مقالات

البعد اللاأخلاقي وراء الحد من أسلحة الدَّمار الشَّامل

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب

منذ نحو خمسين سنةً ونحن والعالم أجمعه نتابع بقلقٍ المفاوضات الأمريكيَّة السُّوڤيتيَّة للحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل.

بالكاد كانت تمرُّ سنة ٌكاملةٌ من دون جعجعة وسائل الإعلام في مختلف أسقاع الأرض عن التَّفاؤل والتَّشاؤم ببدء جولة مفاوضاتٍ جديدةٍ بَيْنَ الأمريكان والسُّوڤييت للحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل. وما إن تنتهي المفاوضات حَتَّىٰ تنطلق موجة جعجعةٍ عالميَّةٍ جديدةٍ تعليقاً علىٰ خيبات الأمل والرَّجاء في قطبي العالم في الوصول إلىٰ اتفاقية للحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل… وفي بعض الأحيان، أي بَيْنَ كلِّ بضعة جولات، تكون الجعجعة تعبيراً عن الارتياح مما وصل إليه قطبا العالم من توافقٍ أو فيما لو اتفقا علىٰ الحدِّ من انتشار هٰذه الأسلحة بنسبة 3% سنويًّا أو كلَّ بضعة سنوات أو رُبَّما تكون النِّسبة أقل 3% بكثير وكثيرٍ جدًّا… ولٰكن محض الإعلان عن توافق واتفاق علىٰ هٰذه النسبة الضئيلة جدًّا جدًّا كان العالم يتهج ابتهاجاً وكأنه في عيد.

الطَّريف العجيب أنَّهُ ما إن تمضي شهورٌ علىٰ هٰذا الاتفاق حَتَّىٰ يتم نقضه من هٰذا الطَّرف أو ذاك وغالباً ما يكون الانقضاض علىٰ الاتفاق من قبل الولايات المتحدة الأمريكيَّة… تحت أيِّ ذريعةٍ، وليس من المهم أن تكون الذَّريعة كافيةً لنقضِّ الاتفاق أو غير كافيةٍ… علىٰ أيِّ حالٍ مهما كانت الذَّريعة كافيةً أو غير كافيةٍ فإنَّهَا كانت تجد دائماً ما يكفي من المصفقين والمهللين من طرف حواريي أمريكا، وما يكفي من الإدانة والشَّجب من قبل حواريي السوڤييت.

ويدخل العالم بعد ذٰلكَ في نفق التَّكهنات وترقُّب جولةٍ جديدةٍ من مفاوضات الحدِّ من انتشار الأسلحة النَّوويَّة وتارة أسلحة الدَّمار الشَّامل وتارة أُخْرَىٰ الصَّواريخ العابرة للقارات وهلمَّ جرًّا من هٰذه العبارات.

كانت النَّاس تتابع بشغفٍ هٰذه الجولات وتترقبها بجدِّيَّةٍ وأملٍ وليس من باب رفع العتب أو الاعتياد. أبداً ما كانت النَّاس كذٰلكَ، علىٰ الأقلِّ المهتمون والمتابعون. لقد كان إلقاء قنبلتين نوويتين علىٰ هيروشيما وناغازاكي ناقوس الخطر الذي ظلَّ يطنُّ ويصفر ويرنُّ في أذهان المهتمين… لقد أدرك العالم حقيقةً خطورة عبارة أسلحة الدَّمار الشَّامل. بل إنَّ الشُّعور بالخطر بدأ يتصاعد أكثر وأكثر مع تتالي أخبار تطورات الصِّناعة النَّوويَّة والأسلحة النَّوويَّة والهيدروجينيَّة والارتجاجية وغيرها… الأمر الذي زاد في حماسة النَّاس في ترقُّب نتائج طيِّبةً من مفاوضات الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل للحصول علىٰ فسحةٍ من الشُّعور بالأمان من الجنون مرَّةً ثانيةً باستخدام هٰذا السِّلاح في مكانٍ لا نعرف أين سيكون.

رُبَّما كان يشعر الأوروبيون بالخطر أكثر من غيرهم كونهم بَيْنَ جبهتي الصراع؛ الأمريكان والسُّوڤييت. هكذا كان يوحى إلينا، وقد عايشنا مشاعر الأوربيين وعشناها وتأكدنا من أنَّهُم يشعرون أنَّهُم بَيْنَ قطبي رحىٰ المعركة وأنَّهُم أكثر المتضرِّرين من أيِّ معركةٍ ستنشب بَيْنَ قطبي العالم في ذٰلكَ الحين. المواطنون هم الذين كانون يشعرون هٰذا الشُّعور، ولا ندري هل كانت جواكر السِّياسة في الكواليس تشعر هٰذا الشُّعور أم أنَّهَا كانت مطمئنة. يبدو لي أنَّهُم كانوا مطمئنين، أقول ذٰلكَ بناء علىٰ جملةٍ من الاستقراءات التَّاريخيَّة. قد أكون مخطئاً في استقراءاتي فلا أجزم، ولٰكنٍّي لا أظن أنِّي مخطئٌ، لا أظنُّ فلا أجزم أيضاً.

علىٰ أيِّ حالٍ، ليس الأوروبيون وحدهم من كانوا يؤجِّج جعجعة الأماني والآمال والتَّفاؤل والتَّشاؤم والتَّرقُّب والتَّعليق علىٰ بدء هٰذه المفاوضات وانتهائها، كلُّ العالم كان يشارك في هٰذه الجعجعة بغريزة القطيع. كنَّا في الشرق نشعر بأنَّنا عصفورٌ كسير الجناح مبلولٌ وسط حومة الصِّراع بَيْنَ دبَّين ضخمين لا يرحمان، وأننا لا حول لنا أبداً ولا قوة إلا أن نتفاءل بأن يتفق السوڤييت والأمريكان علىٰ الوصول إلىٰ نقطة الاتفاق علىٰ إخلاء الأرض من أسلحة الدَّمار الشَّامل.

لا أخفيكم هنا أنَّنا في الشَّرق بتنا في تلك الأيام مغرمين بالقتال بالسِّيوف والسَّكاكين، وبعض المساطيل زاد غرمهم بذۤلكَ، لأمريين:

أولهما هروبنا من مواجهة الواقع، بدل أن نسعى للتَّسلح رحنا ندعو الله أن تزول أسلحة الدَّمار الشَّامل لأننا بارعون في استخدام السِّيوف أكثر من الطَّائرات والدَّبَّابات…

ثانيهما وهمنا بأنَّنا لأنَّنا انتصرنا علىٰ الدُّنيا بالسِّيوف فإنَّنا سننتصر عليها من جديد بالسِّيوف! وكأنَّ الذي ينتصر هو السَّيف وليس العقل الذي يمسك بالسَّيف. 

واستمرَّت السُّنون تتتالى سنة وراء أُخْرَىٰ ونحن نتابع بقلقٍ وأرقٍ متىٰ ستنطلق جولة مفاوضاتٍ جديدةٌ للحدِّ من أسلحة الدَّمار الشَّامل. ومن جديدٍ كلُّ مرَّة إمَّا موجة إحباطٍ وتأفُّف تجتاح النُّفوس أو هيجان تفاؤلٍ وأملٍ وفرحةٍ باتفاقٍ علىٰ الحدِّ من انتشار الأسلحة بنسبة 1.5% أو بالألف علىٰ مدار عشر سنوات. ولا ندري أصلاً ولا فصلاً ما قيمة هٰذا الـ 1.5% أو رُبَّما بالألف علىٰ مدار السَّنوات العشر. ولٰكنَّنا علىٰ أملٍ تامِّ الأركان بأنَّهُما سيتَّفقان قريباً قريباً علىٰ إخلاء الأرض من أسلحة الدَّمار الشَّامل… ونعود للحرب بالسيوف.

تخيلوا هٰذا الهبل والاستهبال الذاتي؛ نعلِّق الآمال علىٰ أمريكا وروسيا أن تدمِّرا ما تمتلكان من أسلحة الرُّعب والدَّمار الشَّامل وتأتيان لمحاربتنا بالسُّيوف التي لا نملك غيرها إن كانت موجودة أصلاً أو كنا نجيد الإمساك بها… والمضحكُ العجيب أنَّنا نحن أنفسنا والأجيال المقاربة لنا أنفسنا كانت تتوقَّع منذ خمسين سنة أن تخلو الأرض قريباً قريباً من أسلحة الدَّمار الشَّامل، وضع خطين تحت قريباً. إذا كانت سحابة خمسين سنةً قد مضت وما زالنا نتوقع أن يكون ذٰلكَ قريباً، فما هو هٰذا القرب وما هو هٰذا العقل الذي يتعلَّق بمثل هٰذه الآمال؟

تماماً مثلما حدث حين انطلاق مفاوضات السَّلام مع إسرائيل في مدريد عام 1992م، الكلُّ ترقَّب انفتاح العلاقات مع إسرائيل خلال شهرين وما سينجم عن ذٰلكَ من إلغاء الجيش والانتعاش والانتفاش الاقتصادي وغير ذٰلكَ كثير… وها قد مضت سحابة ثلاثين سنة علىٰ ذٰلكَ تقريباً وما زالت المفاوضات في نقطة الصفر. وللتَّوضيح بعد أيَّامٍ من بدء مفاوضات السَّلام تلك نشرت في جريدة الحياة اللندنية وغيرها سلسلة مقالات أقطع فيها بانهيار السَّلام العربي الإسرائيلي ونشرت هٰذه المقالات في كتاب صدر عام 1994م بالعنوان ذاته انهيار أسطورة السلام العربي الإسرائيلي.

المهم في الأمر. انهار الاتحاد السُّوڤيتي تماماً عام 1991م وتصاعدت موجة الضُّغوط العالميَّة علىٰ طرفي الصِّراع تحديداً، ضغوط بربوغندا وليست ضغوطاً شعبيَّة ولا سياسيَّة، إذ شعر الطَّرفان أنَّهُما بحاجةٍ لسد (بوز) النَّاس بما يؤكَّد أنَّ مفاوضات الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل كان مسألةً جدِّيَّة وليس أكذوبةً ولا خدعةً، وطالما أنَّ الصِّراع قد انتهى فلا بُدَّ من اتفاقٍ جدٍّي حاسمٍ لإخلاء الأرض من أسلحة الدَّمار الشَّامل، وليس محض اتِّفاق للحدِّ من انتشارها.

لذٰلكَ ارتفع سقف الجعجعة لاستئناف هٰذه المفاوضات والوصول إلىٰ حلولٍ حاسمةٍ وجديَّةٍ ونهائيَّةٍ في الموضوع، واستجاب الأمريكان والروس لارتفاع حرارة هٰذه المشاعر وعلىٰ مدار نحو عشر سنوات اشتعل العالم وانشغل كثيراً كثيراً بهٰذه المفاوضات.

ولٰكنَّ الذي يدير هٰذه المفاوضات وأخبارها كانوا علىٰ درجةٍ من الذَّكاء تتفوَّق كثيراً علىٰ بلاهة النَّاس ومن يحسبون أنفسهم من النُّخب فرفعوا السُّقوف تارةً وتارةً خفَّضوها وأثلجوا القلوب حيناً وأحياناً أحبطوها حَتَّىٰ أوصلوها إلىٰ نقطة نسيان الموضوع. نعم لقد استطاعوا سحب الموضوع من صدور النَّاس ومن مشاعرهم ومن تطلعاتهم ومن تداولهم وصارت المفاوضات وفكرتها ومضمونها نسياً من منسيًّا.

منذ نحو عشر سنوات ماتت أخبار هٰذه المفاوضات ولم تعد ذات قيمة أصلاً. ومنذ ذٰلكَ الوقت بالكاد نسمع عن خطوةٍ من هٰذا القبيل. هل توقَّف سباق التَّسلُّح حَتَّىٰ تلاشت أخبار المفاوضات علىٰ الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل؟ بل السُّؤال الأكثر أهميَّة هو: ما الذي تغيَّر في الموضوع حَتَّىٰ تراجعت أولوليَّة الوصول إلىٰ اتِّفاقٍ للحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل؟

يبدو لبعض من النُّخب المحلِّلة وغير المحلِّلة أنَّ الأمر تمَّ حسمه لتفرُّد الولايات المتحدة الأمريكيَّة علىٰ الساحة العالمية وما عاد من داعٍ لمثل هٰذه المفاوضات.

تذكَّر بدايةً أنَّ الولايات المتحدة هي التي كانت تقود هٰذا الحوار وهي التي كانت تنادي به وكل ذٰلكَ علىٰ أساسٍ أخلاقيٍّ ونزعةٍ إنسانيَّةٍ وحرصٍ علىٰ البشريَّة… إذن من جهة المبدأ هٰذا وهمٌ، نعم الولايات المتحدة متفرِّدة منذ انهيار الاتحاد السُّوڤيتي وقد أعلنها جورج بوش الأب في عضون أيَّام من انهيار الاتحاد السُّوڤيتي قائلاً: لقد انتصرنا ويجب أن تسود قيمنا، ولٰكن ليس هٰذا هو السَّبب في تقهقر مفاوضات الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل إلىٰ حدِّ التَّلاشي أو شبه التَّلاشي في أحسن الظنون.

منذ بدأت مفاوضات الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل والحدِّ من سباق التَّسلُّح لم يتوقَّف سباق التَّسلُّح والتَّصنيع الحربي لا في أمريكا ولا في روسيا ولا في غيرها، وما تقهقهر الاتحاد السوڤيتي ثمَّ روسيا في سباق التَّسلُّح إلا بسبب التَّردِّي بل الانهيار الاقتصادي، ومع ذٰلكَ بقيت تسير علىٰ قدمٍ وساقٍ في سباق التَّسلُّح، وفي السَّنوات الخمس الأخيرة باتت تفاخر بنشاطها في سباق التَّسلُّح والتَّصنيع الحربي… أمَّا الولايات المتحدة الأمريكيَّة فحدِّث ولا حرج.

إذن ما الذي حدث؟

أين جوهر المشكلة؟

هاهنا يبدأ السُّؤال ويبدأ الجواب.

أين جوهر المشكلة؟

لنعد إلىٰ عنوان المفاوضات: مفاوضات الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل وأيضاً مفاوضات الحدِّ من سباق التَّسلُّح.

ماذا يوحي هٰذان العنوانان كلاهما ما بَيْنَ مستقلٍّ ومرتبطٍ بالآخر؟

هل يتضمَّن أيٌّ منهما مستقلاً أو مرتبطاً بالآخر أيَّ إشارةٍ إلىٰ مضمون المفاوضات والمقصود بها؟

صحيحٌ أنَّ الإعلان عن النَّتائج كان يتضمَّن في بعض الأحيان قيام كلٍّ من الروس والأمريكان بإجراءاتٍ معيَّنةٍ متوافقةٍ مع النَّتائج المعلنة إلا أنَّ ذٰلكَ لا يعني أبداً ولا بحالٍ من الأحوال أنَّ الطَّرفين كانا يتفاوضان علىٰ أن يتخلَّى أيٌّ منهما عن أسلحة الدَّمار الشَّامل التي يمتلكها كلَّها أو بعضها.

الأمريكان والرُّوس لم يكذبوا في العناوين كليهما فهما كانا يتفاوضان فعلاً علىٰ الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل، وعلىٰ الحدِّ من سباق التَّسلح ولٰكن ليس بَيْنَهما بحالٍ من الأحوال. ويمكن تأكيد ذٰلكَ بأدلَّة ٍكثيرةٍ ومؤشِّرات أو قرائن أكثر بكثير:

الدليل الأوَّل والأساسيُّ هو أنَّهُما كلاهما كما أشرنا لم يتوقَّفا عن سباق التَّسلح منذ بدء المفاوضات ولا حَتَّىٰ بعد موت أو تماوت سيرة المفاوضات.

والدَّليل الثَّاني هو بعض المعلومات التي تناهت إليها علىٰ مدار ما سبق من السِّنين المنصرمة بما فيها الأخبار أو القوانين المعلنة ما بَيْنَ قوانين مشرعنةٍ دوليًّا؛ أي تحت سقف الأمم المتحدة، وقوانين ما بَيْنَ معلنةٍ وشبه معلنةٍ تديرها الولايات المتحدة الأمريكيَّة تحت سقف مجموعة السَّبع؛ أي الدُّول الصِّناعيَّة السَّبع.

والدَّليل الثَّالث هو التَّجليَّات العمليَّة والواقعيَّة لتوافقات القطبين ثمَّ القطب الواحد ثمَّ بعودة القطب الروسي ولو شكلاً من بوابة سوريا في السَّنوات الأخيرة، هٰذه التَّجليَّات المتمثلة بمدىٰ المسموح والممنوع علىٰ دول بعينها من تصنيع السِّلاح بل حَتَّىٰ من اقتناء السلاح.

بالضَّرورة فإنَّ الدُّول المسموح لها والممنوع عليها ليست علىٰ درجة واحدةٍ من الألولوية والاهتمام. إنَّهَا علىٰ درجاتٍ بطبيعة المنطق والحال؛ درجة أولىٰ وثانية وثالثة ورابعة وسابعة وعاشرة… كلُّ الدَّرحات موجودةٌ ولا تعجب من ذٰلكَ.

ومن ذٰلكَ علىٰ سبيل المثال أنَّ الدُّول التي تغرِّد خارج السِّرب وتتقدَّم وتتمادىٰ مثل إيران وكوريا فهي لا تفعل ذٰلكَ خارج الإرادة الأمريكيَّة ولا تحديًّا لأمريكا ولا لأنَّ أمريكا غير قادرةٍ عليها، كوريا تفعل ذٰلكَ لأنَّهَا من درجةٍ متأخِّرة في التَّصنيف، وإيران تفعل ذٰلكَ لأنَّها إمَّا خارج التَّصنيف أو لأنَّهَا مثل كوريا في درجةٍ متأخِّرةٍ من التَّصنيف ولٰكنَّ تحت صيغةٍ مختلفةٍ عن كوريا. هناك خطوط حمراء حقيقيَّة علىٰ إيران ولٰكن ليس علىٰ النِّظام الحاكم. مخاوف أمريكا وإسرائيل من التَّسلُّح الإيراني ليست مخاوف من نظام الملالي والأدلَّة علىٰ ذٰلكَ أكثر من أن تحصىٰ. المخاوف الحقيقية هي من امتلاك السِّلاح وحدوث ثورة تطيح بالملالي وتأتي بنظام حكمٍ إسلامي يجد السِّلاح بَيْنَ يديه… ولذٰلك فإنَّ الغرب وعلىٰ رأسه أمريكا يجعلون إيران مهدَّدة بالحرب في أيِّ لحظةٍ لأمرين علىٰ الأقل:

أولهما لتكريس قناعة لدى الشعب الإيراني بوجود مؤاكرة علىٰ غيران ووجوب الالتفاف حولها وتسويغ أي قمع تمارسه السلطة بذريعة المؤامرة.

ثانيهما لتكون الحرب مبرَّرة في أيِّ لحظةٍ يحدث في تغيُّرٌ سياسيٌّ جذريٌّ في إيران، ولإخراج صورة الحرب عن سياقها الحقيقي وتصويرها بأنها ضرورة سياسية ونتيجة طبيعية لتهديدات قديمة. وليس للإطاحة بنظام الملالي بكل تأكيد فالمخابرات الأمريكية والفرنسية هي التي قامت بالثورة الإيرانية وأطاحت بالشاه باعترافات كثيرة لا باعتراف واحد… وكلنا يتابع اليوم تصريحات ترامب أشد أعداء أمريكا التي تقطع بأنَّهُ لا يريد محاربة إيران ولا يريد إسقاط النظام ولا تغييره.

من هٰذه النقطة أنطلق إلىٰ النقطة الثانية. من دول الدَّرجة الأولى الممنوعة منعاً قطعيًّا من التَّسلُّح سوريا ولبنان والأردن ومصر والعراق… بل يمكن القول إنَّ الدول العربيَّة كلها تقريبا ورُبَّما من دون استثناء تخضع لتصنيف الدَّرجة الأولىٰ أي الحظر من الأسلحة اقتناء وتصنيعاً. وما ضخُّ الأسلحة إلىٰ السُّعوديَّة والإمارات إلا غطاء لضخِّ الأموال الخليجية إلىٰ الغرب وعلىٰ رأسه أمريكا وإسرائيل. يقول بعضهم: حَتَّىٰ ما نسمع عنه من صفقات أسلحة لدول الخليج ما هو إلا دفع أموال فقط لمصانع السلاح الغربية من دون الحصول علىٰ السلاح.. وما الإعلان عنها إلا لإيهام شعوبها باستعدادها لمعارك التحرير… خمس سنوات ودول الخليج علىٰ رغم كونها أكبر مستورد للسِّلاح في العالم من كلِّ العالم فإنَّهَا عاجزةٌ عن وضع حدٍّ لخمسة آلاف مقاتل في اليمن… علىٰ افتراض أنَّها تريد ذٰلكَ فعلاً.

السِّلاح الذي يستورده الخليج مبرمج وخاضع لبرامج أمريكيَّة وكفى بذۤلكَ توضيحاً. أمَّا دول الطَّوق فلنقف عند سوريا مثالاً. آخر سلاح سمح الأمريكان والروس بوصوله إلىٰ سوريا كان خلال السنتين اللتين استلم فيهما يوري أندروبوف السلطة وقيل إِنَّهُ تمَّ قتله بسبب هٰذا التَّجاوز في 9 شباط/ فبراير عام 1984م، علىٰ أيِّ حالٍ كان عمره 70 سنة عندما مات. ومنذ ذٰلكَ الحين كلُّ البواخر القادمة إلىٰ سوريا تخضع للتَّفتيش من قبل الأمريكان حصراً وأيُّ باخرةٍ فيها ليس السِّلاح وحسب بل أي صناعات متقدِّمة يمكن ولو بأدنى احتمالٍ الاستفادة منها حربيًّا كانت تُصادر.

الطَّريف في الأمر أنَّهُ منذ السَّنة الأولىٰ لاندلاع الثَّورة السُّوريَّة انفتحت مخازن الأسلحة الروسية من كلِّ الأنواع أمام سوريا ومن دون السُّؤال عن التَّكاليف علىٰ الرَّغْمِ من عجز النِّظام عن تسديد أيِّ فاتورة، طبعاً كانت دولتان خليجيتان قد قدمتا للروس شيكات مفتوحة منذ أواخر عام 2011م لهٰذا الشأن، ولم تعد أمريكا تفتش أيَّ باخرةٍ قادمةٍ إلىٰ سوريا مهما كانت تحمل علىٰ الرَّغْمِ من قوانين الحظر التي فرضت علىٰ سوريا بعد الثُّورة.

تخيَّل معي الآن: قبل الثَّورة لم تكن سوريا محاصرة ولا حظر عليها ومع ذٰلكَ كانت أمريكا تفتش كلَّ البواخر القادمة إليها وتصادر أيَّ شيءٍ له علاقة بالشُّؤون العسكريَّة… وبعد الثَّورة تمَّ فرض الحصار أو الحظر علىٰ سوريا ولم تفتش باخرة واحدة قادمة إلىٰ سوريا.

هٰذه المعادلة كافيةٌ وواضحةٌ لفهم ماذا كان يدور في كواليس مفاوضات الحدِّ من انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل. ما كان يدور في حقيقة الأمر هو التَّوافق واستمرار التَّوافق والتَّنسيق علىٰ الحدود المسموح بها لهذه الدَّولة أو تلك بامتلاك الأسلحة ومستوياتها ودرجاتها وليس علىٰ توقُّف أو تحديد مستوىٰ التَّسلُّح الأمريكي أو حَتَّىٰ الروسي. وكل من يعتقد أو حَتَّىٰ يظنُّ بأنَّ الأمريكان كانوا متحاربين أو حَتَّىٰ مختلفين مع السُّوڤييت ثمَّ الروس منذ الحرب العالميَّة الثَّانية فيصل التَّفرقة بَيْنَ الطَّرفين فهو واهمٌ. نعم هناك صراعٌ علىٰ نفوذ ومناطق نفوذ وقضايا هامشية كثيرة ولٰكنَّ القضايا الكبرىٰ لم تكن موضع خلافٍ أبداً، حسبك أنَّ الاتحاد السُّوڤيتي اعتراف بإسرائيل قبل بريطانيا التي أنشأتها وقبل أمريكا التي احتضنتها. ولا نطيل في التَّفاصيل فهي كثيرةٌ. وبعد ثلثي القرن مما بدا فيه أنَّ روسيا ضدَّ إسرائيل وجدناها معاً في خندقٍ واحدٍ وغرفة عمليات واحدة منذ سنوات في كوميديا تشقُّ الأفواه من الضَّحك.

كلُّ ما كانت تبدو عليه تلك المفاوضات من لباقة وأناقة أخلاقيَّة ونزعة إنسانيَّة إنَّما كانت سموماً تحقن بها الشُّعوب والدُّول لإبقاء شعوبٍ بعينها مجرَّدةٍ من أيِّ قدرةٍ علىٰ الدفاع عن الذَّات ضمن لعبة توازنات خبيثة.

قد يتساءل سَؤُلٌ أو سَئِيلٌ: إذا كانت الأنظمة العربيَّة ومنها دول الطَّوق مطويَّةً في جيب الموساد والسي آي إي فلماذا التَّخوُّف من تسليحها أو منعها التَّسليح؟

الأمر بسيطٌ فالسُّؤال يتضمَّن الإجابة الأولى: طالما هم في جيب الموساد فما حاجتهم إلىٰ السِّلاح؟ يكفيهم ما يكفي لقمع شعوبهم ولن يحتاجوا إلىٰ أكثر من ذٰلكَ.

الجواب الثَّاني هو ما سبق وقلته عن مخاوفهم من تسلح إيران. هم لا يتخوَّفون أبداً من النِّظام القائم ولۤكنَّهُم لا يمكن أن يتركوا الأمر من دون تخمين ما إذا انقلبت السُّلطة في إيران. ماذا سيحدث لو انقلبت السُّلطة في إيران وكانت إيران تمتلك أسلحة استراتيجية؟ والأمر عينه يقال علىٰ مصر علىٰ سبيل المثال: ماذا كان سيحدث لو بقيت الثَّورة المصريَّة منتصرةً؟ وعلىٰ ذٰلكَ فقس. هم حسبوا حساباتهم للثورة في أي دولة عربيَّة منذ عشرات السِّنين؛ تغيَّرت فيها عشرات الرؤساء في أمريكا مثلاً وبقي رئيسٌ واحدٌ في كلِّ دولةٍ عربيَّةٍ منذ ذٰلكَ الحين.

وأختم متسائلاً: ما قيمة كلِّ هٰذه المفاوضات إذا كانت الولايات المتحدة قد استخدمت كل الأسلحة المحرمة دوليًّا في أفغانستان والعراق بما فيها النَّووي الصغير، وحَتَّىٰ القنبلة العملاقة التي جربتها في أفغانستان من سنتين فإنها تساوي القنبلة النَّووية في قوتها التدميرها إلا انها ليست نووية…؟

ما قيمة كلِّ هٰذه المفاوضات إذا كانت أنظمةٌ حاكمةٌ ممنوعةٌ من التَّسلح نظريًّا قد استخدمت أسلحة الدَّمار الشَّامل ضدَّ شعوبها وقامت الدُّول التي تحارب انتشار أسلحة الدَّمار الشَّامل بمكافأة هٰذه الأنظمة؟

أنحتاج بعد ذٰلكَ إلىٰ أدلة للتَّيقُّن من أنَّ كلَّ تلك المفاوضات كانت تنسيقات أمنيَّة سريَّة لضبط دولٍ معينة من التَّسلح ودول اخرى من سقف من التسلح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى