مقالات

تخريب التعليم في زمن البعث الطائفي

د. صابر جيدوري

أكاديمي وباحث سوري.
عرض مقالات الكاتب

 كتب الفيلسوف العربي أحمد نسيم برقاوي على صفحته في الفيس بوك: “إن من أخطر النتائج التي ترتبت على سيطرة السلطة المستبدة, إلغاء التربية الروحية الأخلاقية للإنسان . وحرمان المجتمع من القيم المعشرية. وهذا بدوره أدى إلى سيادة النزعة العدوانية لدى أعداد كبيرة من الأجيال التي ولدت ونشأت في ظل هذا الحرمان. أي إن السلطة العدوانية قد عممت أخلاقها العدوانية”.

  ولو دققنا النظر في التطبيق الحادث لما قاله الفيلسوف البرقاوي، سوف نجد أنه يشكل مساحة واسعة في سياسة التعليم، فالتعليم السوري يعمل جاهدًا من أجل تدعيم النسق السياسي السائد والمحافظة عليه، لأن الاستقرار بالنسبة للسلطة المستبدة خاصية مرغوبة وإيجابية، والتربية هي الوسيلة التي اتخذتها السلطة لإنتاج النزعة العدوانية لدى الأجيال وتغييب القيم المعشرية.

 من هنا يمكن تقرير أن نظام التعليم المختطف بأدواته ومؤسساته وطاقاته البشرية، يُعدّ وسيلة توظفها السلطة المستبدة من أجل تغليب إرادة واحدة لا تسمح بإرادات أخرى تعمل إلى جانبها على خلاف هواها، مما يعني أن المستبد يختطف المبدأ الأساسي الذي يجب أن تقوم عليه فكرة المواطنة ألا وهو, مبدأ حرية الإرادة.

 وفي السياق نفسه عبّر التنويري السوري عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” عن تلك السياسة بقوله: “إن المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، فلا يريد المستبد أن يتصرف فرد بوحي خالص من فكره المجرد، ولا أن يقتنع أحد بفكرة انشرح لها صدره، بل يريد أن يفعل الفعل أو يترك لوجهه لا لوجه الحق، كذلك يطلب السادة وكذلك يصنع العبيد” (الكواكبي، 2006: 41)

 ولعل ما يوجد على هذا المحور القيمي من صدأ بفعل السياسات البعثية القمعية التي مارسها النظام السياسي في سوريا قبل الثورة وبعدها، والتي تقمع كل نزوع نحو الخروج والتمرد على القيم المألوفة، أو محاولة إعادة النظر فيما يُعدّ مبادئ مقدسة، أو مواجهة السياسات القمعية التي تعمل على تشكيل غريزة القطيع في أسوأ أشكالها، هو الذي دفع الفيلسوف البرقاوي إلى التأكيد في مقال له عن (المدرسة والسياسة) على أهمية “دور المدرسة في بناء الإنسان السياسي والاجتماعي والمدني، من أجل خلق الفرد الذي يفكر بعيدًا عن العنف ونفي الآخر، ومن ثم خلق مجتمع سياسي قائم على الحوار والاعتراف بالآخر والفرح بالأمن والعيش في مجتمع خال من العنف”.

 مع التأكيد أن الخطورة لا تكمن في كارثة العنف بحد ذاتها، فالسوريون يمتلكون من الخصائص ما يؤهلهم لتجاوز هذه المحنة، وكل المحن الأخرى لو صلحت إدارتهم وسلطتهم، ولكن الأكثر خطورة من ذلك, هو أن تُخترق وتستهدف منظومة القيم والأخلاق والأعراف والتقاليد, إلى هذا الدرك الأسفل من طبيعة الجرائم والممارسات التي شهدناها على امتداد تراب الوطن.

 إن المستقرئ لواقع المجتمع السوري يدرك هذه الحقيقة بوضوح، فمنذ أن تسلل نظام البعث إلى سدة الحكم، والمجتمع يشهد استبدادًا واضحًا وتدهورًا مرعبًا في العلاقات الإنسانية، وهدمًا منظمًا لمنظومة القيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحرمانًا متعمدًا من المشاركة السياسية، وصولًا إلى تجريد المواطنين من حقوقهم وحرياتهم الأساسية، بل وتسخير بعضهم لأعمال القتل والتدمير كما هو واقع الحال الآن.

 ومع ما لهذه الممارسات من مخاطر ومحاذير وآثار سلبية على تشويه أخلاقية المجتمع السوري ومسيرة تطويره، إلا أن أخطر تلك المخاطر يتمثل في زعزعة دعائم الدولة بوصفها قيمة تاريخية وحضارية وإنسانية. فالحقوق تنتهك، والكرامة تُستلب، والشفافية تتلوث، والمناخ الاجتماعي تنتشر فيه فيروسات المرض.. هذه الكلمات ليست لعبًا باللغة أو عبثًا بالمعاني، وليست دسًّا لمفردات ومفهومات في غير موقعها، وإنما هي تعبير صادق عن واقع مؤلم, ساعد في تكريسه نظام تعليمي مختطف لصالح سلطة مستبدة.

لا شك أن التداعيات التربوية التي أحدثتها سلطة البعث في جسد التربية السورية كثيرة ومتعددة، ولكن يجب ألا يمنعنا هذا من مواجهة الاستبداد المقيت، بجناحيه السياسي والتربوي، باعتبارهما عائقًا أمام تبلور المجتمع المدني الديمقراطي، لأن تأصيل السلوك السياسي المدني، الذي يفترض أن الثوار السوريين يناضلون من أجله، لا يمكن أن يتعزز وينمو إلا في بيئة تتعزز وتنمو فيها الدولة المدنية، وهذا يعني أن السلوك التربوي المدني لا يمكن هو الآخر أن يتعزز وينمو إلا في بيئة مدرسية مدنية، تحتل فيها التربية على حقوق الإنسان والمواطنة مكانة متميزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى