدعون للحركة.
  • استخلف ذكرويه أحمد بن القاسم الذي بطش بقوافل التجار والحجاج وهزم في حمص وسيق ذكرويه إلى بغداد وتوفي سنة 294هـ.
  • قام بالأمر بعده ابنه سليمان بن الحسن بن بهرام ويعرف بأبي طاهر الذي استولى على كثير من بلاد الجزيرة العربية، ودام ملكه فيها 30 سنة، ويعتبر مؤسس دولة القرامطة الحقيقي ومنظم دستورها السياسي الإجتماعي، بلغ من سطوته أن دفعت له حكومة بغداد الإتاوة ومن أعماله الرهيبة أنه:
    فتك هو ورجاله بالحجاج حين رجوعهم من مكة ونهبوهم وتركوهم في الفقر حتى هلكوا.
    ملك الكوفة أيام المقتدر 295-320هـ لمدة ستة أيام استحلها فيهم.
    هاجم مكة عام 317ه، وفتك بالحجاج، وهدم زمزم، وملأ المسجد بالقتلى، ونزع الكسوة، وقلع البيت العتيق، واقتلع الحجر الأسود، وسرقه إلى الأحساء، وبقي الحجر هناك عشرين سنة إلى عام 339هـ.
  • توفي سليمان فآلت الأمور لأخيه الحسن الأعصم الذي قوي أمره واستولى على دمشق سنة 360هـ، ثم توجه إلى مصر ودارت معارك مع الخلافة الفاطمية، لكن الأعصم ارتد وانهزم القرامطة وتراجعوا إلى الأحساء.
  • خلع القرامطة الحسن لدعوته لبني العباس، أسند الأمر إلى رجلين هما جعفر وإسحاق اللذان توسعا ثم دار الخلاف بينهما وقاتلهم الأصفر التغلبي الذي ملك البحرين والأحساء وأنهى شوكتهم ودولتهم.

3. انتشار المذهب القرمطي:
لقد استغلّ القرامطة – كغيرهم من الحركات الباطنيّة الهدامة – الظروف المحيطة بهم، خاصّة وأنّ بداية دعوتهم وافقت القضاء على حركة الزنج، ولقد كانت الدولة الإسلاميّة آنذاك في بداية ضعفها وتسلّط العسكر عليها من ناحية، وانتشار الشعوبيّون في أرجائها، وعمّ الجهل في تعاليم الإسلام بين أبنائها، ولقد ركّز القرامطة في دعوتهم على الأراضي الخصبة بنظرهم كالموالي والعبيد الحاقدين على أسيادهم، والأُجراء والمزارعين الناقمين على أصحاب المهن والأراضي لاعتقادهم بأنّهم لا يعطونهم ما يستحقّونه لقاء كدّهم وتعبهم، ولكي يستقطبونهم ابتدعوا فكرة إشاعة المال، وشيوعيّة الأراضي، وكذلك بثّوا بين الشعوبيّين الحاقدين على دولة الإسلام وعدهم بالقضاء على المسلمين وسلطانهم، وإعادة الملك لهم سواءً كانوا مجوساً أو هنوداً أو يهوداً ونصارى، وبقي عندهم العنصر الرئيسي ألا وهو الشباب، الوقود الأساسي لكلّ تمرّد وثورة، ووجدوا أن خير أسلوب لجذبهم هو بثّ الفكر الانحلالي، وجذبهم بالشهوات، فاستباحوا الزنا والخمر واللواط وسائر المحرّمات، وجعلوا النساء مشاعاً بينهم، وأباحوا نكاح الأقارب من أخوات وبنات وما شابه هذا، بالإضافة إلى التخطيط الدقيق والإرهاب والبطش، كلّ ذلك جعل العنصر الشبابي ينجذب إليهم انجذاب الفراش للنار.
وقد اعتمدوا في نشر دعوتهم على مراحل وأقسام أسموها – كما ذكرها الإمام عبد القاهر الإسفرائيني – على النحو التالي: التفرّس، والتأنيس، والتشكيك، والتلقين، والربط، والتدليس، والتأسيس، والمواثيق بالأيمان والعهود، وآخرها الخلع والسلخ.

4. طبقات المجتمع القرمطي:
وللمجتمع القرمطي ملامحه المتميزة إذ تشكلت في داخله أربع طبقات اجتماعية متميزة:

  • الطبقة الأولى: وتسميهم رسائل إخوان الصفا ” الإخوان الأبرار الرحماء ” وتشمل الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين خمس عشرة وثلاثين سنة. وهم ممن على استعداد لقبول الأفكار القرمطية عقيدة وتمثلاُ في نفوسهم.
  • الطبقة الثانية: ويعرفون بـ “الإخوان الأخيار الفضلاء ” وتشمل من كانت أعمارهم بين الثلاثين والأربعين سنة وهي مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، ويكلفون بمراعاة ” الإخوان ” وتعهدهم وإظهار العطف عليهم ومساعدتهم.
  • الطبقة الثالثة: وتشمل أولئك الذين هم بين الأربعين والخمسين من العمر، ممن يعرفون الناموس الإلهي وفق المفهوم القرمطي ويتمتعون بحق الأمر والنهي ودعم الدعوة القرمطية ودفع خصومها، وهؤلاء هم الذين ألفوا الرسائل العقائدية القرمطية وعمموها في الآفاق.
  • الطبقة الرابعة: ويطلق على أصحاب هذه الطبقة اسم “المريدون” ثم “المعلمون” ثم “المقربون” إلى الله وتشمل من تجاوزت أعمارهم الخمسين سنة؛ وهي أعلى المراتب القرمطية.

5. عقيدتهم وأفكارهم:
اعتمدت عقيدة القرامطة كغيرها من فرق الباطنيّة على إخفاء ما يؤمنون به وإظهار أنفسهم على أنّهم مسلمون ليسهل عليهم الاندماج في المجتمع والدعوة إلى دينهم، حتّى إذا وثقوا من تابعهم أطلعوه على خفايا عقيدتهم، وهم يتأوّلون الأحكام الشرعية على ما يوافق ضلالاتهم وأهوائهم، فيتأوّلون قوله سبحانه وتعالى: {واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين}[الحجر: 99] على أنّه من عرف التأويل فقد أتاه اليقين، وعليه فمن عرف معنى العبادة فقد سقط عنه فرضها، وأوّلوا كذلك أركان الشريعة: فالصلاة عندهم موالاة إمامهم، والحجّ زيارته وإدمان خدمته، والصوم هو الإمساك عن إفشاء سرّ الإمام لا الإمساك عن الطعام والشراب، والمراد بالزنا عندهم إفشاء سرّهم بغير عهد وميثاق.
وقد اختلف المؤرّخون والمصنّفون في أصل مذهبهم، فمنهم من قال بأنّهم صابئة، ومنهم من ذكر بأنّهم من المجوس الإباحيّة أتباع مزدك المؤبد كما ذكر ابن حزم الظاهري حين وصفهم فقال: ومن هذه الأصول الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة، قائلتان بالمجوسيّة المحضة، ثمّ مذهب مزدك المؤبد وكان يقول بوجوب تواسي (تساوي) الناس في النساء والأموال.
وقد نسبهم الإمام عبد القاهر الإسفرائيني إلى الدهرية الزنادقة فيقول: الذي يصحّ عندي من دين الباطنيّة أنّهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلّها لميلها إلى استباحة كلّ ما يميل إليه الطبع، ويستدلّ على قوله برسالة عبد الله بن الحسين القيرواني إلى سليمان بن الحسين بن سعيد الجَنَّابي في كتابهم « السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم » يوصيه فيها: أدع الناس بأن تتقرّب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كلّ واحد منهم بأنّك منهم، فمن آنست منه رشداً فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به فعلى الفلاسفة مُعَوَّلُنا، وإنا وإيّاهم مجموعون على ردّ نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدم العالم، لولا ما يخالفنا فيه بعضهم من أنّ للعالم مدبّراً لا نعرفه.
وحينما قام القرامطة بحركتهم أظهروا بعض الأفكار والآراء التي تزعمون أنهم يقاتلون من أجلها، فقد نادوا بأنهم يقاتلون من أجل آل البيت، وإن لم يكن آل البيت قد سلموا من سيوفهم.

  • أسسوا دولة شيوعية تقوم على شيوع الثروات وعدم احترام الملكية الشخصية.
  • يجعلون الناس شركاء في النساء بحجة استئصال أسباب المباغضة فلا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه وأشاعوا أن ذلك يعمل زيادة الألفة والمحبة (وهذا ما كان عليه المزدكيون الفارسيون من قبل).
  • إلغاء أحكام الإسلام الأساسية كالصوم والصلاة وسائر الفرائض الأخرى.
  • استخدام العنف ذريعة لتحقيق الأهداف.
  • يعتقدون بإبطال القول بالمعاد والعقاب وأن الجنة هي النعيم في الدنيا والعذاب هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد.
  • ينشرون معتقداتهم وأفكارهم بين العمال والفلاحين والبدو الجفاء وضعفاء النفوس وبين الذين يميلون إلى عاجل اللذات، وأصبح القرامطة بذلك مجتمع ملاحدة وسفاكين يستحلون النفوس والأموال والأعراض.
  • يقولون بالعصمة وإنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يؤول الظاهر ويساوي النبي في العصمة، ومن تأويلاتهم:
    الصيام: الامساك عن كشف السر.
    البعث: الاهتداء إلى مذهبهم.
    النبي: عبارة عن شخص فاضت عليه من الإله الأول قوة قدسية صافية.
    القرآن: هو تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه ومركب من جهته وسمي كلام الله مجازاً.
  • يفرضون الضرائب على أتباعهم إلى حد يكاد يستغرق الدخل الفردي لكل منهم.
  • يقولون بوجود إلهين قديمين أحدهما علة لوجود الثاني، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه، الأول تام والثاني ناقص، والأول لا يوصف بوجود ولا عدم فلا هو موصوف ولا غير موصوف.
  • يدخلون على الناس من جهة ظلم الأمة لعلي بن أبي طالب وقتلهم الحسين.
  • يقولون بالرحمة وأن علياُ يعلم الغيب فإذا تمكنوا من الشخص أطلعوه على حقيقتهم في إسقاط التكاليف الشرعية وهدم الدين.
  • يعتقدون بأن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالاً.
  • يدعون إلى القرمطة اليهود والصابئة والنصارى والمجوسية والفلاسفة وأصحاب المجون والملاحدة والدهريين، ويدخلون على كل شخص من الباب الذي يناسبه.

6. انتشار القرامطة ومواقع نفوذهم:
دامت هذه الحركة قرابة قرن من الزمان، وقد بدأت من جنوبي فارس وانتقلت إلى سواد الكوفة والبصرة وامتدت إلى الأحساء والبحرين واليمن وسيطرت على رقعة واسعة من جنوبي الجزيرة العربية والصحراء الوسطى وعمان وخراسان. وقد دخلوا مكة واستباحوها واحتلوا دمشق ووصلوا إلى حمص والسلمية. وقد مضت جيوشهم إلى مصر وعسكرت في عين شمس قرب القاهرة ثم انحسر سلطانهم وزالت دولتهم وسقط آخر معاقلهم في الأحساء والبحرين.

7. قرامطة الأحساء وخروجهم على الخلافة:
لقد مكث القرامطة عهداً من الزمن ينشرون دينهم ويبثّون عقيدتهم الباطنيّة بين العوام والجهلة، ومع ازدياد أعدادهم اتّجهوا إلى تنظيم صفوفهم، وإعداد خططهم، فلمّا قويت شوكتهم واشتدّ ساعدهم ووجدوا أنّ الفرصة سانحة للخروج على دولة الخلافة أعلنوا تمرّدهم، وكانت بدايتهم من البحرين عام 286 هـ، وكان على رأسهم أبو سعيد الجنابي القرمطي، ويقال أنّه كان يعمل كيّالاً في البصرة، ويعود أصله إلى الأهواز، وفي رواية أخرى من البحرين، وكان جلّ جنده آنذاك من بقايا فلول الزنج والخرميّة وبعض الأعراب، وقد بدأ تمرّده بغزو القرى المجاورة لمكان إقامته في الأحساء يعيث إفساداً فيها مرتكباً الأعمال الوحشيّة من قتل وتذبيح واستباحة أموال وأعراض، وقد كان يتّبع خطّة الإرهاب لغايتين اثنتين أوّلهما: إرضاء أتباعه وشفاء صدورهم، وبثّ الأحقاد التي يكنّونها تجاه المسلمين، والثانية: لإرهاب أعدائه وجعلهم يتركون له حواضرهم وأموالهم قبل دخوله لبلادهم، ولم يمض عام 286هـ حتّى كوّن لنفسه جيشاً عظيماً، واحتلّ أغلب المناطق المحيطة به كالقطيف وغيرها من المدن، وحوّل وجهته للبصرة بقصد أخذها، وقد وجّه لهم الخليفة العبّاسي المعتضد جيشاً قوامه عشرة آلاف بإمرة العبّاس بن عمرو الغنوي، والتقى الجيشان في الطريق إلى البصرة وكانت نتيجة المعركة أن أُسِر الجيش العبّاسي بكامله وأميرهم معهم، وكان جزاؤهم أنّه أُحضر الأسرى جميعاً فأمر بقتلهم وتحريقهم ولم يبقِ منهم إلاّ أميرهم العبّاس بن عمرو الذي أرسله إلى الخلفية العبّاسي نذيراً وليعلمه بمقدار قوّته.
وقد استمرّ أبو سعد الجنابي في حربه للمسلمين وفتكه بهم، وإن كان النصر في أغلب حروبه معهم بجانبه إلاّ أنّه هُزِم مراراً، وأشهر المعارك التي خسرها كانت معركة عام 288 هـ مع الجيش الإسلامي بقيادة الأمير بدر، وكانت نهايته – لعنه اللـه – على يد خادم له عام 301هـ حيث قتله، وقتل معه عدداً من قادة القرامطة، واختلف المؤرّخون في سبب قتل خادم أبي سعيد له، وإن كانوا قد اتّفقوا على طريقة مقتله، والقول الأرجح أنّه في إحدى غزواته أسر أحد الغلمان واستخلصه لنفسه وجعله على طعامه، وكان هذا الغلام لا يزال على دين الإسلام يكتمه عن أبي سعيد، فلمّا رأى فسق أبي سعيد وفجوره أكمن في نفسه قتله والتخلّص منه، وقد حانت له الفرصة حين دخل والقرمطيّ الحمام وحاول أن يفجر به فقتله الغلام، ثمّ ذهب الغلام وأخبر أحد قوّاد القرمطي بأنّ أبا سعيد يطلبه في الحمّام، فلمّا دخل ذلك القائد الحمّام عمد إلى قتله أيضاً، وفعل ذلك بخمسة منهم أيضاً، ولمّا اكتشف القرامطة أمره قبضوا عليه وقَرّضوا لحمه بالمقاريض فتوفّي – رحمه الله – بعد أن خلّص الأمّة من خمسة من أشدّ أعداء الإسلام ومن قواد جيش الكفر.
واستلم بعده قيادة القرامطة ولده سعيد ثمّ سليمان الذي خرج على أخيه، وقد كان سليمان من أشدّ ما ابتُلي به المسلمون من أعداء في تاريخهم، وقد كان زيادة على كفره وخروجه عن الملّة الإسلامية قد أباح نكاح المحارم، وأشاع اللواط ونكاح الغلمان، بل أنّه أوجب قتل الغلام الذي يمتنع على من يريد الفجور به، وكذلك أمر بمعاقبة كلّ من أطفأ ناراً، فإنّ أطفأها بيده قطعت يده، وإن أطفأها بالنفخ قطعوا لسانه، وذلك يظهر تعصّبهم لدين آبائهم من المجوس، ولم يترك – لعنه اللـه – رذيلة إلاّ فعلها، وقد كان يفعل ما يعجز اللسان عن ذكره من أفاعيل إجرامية بكلّ أرض وشعب تصل قبضته إليه، وهو أوّل من سنّ هتك الأعراض الجماعي أمام أعين محارمهم، وقد أدّت أفعاله تلك إلى نشر الرعب في بلاد المسلمين، وقد دخل البصرة عام 311هـ في ربيع الآخر فاستباح الحريم والأموال، وذبح الشيوخ والأطفال، وأحرق المسجد الجامع ومسجد طلحة، وكذلك قطع الطريق على حجّاج العراق عام 312هـ، فأخذ الأموال والحريم والمتاع، وترك الرجال بدون طعام أو ماء أو ركب فمات أغلبهم جوعاً وعطشاً، ثم أرسل يطلب من الخليفة المقتدر أن يتخلّى له عن الأهواز، وحين رفض المقتدر ذلك اتّجه إلى الكوفة فدخلها وقتل أهلها ونهب ما استطاع نهبه وجعلها مباحة لجنده وزبانيته، وقد حاول قطع الطريق على حجّاج العراق مرّة أخرى ولكنّ حماة الركب العراقي اشتبكوا معهم بحرب خاطفة حتّى استطاعوا إعادة الركب إلى العراق ولم يحجّوا عامهم ذلك، وبقي على حاله تلك في قطع طريق الحجّاج أكثر أيّامه، حتّى أنّ حجّاج خراسان والعراق والمشرق توقّفوا عن الذهاب إلى الحج، وفي عام 315هـ قصد بغداد والتقى بجيش المسلمين في الأنبار وكان عدد جيشه ألف فارس وسبعمائة راجِل، وجيش الخليفة أربعين ألف فارس، وعلى الرغم من ذلك فقد فرّ جيش العراق حتّى قبل أن يلتقوا بجنود القرمطيّ، فدخل القرمطي الأنبار وحاول دخول هيت ولكنّ أهلها حصّنوها وأنقذوها من يد القرمطيّ، وفي عام 316هـ دخل القرمطيّ الرحبة وقتل رجالها، واستحلّ نساءها وأموالها، وحاول دخول الرقة إلاّ أنّه رُدّ عنها، ولم يحجّ أحد في هذه السنة خوفاً من القرامطة.

8. هجوم القرامطة على مكة المكرمة:
في عام 317هـ اتّجه عدوّ اللـه سليمان أبو طاهر القرمطيّ إلى مكّة فدخلها يوم التروية فقتل الحجيج في المسجد الحرام وداخل البيت المعمور، ورمى جثثهم في بئر زمزم، وقتل أمير مكّة ابن محارب، وعرّى البيت وقلع بابه، وقلع الحجر الأسود، وأخذه معه إلى عاصمته هجر، وأقام بمكّة ستّة أيّام، وقد رُوِيَ أنّه قد قتل ثلاثين ألفاً من الحجّاج ومن سكّان مكّة، وكان ينشد وهو يقتل الحجّاج والأبرياء من سكّان مكّة: “أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا” وكان من جملة من قُتل ذلك العام التابعيّ الجليل عبد الرحمن بن عبد اللـه بن الزبير، وقد سبى ما يقارب الثلاثين ألفاً من النساء والغلمان، وبقي في إفساده وقتله للمسلمين وقطع طريق الحجّاج وتقتيلهم حتّى امتنع الناس عن الحجّ كما حصل مع حجّاج بغداد بين عام 319- 327هـ، حيث لم يذهبوا لتأدية فريضة الحجّ خوفاً منهم ومن بطشهم، وقد حاول الركب العراقي خلال هذه الفترة أكثر من مرّة الذهاب للحج كما حدث عام 323هـ، إلاّ أن تعرّض القرمطيّ لهم وقتل الحجّاج، وسبي الحريم جعلهم يقلعون عن محاولاتهم تلك، حتى أمّنهم القرامطة مقابل دفع ضريبة مقدارها خمسة دنانير على كلّ جمل وذلك عام 327هـ، وكانت أوّل مرة يدفع الحاج ضريبة لقاء توجّهه لأداء فرضٍ, شرعه اللـه عليه.
ومع هلاك سليمان القرمطيّ عام 331هـ وانقسام الحكم بين أبنائه، خفّت قوّة القرامطة وتهديدهم لدولة الإسلام، واقتصرت أعمالهم على قطع الطريق وبعض الهجمات الخفيفة لتأمين مصدرٍ, لعيشهم، وقد كان الزمن كفيلاً بزيادة ضعفهم وحاجتهم إلى المال، فما أتى عام 339هـ حتّى استبدلوا الحجر الأسود بخمسين ألف دينار أعطاهم إيّاها الخليفة المطيع، وذلك إن دلّنا على شيء فإنّما يدلّنا على مقدار ضعفهم وحاجتهم، وقد تكفل اللـه – سبحانه وتعالى- أمر تلك الطائفة وإن كان قد أمهلها بعض الوقت فقضى عليهم ومحى ذكرهم، وجعلهم عبرة لمن يعتبر، ولم يبقَ في أيّامنا هذه إلاّ بقايا لهم في تلك الديار.

9. قرامطة بلاد الشام:
يعدُّ مؤسّس القرامطة في بلاد الشام زكرويه بن مهرويه، إذ أنّه عندما شقّ حمدان وعبدان عصى الطاعة على مؤسّس مذهبهم الإسماعيلي، وأسّس حمدان قرمط مذهبه الخاص، بقي زكرويه على ولائه للقداحيين وذلك لغاية في نفسه، وقد حاول مراراً التخلّص من مؤسّسي المذهب القرمطي كعبدان وغيره، وقد نجح في قتل عبدان إلاّ أنّ نقمة أتباع عبدان عليه جعلته يختبئ في جنوب العراق، وبعث أبناءه إلى بلاد الشام عامّة، وإلى السلمية الإسماعيلية بشكل خاص لبثّ دعوته والسيطرة على أتباع أسرة ميمون القداح، وقد نجح في ذلك ممّا دفع أبناء ميمون القداح للهجرة إلى المغرب، فأسّسوا هناك دولة العبيديين (الفاطميين) وإن كان أبناء زكرويه اتّخذوا أسماءً أخرى، وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر الصادق كما فعل يحيى بن زكرويه حين ادّعى أنّه حفيد إسماعيل بن جعفر الصادق إلاّ أنّهم لم يستطيعوا أن يلصقوا أنفسهم بأهل البيت كما نجح العبيديون.
وقد خرج قرامطة الشام عن الخلافة، حين بعث زكرويه من مخبئه في العراق ابنه يحيى إلى بلاد الشام مع أتباع له من السلمية ومن بادية الشام وذلك عام 289هـ، وهاجموا الرقة، وانتصروا على عسكرها، وساروا إلى دمشق وحاصروها، إلاّ أن جيوشها والمدافعين عنها رفضوا تسليمها، واستطاع المدافعون عنها الصمود بمساعدة من أتاهم من مصر ومن الموصل بعد معارك طاحنة قتل فيها الكثير من الجيش الإسلامي، وما أن آلت إمارة الجيوش إلى بدر الحمامي صاحب ابن طولون حتّى انقلبت موازين المعركة لصالح المسلمين، فهزم عساكر القرامطة، وقتل يحيى بن زكرويه القرمطي، وقبل مقتله – لعنه اللـه – أخبر جيشه بأنّه سيتركهم ويطلع إلى السماء، وأنّه سيبقى فيها أربعين يوماً وأنّ أخاه الحسين سيأتي ليحلّ محلّه في قيادة الجيش، وأمرهم بالسمع لأخيه والطاعة له، ومع استلام الحسين لإمارة الجيش القرمطي انسحب من دمشق، وهاجم حماة والمعرة وبعلبك، وكان يبثّ حقده على كلّ منطقة يصل بطشه إليها فيقتل أهلها، ويستحلّ نساءها، ويعيث في الأرض الفساد، وقصد حلب في عام 291هـ غير أنّهم هُزموا وعادوا إلى حمص، ولكنّهم فوجئوا بجيش الخليفة هناك وعلى رأسه محمّد بن سليمان الذي ما لبث أن اشتبك معه في معركة كان النصر فيها للمسلمين والخزي والعار للقرامطة، وأُسِر الحسين هذا وأُرسِل إلى الخليفة ببغداد، فعذّبهم وقطّع أيديهم ثمّ أحرقهم، فلمّا رأى زكرويه أنّه قد فقد ولديه رأى أن لا شيء أمامه إلاّ أن يظهر نفسه، فجمع جموعاً واتّجه بهم إلى الكوفة، وقاتل أهلها في عام 293هـ يوم النحر، وقاتله أهلها قتالاً ثبتوا فيه وردّوا جيوشه إلى القادسيّة، ووجّه الخليفة جيشاً لحربهم إلاّ أنّ جيش الخليفة هُزم شرّ هزيمة، مما أعطى قوّة معنوية لزكرويه القرمطيّ، وبدأ في قطع الطريق على الحجّاج كصاحبه القرمطيّ السابق، وكان إذا اعترض قافلة للحجّاج لا يترك أحداً من رجالها إلاّ وقتله وأخذ أمواله، ولم يترك امرأة في ذلك الركب إلاّ سباها واستحلّ عرضها، وفي عام 294هـ اعترض قافلة فيها نساء وخواصّاً للخليفة وأموالاً وخزائن له، فقتلوا الرجال وسبوا النساء وأخذوا الأموال، فلمّا علم الخليفة المكتفي بذلك أرسل جيشاً على رأسه وصيف بن صوارتكين والتقى جيش الخليفة بجيش القرمطي، وبعد معركة طاحنة استبسل فيها جيش المسلمين انتهى اليوم الأوّل فيها سجالاً، وما إن أصبح الصبح حتّى رجحت كفّة جيش المسلمين وأعملوا بجيش اللعين السيف، ومع حلول الظهيرة جرح زكرويه وقتل أغلب جيشه وفرّ من بقي منهم فماتوا عطشاً في البادية، وحُمِل زكرويه إلى الخليفة إلاّ أنّه هلك في الطريق بعد خمسة أيّام، فشقّوا بطنه وحملوه إلى بغداد ليجعلوه عبرةً لمن يعتبر، ومع مقتله انتهت سطوى القرامطة في العراق والشام، وبقيت فلول لهم غير ذات أثر هناك.

10. القرامطة في العصر الحديث:
بقيت آثار للقرامطة تغيّر جلودها واسمها من آن لآخر حسب الظروف التي تحيط بهم، وكانوا على مرّ العصور يحملون الحقد في صدورهم للأمّة الإسلام، فما إن تأتيهم الفرصة للكيد للمسلمين حتّى تراهم يسرعون في اقتناصها والعمل بها سواء كانت خيانة أو مساعدة لغاز محتل، كما حصل بمساعدتهم للتتار في العراق وبلاد الشام، وكذلك وقوفهم بجانب الصليبيين في حملاتهم المشهورة ضدّ المسلمين في مصر والشام، ومن بقاياهم الآن جزء منهم في عُمان واليمن يلقّبون بالصوالحيين والمكرمية، ولا تزال بقايا للإسماعيليين البهرة في العراق وفارس والهند، وما زالوا يتربّصون الفرصة للفتك بالمسلمين، وإعادة دولتهم من الشام إلى الجزيرة العربية، وبفضل اللـه ثمّ وعي بعض المسلمين على مرّ العصور فإنّهم لم ولن يستطيعوا القضاء على بيضة الإسلام، وذلك لوعد اللـه بنصرة دينه واستخلاف عباده في الأرض.
إن هذه الحركة كان هدفها محاربة الإسلام بكل الوسائل وذلك بارتكاب الكبائر وهتك الأعراض وسفك الدماء والسطو على الأموال وتحليل المحرمات بين أتباعهم حتى يجمعوا عليهم أصحاب الشهوات والمراهقين وأسافل الناس، وتعتبر عقائدها نفسها عقائد الإسماعيلة في خلاف في بعض النواحي التطبيقية التي لم يستطيع الإسماعيلة تطبيقها خوفاً من ثورة الناس عليهم ويخرجهم من حظيرة الإسلام.


المراجع:

  1. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 – 1987م، ج7.
  2. ابن خلكان، وفيّات الأعلام، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1972م، 6/431.
  3. ابن كثير، البداية والنِّهاية، دار الرَّيان للتُّراث، الطَّبعة الأولى 1408ه، 1988 م، ج11.
  4. أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي المجلد السابع: (تاريخ الجزيرة العربية والعراق)، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1986م، ج7.
  5. عبد القاهر البغدادي الأسفراييني، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1977م، ص 290.
  6. محمد إلهامي، رحلة الخلافة العباسية المجلد الثاني: (العباسيون الضعفاء)، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى 2013م، ج2.
  7. محمود شاكر، القرامطة، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1979م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى