
الحسن محمد ماديك*
توطئة:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد:
فإن اعتقادَ وجوب مسألة من المسائل كإقامة الخلافة بالقوة ورِدَّة المخالف واستحلال دمه وعِرضه ومالِه وكفر من حكم برأيه أو بشرائع وضعية هو الذي عصف بالدولة الراشدة بنشأة الفتنة التي قُتِل بها عثمان رضيَ الله عنهُ وكان قَتَلَتُه المنافقون قد أظهروا الصّلاح وألقَوُا الْـخُطَب في المساجد وأعلنوا الغيرة على الدين تدليسا منهم على العوام، وكذا الخوارج آخر الخلافة الراشدة وكذا سائر الفرق وأهل الأهواء والكلام كلٌّ وجد في الأصول الفقهية مدرسة المتكلمين درعا يحفظ له بِدعته وحصنا يتحصّن به عن نقد العوام أهل الفطرة الذين لا يفهمون منها غير القول بوجوب بعض الشعائر التعبُّدية واستحباب بعضها وكراهة بعضها وغير جواز بعض الأعمال وبعض الملبس والمشرب والمأكل والفروج أو تـحريمِهِ، ولا يفهمون من فلسفتها غير هذا المنطق.
وإنّ الأصول الفقهية المعلومة قد اعتمدَها جميع الأطراف المتناقضة كفقهاء البلاط وفقهاء التنظيمات السرية والجهادية ومِن قبلُ اعتمدها الخوارج وسائر أهل الأهواء والكلام.
إن الحقيقة سواء كانت ابتدائية أو متوسطة أو كليةً ستظل ثابتة لا يزيدها إجماع جميع الإنس والجن عليها ولا ينقصها نكرانهم في عصر من العصور أو عبر التاريخ، وكذلك كليةُ شهادة “أن لا إلـه إلا الله وأنّ مـحمدا رسول الله” لن تنقص بإنكار المنكِرين ولن تزداد بإقرارهم، كما لـمْ يَنقُصْ من وحدانية الله الواحدِ القهّارِ إنكارُ أهل الأرض جميعا ولا إشراكُهم به شركاءَ من دونه قبل أن يُـخالفَهم كلٌّ من نوح وإبراهيم وحدَه بإعلان التوحيد.
إن إجماع الْمُكلَّفين على ما في الكتاب المنزل من عند الله وعلى ما جاء به النبي صلّى اللهُ عليه وسلمَ من العلم والتشريع مع القرآن لا يزيد الوحيَ قوة في الدليل على قوّتِه، وإنما يزداد به علمُ المجمِعين وإيمانُهم على حقيقة من الحقائق.
وتضمن الكتاب المنزل تأصيلَ الْخِطاب امتثالا واجتنابا بِـخِطاب الملائكة والنبيين ثم بخطاب النبـيِّ الأمِّـيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم بخطاب الذين آمنوا ثم مَن دونهم رتبةً فمَن دونهم.
الأصل الأول: خطاب الأعلى يشمل من دونه رتبة
إنّ إبليس كان من الجن وكان له ذرية كما في قوله ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَاَنَ مِنَ الْـجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِـي﴾ [الكهف 50]
ولم يكن إبليس من الملائكة المخاطبين بقوله:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الكهف 50] [الإسراء 61] [البقرة 34]
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الأعراف 11]
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّـي خَالِقٌ بَشَرًا مِّنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص 71 ـ 72]
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّـي خَالِقٌ بَشَرًا مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر 28 ـ 29]
ولقد سجد الملائكة كلهم أجمعون من غير استثناء كما في قوله:
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَـى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر 30 ـ 31]
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَاَن مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [ص 73 ـ 74]
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَـى وَاسْتَكْبَرَ وَكَاَن مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة 34]
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَـمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف 11]
﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْـجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف 50]
ويعني أن إبليس كان من الجن ولم يكن من الملائكة كما لم يتضمن تفصيلُ الكتاب مثل قولنا (إلا إبليس كان من الملائكة ففسق عن الطاعة)، وانقطع إبليس من المستثنى منه فنُصِبَ إذ لم يكن من الملائكة وإنما كان من الجن وكان من الكافرين ولم يكن من الساجدين.
أما الملائكة فلا ذرية لهم ولم يكفروا لحظة واحدة بل كانوا من الساجدين والراكعين.
وأبى إبليس واستكبر أن يكون مع الساجدين وهم أعم من الملائكة كما في قوله:
﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر 32]
﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِـمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ [ص 75]
﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف 12]
وهو المغلَقُ الذي لم يفقهه التراث الإسلامي إذ حسِبوا أنّ إبليس كان يعبد الله مع الملائكة قبل خِطابِهم بالسجود لآدم فشمله الخطاب، وحسِبوا أنّه كان بينهم في السماوات العُلَى فخالفوا صريح القرآن الذي وصف إبليسَ بأنه كان من الكافرين ولم يكن من الساجدين وهيهات أن يكون مع الملائكة المقربين في الملإ الأعلى كافر لم يسجد لله من قبلُ.
ومَن زعم أن وصف إبليس بأنه كان من الكافرين إنما يعني بعد أمره بالسجود لآدم لا قبله فليتأمل قوله ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل 43] ولا يخفى وصفُ ملكة سبإ به قبل مجيئها سليمانَ، وأنها رغم ما أوتيتْ من العقل والفطنة وبُعد النظر والتأمل فقد عبدت الشمس من دون الله لأنها كانت من قوم كافرين فأثّر فيها ما حولها من الناس وما تلقتْه من التصورات وقيود المألوفِ الذي لم تستطع تجاوزَه ولا ثورة عليه بل غلب عليها التقليدُ وتعطيل السمع والبصر والتأمل والتفكر.
ولقد أنكر اللهُ على إبليس ألا يكون مع الساجدين لآدم وأنّ لا يَسجد إذ أمرَه مما يعني دخول مَن دون الملائكة من المخلوات في أمْرِ الملائكة بالسجود فسجد السّاجدون وهم أعم من الملائكة وشذّ غير الساجد وهو إبليسُ وحدَه الذي فسق عن أمر ربه.
وتضمّن تفصيل الكتاب المنزل أصلا من أصول الخطاب والتكليف وهو ما يسمى لدى التراث الإسلامي بأصول الفقه، وكان أمر الملائكة بالسجود لآدم يشمل معهم مَن دونهم من المخلوقات يومئذ فسجد الملائكة كلهم أجمعون وسجد بسجود الملائكة الساجدون غير الملائكة وشذ إبليس وحده، ويعني أن خطاب الأعلى يشمل من دونه.
وفقِه الخِطابَ جميعُ المخلوقات من الدواب والطير يومئذ وهم أمم أمثال بني آدم كما في قوله ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِـي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِـجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِـي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام 38] وكانوا يومئذ من الساجدين إذ فقهوا أن خطاب الأعلى وتكليفه يشمل من دونه رتبة.
وتفصيل الكتاب المنزل ترتيب المخلوقات كالتالي:
1. الملائكة والنبيون والرسل.
2. النبـيّ الأمّـيّ صلّى الله عليه وسلّم
3. الذين آمنوا وهم صحابة النبي والرسول خاصة وكما بينت في مدلول الإيمان في أصول التفسير.
4. المؤمنون وهم الأجيال اللاحقة بعد الصحابة من المؤمنين في أمة النبي.
5. الناس.
ولخطاب بني آدم دلالة أخرى بيّنتها في تأصيلي التفسير.
يتواصل…
من كتابي موسوعة التفسير قسم تجديد أصول التفسير قسم أصول الفقه
*باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة