حقوق وحريات

مذكرات “عزيزة جلود” جرح الماضي ينزف من جديد.

عزيزة جلود. تنويه: ينفرد موقع رسالة بوست بنشر مذكرات السيدة عزيزة جلود.

* الحلقة الأولى :


مهما طال ليل الظلم فلا بدّ لخيوط الفجر أن تُشرق من جديد إلى أحرار سوريا و حرائرها , كم مرّة طلب مني أن أكتب قصة حياتي على دفتر أو على صفحات الإنترنت لأنشرها , كان يتملكني الضحك فمن أكون أنا؟ فأنا لست رئيسة جمهورية و لا وزيرةً أمريكية ,و لاعالمةً فضاء كنت أُنهي الحديث معهم بسخرية كانت تزعجهم ولكن الحقيقة ليست كذلك كنت أخجل أن أقول لهم : إنّي أخاف المخابرات أو أن يتعرض بيتي للتفتيش من قبلهم فيعثروا على أوراقي , قد يقول من يقرأ كلماتي : و ما علاقة المخابرات بكِ و أنتِ في هذا العمر ؟!
نعم إنها قصة قديمة و طويلة طويتها بين ثنايا عقلي و حفرتها على صفحات قلبي و لكن بعد تفجر الثورة السورية العظيمة تدفقت ذكرياتي كنبعٍ فيّاض و انسابت على لساني كالنهر الجارف ترافقها دموعي الحارقة گ الّتي كنت أذرفها في قديم الزمان و لكن من أين أبدأ حكايتي ؟
قد ترونها مملة فهي تتكرر كل دقيقة و ثانية في عمر الثورة السورية , إنها حكاية كل سوري حرّ انتفض على الظلم و الإهانة و التهميش إنها حكاية كل امرأةٍ لا تبيع شرفها و كرامتها لهذا الطاغوت الجبّار لو قصصتها عليكم قبل الثورة لقلتم إنّ النظام معه حق لأنّ زوجي حمل عليهم السلاح و من حق الدولة أن تحافظ على نفسها فتخيف الآخرين بنا ! لهذا آثرت الصمت و لكن الآن بعد أن رأيت هذا النظام الذّي يستخدم جميع أصناف القتل و التعذيب بحقكم جميعاً يا أصدقائي و لم يفرق بقصفه بين من كان يطالب بالكرامة و الحريّة سلميًا و من يحمل السلاح , و بين من يؤيده و يحبه و بين من يعارضه , و بين صغير و كبير و بين امرأةٍ شابة ٍ و عجوز و يعتقل الشباب و النساء و الأطفال منكم و يسومكم سوء العذاب فأنا واثقة الآن أنكم ستصدقون ما سأرويه لكم و لكن حتى لا تملّو فسأجعل حكايتي كحكاية ألف ليلة و ليلة إنها حكاية (( 4029)) ليلة و ليلة إهداء إلى شهداء السجون السورية
: كان يا ما كان في قديم الزمان و سالف العصر و الأوان حتى كان تقول شهرزاد : في سابع يوم من أيام اعتقالي و بعد أن انتهى المحققون و المدققون و المساومون في غرف المخابرات العسكرية بحلب قرروا أخذنا إلى أحد السجون لأنه لم يعد وجودنا مناسبًا في غرف التحقيق . لقد كنت أنا و طفلي الذي لم يتجاوز الشهر التاسع مع أخت و أولادها الخمسة و أختٍ ثالثة أقلونا بسياراتهم يرافقنا بعض العناصر – للأمانة لم يضعوا القيود في أيدينا ولا الطمّاشات على أعيننا – وقف رتل سياراتنا أمام باب كبير فتح لنا و من ثم باب آخر و آخر …. حتى وصلنا المكان المطلوب نزلنا من السيارات كان المكان رائعًا فأشجار السرو الخضراء الباسقة تملأ محيط المكان و تتوسطه بركة ماء , كان يشبه البيوت الحلبية القديمة في إحدى الغرف سجلوا أسماءنا و انصرف عناصر الفرع , و استقبلنا السجّانون لقد كان المكان يعبق برائحة التاريخ و أحجاره سوداء ( مثل قلوب حراسه ) يتألف من ممر طويل و عريض على جانبيه أبواب سوداء مغلقة , كان يسوده صمت رهيب مخيف يقطع صمت المكان بكاء طفلي الصغير الذي كان يدوي و كأنه كان يريد أن يُسمع كل سكان الكون بالحياة التي تنتظره فتحوا لنا أحد الأبواب أنا و إحدى الأخوات مع أطفالها , نظرت إلى الجدار المقابل للباب فكان محفورًا عليه الآية الكريمة : وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا
شعرت بقشعريرة باردة تسري في أوصالي , هل الأنامل التي حفرت هذه الآية الكريمة كانت تستشرف الغيب و تعلم أن امرأتين مظلومتين و أطفالهما سيسكنون هذه الزنزانة فحفرها لتملأ أحرف هذه الآية قلوبهن بالصبر و الثبات و الأمل ؟
هل هذه الأنامل التي حفرت الآية الكريمة ما زالت على قيد الحياة ؟ أم نفثت روحها الطاهرة بين تلك الجدران أو غيرها من جدران السجون الكثيرة في بلادنا ؟
استفقت من شرودي على صوت طفلي الذي أبى إلاّ أن يملأ بكاؤه كلّ ركن من أركان السجن و كانت طفلة الأخت التي ترافقني ( وقد أرضعتها بالفرع و أصبحت أخت طفلي بالرضاعة لأنه لم يكن يوجد حليب لها ) تساعده بالبكاء بين فترة و أخرى كان البرد قارسًا جدًا و في سقف الغرفة فتحةٌ سماوية يدخل من خلالها رياح و أعاصير تضرب جدران الغرفة غاضبة مزمجرة تقول : هل يجوز ما يحصل هنا ؟ ستة أطفال أكبرهم لم تبلغ من العمر عشر سنوات يرتجفون من البرد تحت غطاء بطانيةٍ واحدة! تجمعنا بعضًا على بعض فشعرنا ببعض الدفء يسري في أوصالنا و رويداً رويداً خفتت أصوات الأطفال و ذبلت جفونهم فكانوا بين النائم و المستيقظ و هم يحلمون بأنّ الذي يعيشونه حلمًا أو كابوسًا مزعجًا و ليس حقيقة , فمازالوا على هذه الحال حتى غطّوا في نومٍ عميق , أمّا عيوني فمازالت محملقة في تلك الآية المحفورة على الجدار حتى تملّكني النعاس و غططت في نومٍ عميق و نام شهريار السجّان و سكتت شهرزاد عن الكلام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى