بحوث ودراسات

الضمائر

من موسوعة التأصيل لتفسير”معاني المثاني”

الحسن محمد ماديك*


إنّ قواعدَ النحو العربي والإعرابِ ترجمةٌ حرفيّةٌ قواعدَ النحو الفارسي السابِقِ تدوينًا الوافِدِ ترجمةً أواخر القرن الثاني الهجري، وغلبَ الاستنساخُ فلم تستغرقْ قواعدُ النحو والإعراب مِعشارَ سَعَة لِسان العربِ ومعانيه الوافِرة العامِرةِ بتعدُّدِ معانِي الحرف والكلمة والمضمر حسب السياقِ والعوامل.
وكان جهدي القاصِرُ منذ عشرين حوْلًا في سبيل تأصيل التفسير والقراءات وفقه المرحلة سبَبًا مباركا ـ جعلنِـي بالتَّتَبُّع والاستطراد واستنطاق المعاني ـ أُقَرِّرُ تأصيل قواعد النحو العربي وقواعد الإعراب تقريرَ باحِثٍ لا يستأنِسُ بموافقة المأْلُوفِ الملْفُوفِ الْمَحفوف بمواطِن النّقْصِ والْخلَلِ والقُصور.
وظَلَّتْ تلاوتـي التَّدَبُّرِيّةُ الاستنطاقيّة زَادًا أتزَوَّدُ به كلَّمَا قَصُرَتِ الْيَدُ عن نفقةِ العِيَالِ وإصلاحِ الْحَالِ.
ولا يزال القرآنُ العظيم أكبرَ مرجعيَّة لتأصيلِ فقه لِسان العرب.
أَولًا: ضمير جماعة الغائبين.
تنخرمُ ولا يَطَّرِدُ قاعِدة النحو في التفرقة بين ضميريْ التذكير والتأنيث في قوله تعالى:
﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِـي أَنْتُمْ لَـهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَـهَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء 52 ـ 53]
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّـهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا سَـمِعْنَا فَتًـى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء 58 ـ 59 ـ 60] ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء 63] ﴿فَرَاغَ إِلَـى ءَالِـهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصافات 91 ـ 92 ـ 93] ﴿وَاجْنُبْنِـي وَبَنِـيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم 35 ـ 36] ولم يتجاوزِ النحاةُ وصفَ الضمير المؤنث الغائب المفرد في أوّل الأنبياء، ووصفَ ضمير جماعة الذكّور الغائبين في حرف الصافات وثاني الأنبياء وثالثها، جَلْبًا منهم مقاييسَ أَلْسِنةٍ أقصَرُ باعا من اللسان العربيّ المبين، غيرَ متأمِّلين دلالة وصْفِ التماثيل بصيغة واحدة في أول الأنبياء هي: ﴿هَـذِهِ﴾ ﴿التِـي﴾ ﴿لَـهَا﴾ ﴿لَـهَا﴾.
وغيرَ متأمِّلين دلالة وصف التمثال الأكبر بصيغة ﴿إِلَيْهِ﴾ ﴿فَعَلَهُ﴾ ﴿هَذَا﴾.
وغير متأمّلين دلالة وصف التماثيل في سائر سورة الأنبياء بصيغة واحدة هي: ﴿فَجَعَلَـهُمْ﴾ ﴿لَـهُمْ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ ﴿يَذْكُرُهُمْ﴾ ﴿كَبِيرُهُمْ﴾ ﴿فَاسْأَلُوهُمْ﴾ ﴿كَانُوا﴾ ﴿يَنْطِقُونَ﴾ ﴿تَأْكُلُونَ﴾ ﴿مَا لَكُمْ﴾ ﴿لَا تَنْطِقُونَ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ﴾.
وغير متأمّلين دلالة وصف الأصنام في سورة إبراهيم بصيغة: ﴿إنَّهُنَّ﴾ ﴿أَضْلَلْنَ﴾.
وتتراءى للنحاة وغيرِهم صيغة التأنيث المفرد في الأمثلة الأولى، وصيغة التذكير المفرد في الأمثلة الثانية، وصيغة الجمع المذكّر في الأمثلة الثالثة، وصيغة الجمع المؤنث في الأمثلة الرابعة.
إنّ الضمير (هُم) و (هنَّ) خارج مواطن التذكير والتأنيث وَرَدَ للدلالة على الاستقصاء والتفصيل على عكس صيغة الإجمال المطّرِدة في الضمير الغائب المفرد نحو (ها) ونحو (هَذِهِ) ونحو (فَعَلَهُ).
فمن الأول: للتفصيل والاستقصاء قولُه تعالى ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّـــهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَـمَّهُنَّ﴾[البقرة 124] ويعني أنه استوفى ووفَّـى تفصيلا تلك الكلمات لم يقصُرْ عن شيءٍ منها كما في قوله تعالى ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الذِي وَفَّـى﴾ [النجم 37].
وقولُه ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾[البقرة 260] أي استوف التقطيع ولا تُبْقِ معك منه شيئا.
وقولُه ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِـحَمْدِهِ﴾[الإسراء 44] يعني تفصيلا يشمل من في السماوات ومن الأرض.
وقوله ﴿وَاسْجُدُوا للهِ الذِي خَلَقَهُنَّ﴾[فصلت 37] يعني تفصيلا لا يتخلّف عنه الشمس ولا القمر ولا غيرهما.
وقولُه ﴿الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِـي الْـحَجِّ﴾[البقرة 197] يعني التكليف بالإعراض عن الرفث والفسوق والجدال تفصيلا في جميع أشهر الحج يستوي فيه مَن نوَى القيام بفريضة الحج ومَن شرع في السفر إليه.
وكذلك دلالة قوله تعالى ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء 63] على الاستقصاء والتفصيل أي اسألُوا كل واحد من التماثيل تفصيلا ولا تستثنُوا منهم أحدا ليظهر لكم عجزه.
وكذلك دلالة قوله ﴿وَقَالَ الْـمَلِكُ إِنِّـي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِـمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ [يوسف 43] أي أن البقرات العجاف استوفت أكل البقرات السمان ولم تبق منهن شيئا.
ومن الثاني للدلالة على الإجمال قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِـمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِـي خَرَابِهَا﴾[البقرة 114] أي إجمالا كمنع بعض المساجد والسعي في خراب بعضها ولا يلزم لوصفه بأظلم الظلم مَنْعُه جميع المساجد.
وقولُه ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِـي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَـمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف105] أي إجمالا ولن يستقصيَ الناس أبدا جميعَ الآيات في السماوات والأرض.
ولقد اجتمع الضميران ضمير الغائب المفرد ﴿مِنْهَا﴾ وضمير الجمع الغائب ﴿فِيهِنّ﴾ في قوله تعالى ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [براءة 36] ويعني الأول تخصيص أربعة من إجمال اثني عشر شهرا ويعني الثاني تفصيل تحريم الظلم في الأشهر الحرُم حرمة لا تستثني منه شيئا.
يتواصل…

الـحسن مـحمد ماديك: باحث متخصص لتأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى