مقالات

أسامة آغي: في حضرة الغياب…

أسامة آغي

عرض مقالات الكاتب

إلى روح صديقي الشاعر تميم ضياء صائب الذي مضى إلى سمائه وتركنا في انتظار زوال الليلة الداجية.

لا تزال ذاكرتي العجوز تحتفظ لك بمهرجان دفقك الشعري في صباك الأول، في تلك الأيام كان الفرات يمرّ بدير الزور دون وجل، وكانت طيور القطا تفرش حنينها على الحقول وعلى انسياب ماء النهر، فكيف تسنى لك هجر كل هذا اللغط الممض والرحيل وحيداُ إلى عتبات سماء بعيدة، كأنني أشهد الآن كيف همس لي شقيقك باسم في قبو بيتكم وأنت تقف أمامنا لتنثر ما تكتبه من جميل الكلام.

سألتك آنذاك ما الشعر يا فتى؟ تلجلج الجواب بين شفتيك ثم قلت لي الشعر هو سماء الروح.

لكني لم أتخيل في تلك اللحظة أن الحرب وسطوة الجلاد ستطارد أحلامنا فتوزعنا على مناف تشبه الوجع المعتق منذ المذبحة الأولى لحلم التمام الغيب بالغسق. وقبل المذبحة برهط من القحط والتأمل، همست لي قائلاً: هم لا يحبون الفرات. ضحكتُ حزناُ على تلمسك للوجع. ومضيت أفتش عن أصابعك في تلوينات القصيدة فما وجدت غير بكاء حورنا الفراتي، وشيئاً من القهر الدفين، ونزيف جرح لفتى، لا تزال مقلتاه تغزلان قمراً بلون الفجر.

لا تزال ذاكرتي وأنا أزورك في ملاذك في خاصرة الوطن الأخيرة التي يسمونها البوكمال تحتفظ بتجاعيد الوجع في محياك، إذ قلت لي: هل ستنتهي هذه الحرب؟ سأصارحك الآن وأقول لك أني نضحت بكل تفاؤل لدي لأزيل ركام أوجاعك. كانت السجائر تتلاشى دخاناً وعوالم من مذابح حلم رمادي الوجه في رئتيك، كنت أجدك تطارد ذاتك في سحبها الرمادية ثم تنفجر بضحكة جريحة وتقول لي لا فكاك من المذبحة.

كان حلمك بسيطاً نقياً كماء فراتنا، كنت تقول لي بابتسامة غامضة ليتنا نجد السبيل إلى موتنا الأخير على تراب دير الزور. كان الهتاف حين بحت لي بذلك الوجع قد صار عاصفة من الدم المغسل بعجاج الله ورمال باديتنا الأثيرة ذلك العجاج يذكرني بك، وأنت تلملم قصيدتك حين هبت العاصفة.

لا يزال خبر رحيلك غريباً عن دمي الحزين، فلماذا تتركنا وتمضي كفارس ربح الحرب وخسر قلبه.؟. لذا لن أودّعك يا تميم لن أودّعك فالوداع لا رجعة فيه ولا خبر، لذا ستبقى هنا بيننا حكاية نهر لا يموت، أسطورة شعب استطاع رغم جراحه الفادحات أن يكتب على الهواء وعلى ذرات الفجر حرية البلاد. فنم قليلاً أيها الفتى، فلربما داهمنا الوقت، وطارت عصافير الفرح، وقتذاك سأصرخ ملء روحي: أنت يا فتى ابن هذي البلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى