بحوث ودراساتمقالات

دلالة الهداية في تفصيل الكتاب المنزَّل

الحسن محمد ماديك

إن قوله تعالى ﴿قَالَ رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طـه 50] ليعني أن ربّ العالمين قد هَدَى كلّ مخلوق إلى ما جَبَله عليه مما يصلُح لبقائه وحفظ نوعه، وذلك التوفيق الذي فتح به المولودُ فاه ساعة يولد ليمصّ الثّدْي، وذلك التوفيق الذي جعل كل مخلوق على الأرض يسلك سلوكا خاصا لبقائه، وجعل أنثى الطير تهتدي إلى فَقس بيضِها في أجل معلوم لا تضِل عنه ولا تُخطئه هو الهداية من رب العالمين إلى أسباب بقائه.

والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حِيلة تُخَلّصهم من الاستضعاف ولا يعرفون الطريق التي توصلهم إلى حيث يبتغون إذ لا يهتدون إليها.

وتكلّف بنو إسرائيل التقيُّد بأوصاف بقرة بذاتها ليهتدوا إليها فلا تتشابه مع غيرها من البقر.

واختبر سليمان عقلَ ملكة سبإ لِيعلم رأي العين هل ستهتدي إلى معرفة عرشِها رغم ما لـحِقه من التنكير أم سيَلتبس عليها وتضلّ عنه فلا تعرفه.

وإن قوله ﴿اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [يـس 21] ليعني أن النبيين والرسل في الدنيا كأهل الجنة قد هداهم ربهم إلى الطيب من القول وإلى صراط مستقيم فلا يملك أحدُهم لنفسه ضلالا ولا زيْغا كما في قوله ﴿أَمْ يَـخَافُونَ أَنْ يَـحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ [النور 50] ويعني أن رسُلَ الله لا يـحِيفون ولا يـميلون عن الـحق أبدا بما هداهم ربهم ووفّقَهم إذ هداهم ربهم فاهتدوا ومن قبل قد آتاهم حُكما وعلما وجعلهم أئمة يهدون غيرهم من الناس بأمره وإذنه وأوحى إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهداهم في الدنيا إلى الطيب من القول وإلى العمل الصالح فلا يخطئونه ولا يضلون عنه.

وأما هدايتنا نحن العامة فإنما تعني تبيُّنَ ما جاء به النبيون والرسل من الهدى والبينات والإيمان به واتّباعه من غير ضلال عنه إلى ما تهوى الأنفس أو يدعو إليه الشيطان.

إن الكتاب المنزل من عند الله هو هُدًى للناس يهتدون به إلى رضوان الله وإلى أسباب النجاة في الدنيا والآخرة من عذاب الله كما في قوله:

﴿هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران 138]

﴿هَـذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُـدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف 203]

﴿فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [الأنعام 157]

﴿هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْـهُدَى وَدِينِ الْـحَقِّ﴾ [براءة 33][الفتح 28] [الصف 9]

﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْـهُـدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص 57]

﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْـهُـدَى ءَامَنَّا بِهِ﴾ [الجن 13]

﴿وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْـهُدَى﴾ [النجم 23]

﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْـهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا﴾ [الإسراء 94]

وشبهه، ويعني أن الكتاب المنزل على الرسول النبي الأمي صلّى الله عليْه وسلم هو الهدى الذي أرسل به فمن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد نجا ومن اتّبعه فقد اهتدى ولو خالفه الناسُ أجمعون وخالفه التراث أي جميع الاجتهادات والآراء.

وكذلك تنزّل في القرآن الوصف بالهُدَى على الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها من رب العالمين كما في قوله:

﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْـهُدَى﴾ [فصلت 17]

﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْـهُدَى﴾ [طـه 47]

﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بالْـهُدَى مِنْ عِنْدِهِ﴾ [القصص 37]

﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْـهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ [غافر 53]

ويعني أن الناقة والعصا واليد البيضاء وسائر الآيات الخارقة للتخويف والقضاء مع الرسل بها كانت هُدًى يهتدي بها من رآها وحضرها إلى أن أحدا من العالمين لا يقدر على مثلها فإن آمَن واتّبع مَن جاء بها فقد اهتدى وأبصر الهدى وإن أعرض عنها فهو في ضلال مبين لا يُختلف فيه كما استحبّت ثمود العمى فلم يبصروا الناقة الآية المبصرة وهي مبصرة لأنها تجعل من آمن بها على بصيرة من ربه كما في قوله ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَـــؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ﴾ [الإسراء 102] يعني الآيات التسع مع موسى للتخويف والقضاء.

إن تأخر نزول التوراة إلى ما بعد هلاك فرعون ليعني أن الهدى قبلها مع موسى وهارون كما في قوله ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ من قول موسى وهارون هو الآيات الخارقة معهما للتخويف والقضاء إذ جعلا الهدى بدلا من الآيات الخارقة المعجزة من ربه، وقولهما ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ هو من ليّن القول الذي كلِّفا به ليفهم فرعون أنه باتّباعهما إنما يتبع الهدى من ربه، حرصا منهما على أن لا يمنعه الكبر والاستعلاء على من يعتبرهما من رعيّته.

ووقع التكليف من الله باتباع كل من الكتاب المنزل والرسل.

فمن التكليف باتباع الكتاب المنزل قوله تعالى:

﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الأعراف 3]

﴿وَهَـــذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأنعام 155]

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ [البقرة 170] [لقمان 21]

ومن التكليف باتباع الرسل والنبيين قوله:

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾ [مريم 43]

﴿اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [يس 21]

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران 31]

ولقد وقع في تفصيل الكتاب تعدية الهداية باللام مسندا إلى الله وإلى القرآن فقط أي لم يوصف مخلوق كائنا من كان ولو كان من الملائكة أو النبيين أو الرسل بأنه يهدي للحق أو يهدي للصراط بتعدية الهداية باللام وحده، ويعني أن القرآن يهدي للتي هي أقوم وأن الله هو الذي يهدي للحق كما في قوله:

﴿إِنَّ هَــــذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء 9]

﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّنْ يَهْدِي إِلَى الْـحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس 35]

ويعني حرف الإسراء أن القرآن يهدي من تدبّره وعقَله فاتّبعَه للحق مهما تأخر المهتدي بالقرآن عن حياة الرسول به إلى الناس.

ويعني حرف يونس أن الله هو الذي يهدي الرسل والنبيين للحق وأن الرسل والنبيين هم الذين يهدون إلى الحق بتعدية الهداية ب”إلى” وأنهم أحق أن يُتَّبَعوا من شركاء المشركين الذين لا يهدون ولم يتضمن حرف يونس تكليف الناس باتباع الذي يهدي للحق إذ هو الله سبحانه وتعالى وإنما تضمن تكليفَ الناس باتباع الرسول إذ هو الذي يهدي إلى الحق فالمقارنة بين اتِّباع الرسل الذين يهدون إلى الحق وبين شركاء المشركين فافهم.

وكذلك يهدي القرآن إلى الحق وإلى طريق مستقيم وإلى الرشد فلا يخطئ من اهتدى به شيئا من ذلك أبدا كما هو مفصل في القرآن.

وكذلك يهتدي من اتّبع الرسل والنبيين واهتدى بهم إذ يدُلّونه إلى صراط مستقيم أي إلى الكتاب المنزل من عند الله وكذلك دلالة قوله ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ خاتمة الشورى

وأخطر وأكبر مما تقدم ما تضمّنه تفصيلُ الكتاب وبيانُ القرآن من إيقاع الهداية مباشرة على من تقع عليه مجردة من التعدية بالحرف كما في قوله:

﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الصافات 114 ـ 117]

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ [بداية الفتح]

ويعني حرف الصافات أن ربّ العالمين قد أنعم على موسى وهارون نِعَما كثيرة فُصّلت حسب التسلسل الزمني إذ كان أولها المنّ عليهما بأن اصطفاهما للرسالة وثانيها أن نجّاهما وقومَهما بني إسرائيل من الكرب العظيم أي من الاستضعاف وقتل ذكورهم واستحياء إناثهم وثالثها نصرُهم بأن نجّاهم وأغرق عدوهم ورابعها أن آتاهما الكتاب المستبين وهو التوراة وخامسها أن هداهما الصراط المستقيم بغير تعدية ب”اللام” ولا ب”إلى” ويعني أنها منزلة أكبر مما سبقها.

ولقد هدى رب العالمين موسى وهارون الصراط المستقيم بعد أن آتاهما الكتاب كما هو صريح حرف الصافات ووعد رب العالمين محمدا صلّى الله عليه وسلمَ أن يهديَه الصراطَ المستقيم في حرف الفتح في آخر حياته بعد أن آتاه الكتاب ويعني أن موسى وهارون بعد أن آتاهما ربهما التوراة قد منّ عليهما مرة أخرى فجعلهما مُسيّران بالوحي تسييرا في كل شأن وكذلك النبيُّ الأمّيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بعد سورة الفتح لم يفتر عنه الوحي ليجتهد في مسألة أو نازلة بل كان يوحى إليه في كل شأن بالجواب كما في قوله ﴿وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ [المائدة 101]. 

ولا تسلْ عن حاجة الأمّة إلى تبيُّن دلالة قوله تعالى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وشبهه بتعدية الهداية إلى الصراط المستقيم مباشرة، وأنشره لاحقا إن شاء الله.

من موسوعتي “معاني المثاني”

 “معجم معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته”

الـحسَن مـحمد ماديكْ

باحث في تأصيل القراءات والتفسير وفقه المرحلة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جزاك الله خير أخ الحسن محمد على مقالتك الطيبة،والحمدلله الهادي الى سواء السبيل والى سُبل السلام،ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:( الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله-اللهم اجعلنا هداةً مهتدين ولاتجعلنا ضالين ولامضلّين) آمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى